مايكل نايتس و فرزين نديمي*
في العاشر من أيلول/سبتمبر، هزّ انفجارٌ قاعدةً لـ «قوات الحشد الشعبي» في محافظة الأنبار العراقية، أدّى إلى مقتل أحد عناصر ميليشيا «الحشد» وإصابةً آخر. وحمّل المتحدثون باسم الميليشيا مسؤولية الضربة لطائرات إسرائيلية بدون طيار قادمة من سوريا. وزعموا أيضاً أنها نُفّذت “من خلال وجود تغطية جوية من قبل الطيران الأمريكي للمنطقة بالإضافة إلى بالون مراقبة كبير تم وضعه بالقرب من المنطقة”، في إشارة إلى طائرة مراقبة جوية أمريكية منتشرة حول قاعدة أمريكية. وفي أعقاب الضربات الجوية الأخرى الأخيرة وإعلان «قوات الحشد الشعبي» في 5 أيلول/سبتمبر عن [تشكيل] قوة جوية جديدة تقوم بمهام دفاعية، يشير الحادث إلى تزايد التذمر الداخلي في العراق من هذه القضية، والمضاعفات المحتملة التي تحملها عمليات كهذه على العلاقات مع واشنطن.
تحديات الدفاع الجوي التي يواجهها العراق
تم تعكير الخطاب العلني والنخبوي في العراق طوال الصيف من خلال سلسلة من التفجيرات التي استهدفت قواعد محلية لـ «قوات الحشد الشعبي»، إلى جانب هجمات على المواكب والمرافق التابعة لجماعات محددة تنشط عند جانبَي الحدود مع سوريا. ففي 19 تموز/يوليو و 20 آب/أغسطس، تم الإبلاغ عن وقوع تفجيرين في مخيّمين تابعين لـ”جماعة خاصة” شيعية مدعومة من إيران تدعى «كتائب حزب الله» المصنّفة على قائمة الإرهاب الأمريكية. وبالمثل، في 25 آب/أغسطس تم تدمير أحد المواكب اللوجستية التابعة للجماعة عند الجانب العراقي من الحدود. ثم وقع انفجارٌ ضخمٌ آخر – حين تم تفجير الذخائر الصاروخية في 12 آب/أغسطس في “معسكر الصقر” جنوب بغداد – مما زاد من توتر الأوضاع.
وألقى العراقيون اللوم على هذه الحوادث على الغارات الجوية الإسرائيلية المشتبه فيها من نوعٍ أو من آخر، مما يسلط الضوء على عجز الحكومة العراقية عن مراقبة نطاقها الجوي والدفاع عنه. وربما تم تنفيذ هذه الضربات من خارج الحدود الدولية بواسطة طائرات أو طائرات بدون طيار بعيدة المدى، أو نُفّذَت من مسافة قريبة بواسطة طائرات صغيرة بدون طيار محمّلة بالمتفجرات أو “انتحارية” – وفي كلتا الحالتين كانت بغداد عاجزةً عن منعها. كما أن طلب المساعدة في هذا الشأن من شريكها الأمريكي ليس بالأمر السهل أيضاً. ولا تشمل مهمة قوات التحالف التي تقودها الولايات المتحدة في العراق الدفاع عن المجال الجوي السيادي، كما أن طلب مساعدة أمريكية لمنع العمليات الأجنبية ضد الجماعات المرتبطة بإيران من شأنه أن يضع واشنطن في موقف حساس بشكل خاص مع حليفها الإسرائيلي. ونتيجة لذلك، قد يبحث العراق عن طرق أخرى لإظهار أنه ليس “منزلاً بلا سقف”.
خلال عهد صدام حسين، طوّر العراق نظام دفاع جوي متكامل وهائل بمساعدة فرنسا والاتحاد السوفياتي. ثم تقلّصت هذه الشبكة بشكل كبير خلال حرب الخليج عام 1991 ولم تنجح في استعادة قوتها أبداً، لكن العراق ما زال يواجه اليوم تحدياً متعدد الجبهات في مجال الدفاع الجوي، وهو:
- إسرائيل: من الغرب، تصر إسرائيل على منع الجماعات الخاصة المدعومة من إيران من استخدام الأراضي العراقية لأي من هذين الغرضين: (1) كممر استراتيجي لإيصال الإمدادات إلى “حزب الله” في لبنان والقوات الإيرانية العازمة على تهديد الحدود الإسرائيلية، أو (2) لاستخدامها كمنصة مباشرة لإطلاق الصواريخ الإيرانية على إسرائيل. وقد تم الحديث في السنوات الأخيرة عن إمكانية استخدام العراق كممر للعمليات الجوية الإسرائيلية ضد البرنامج النووي الإيراني.
- تركيا: إلى الشمال، تنفّذ تركيا ضربات جوية شبه يومية ضد قوات «حزب العمال الكردستاني» المتواجدة على الأراضي العراقية.
- إيران: من الشرق، شنّت إيران مراراً ضربات بالصواريخ والطائرات بدون طيار ضد أهدافٍ تابعة للمعارضة الكردية الإيرانية في شمال العراق وشرق سوريا. ومن المعروف أيضاً أنّ الطائرات الإيرانية عبرت الأجواء العراقية خلال توصيلها الإمدادات العسكرية إلى سوريا ولبنان.
- السعودية: من الجنوب، تعرّضت منشآت النفط السعودية لهجوم نفّذته جماعة «كتائب حزب الله» بواسطة طائرات بدون طيار في 14 أيار/مايو، وقد تقوم المملكة بالانتقام من العراق في حالة تكرار مثل هذه الحوادث.
خيارات بغداد
تتمثل أبرز أولويات الدفاع الجوي في العراق خلال المرحلة المقبلة في منع الضربات الإسرائيلية ومراقبة التحركات الجوية الأمريكية عن كثب لكشف أي علامات تواطؤ. ومن المرجح أن تسعى الحكومة العراقية إلى تحقيق هذه الأهداف عبر تعزيز دفاعاتها الجوية، حتى وإن كان ذلك مجرد استعراضٍ علني تتظاهر فيه بالدفاع عن سيادتها. وإذا قررت بغداد سلوك هذا المسار، فتتوفر لديها مجموعة من الخيارات الدولية تتمثل بما يلي:
- الولايات المتحدة: خلال آب/أغسطس 2013، طلب العراق شراء منظومة دفاع جوي متكاملة أمريكية الصنع بكلفة 2,4 مليار دولار، بهدف نشرها بحلول عام 2020. وتضمنّت هذه الصفقة ثلاث مدفعيات صواريخ أرض-جو من نوع “هوك 21” تحلّق على ارتفاعات متوسطة وذات مدى اشتباك يتراوح بين 35 و56 كلم، بالإضافة إلى أربعين منظومة دفاع جوي من نوع “أفنجر” تستخدم الرشاشات والصواريخ لضرب أهداف من على ارتفاع منخفض يصل إلى 8 كلم كحد أقصى، ورادارات مراقبة متصلة بها، وأنظمة قيادة وتحكم، ومراكز عمليات تحت الأرض، إلى جانب التدريب. ولكن، حتى الآن لم يتم تسليم سوى ثمانية منظومات “أفنجر” بينما لا يزال ما تبقى من الصفقة قيد الانتظار. ومع أن القوات العراقية تسلّمت منذ ذلك الحين العديد من المقاتلات الجديدة من نوع “أف-16 آي كيو”، إلا أن عدم إعطاء الحكومة العراقية أولوية لمسألة الدفاع الجوي خلال الحرب ضد تنظيم «الدولة الإسلامية» وتباطؤ وتيرة المبيعات العسكرية الأمريكية إلى الخارج حالا دون دعم تلك الطائرات بإمكانيات فعالة لرصد التهديدات بالرادارات واعتراضها.
- روسيا: يتلقى العراق المنظومات الروسية بصورة منتظمة منذ عام 2014. ووفقاً لـ “معهد ستوكهولم الدولي لبحوث السلام” طلب العراق عام 2012 ما يلي: 48 منظومة دفاع جوي متنقلة صاروخية- مدفعية من نوع “بانتسير-أس 1” يبلغ نطاق اشتباكها 12 كلم، ومماثلة لمنظومة “أفنجر”، و1200 قذيفة صاروخية خاصة بها، و500 “منظومة دفاع جوي محمولة” من نوع “إيغلا-أس” منها ما يُطلق من الكتف ومنها ما يركَّب على الآليات. لكنّ أي صفقات شراء مستقبلية أخرى من روسيا ستخلّف ثلاث تبعات سلبية على العراق. أولاً، أبدت روسيا تلكؤاً في منح الجهات التي تشتري صواريخ أرض-جو، مثل سوريا، السيطرة الكاملة على مثل هذه المنظومات، كما أنها أخّرت تدريب الطواقم المحلية عليها. ثانياً، حتى منظومات “أس-300” التي تشغّلها طواقم روسية والتي تم نشرها في سوريا لم تردع الضربات الجوية الإسرائيلية ضد القوات الإيرانية المتواجدة هناك. ثالثاً، يستوجب “قانون مكافحة خصوم أمريكا من خلال العقوبات” أن تحدّ واشنطن من تعاونها العسكري مع العراق إذا أقدمت على شراء أسلحة من روسيا. وقد تؤدي العقوبات المترتبة على ذلك إلى الإضرار بالعلاقة الدفاعية الثنائية بين البلدين وإعاقة الدعم الأمريكي للعراق على صعيد مقاتلات “أف-16 أي كيو”، وصواريخ جو-جو، والرادارات، وغيرها من التقنيات الحساسة.
- إيران: بموجب الملحق (ب) من قرار مجلس الأمن رقم 2231، يحظّر بيع الأسلحة الإيرانية بشكل رسمي إلى العراق حتى شهر كانون الثاني/يناير 2021. ومع ذلك، قد تنقل طهران سرّاً منظومات الدفاع الجوي إلى «قوات الحشد الشعبي» الحليفة لها قبل ذلك الحين، تماماً كما سبق لها أن فعلت مع المتمردين الحوثيين في اليمن. وقد تشمل المنظومات المحتملة صواريخ أرض-جو متنقلة تحلّق على ارتفاعات متوسطة على غرار “تلاش” أو “باور-373” أو “خرداد 3” الذي يُزعم أن مداه يتراوح بين 75 و100 كلم وأنه أسقط طائرة استطلاع أمريكية بدون طيار من نوع “أر كيو-4 أ” فوق مضيق هرمز في 20 حزيران/يونيو. وثمة احتمال آخر، وهو أن تقدّم إيران “منظومات دفاع جوي محمولة” متدنية المستوى من نوع “ميثاق” أو أنظمة مرتجلة كـ”بيروز” (النسخة الإيرانية من صاروخ “كورنيت” المضاد للدبابات، مع جهاز تعقب تلقائي يسمح باستخدام دفاع جوي قصير المدى)، أو أجهزة استقبال رادارية افتراضية كتلك التي زوّدتها للحوثيين. ولعل الخطوة الأكثر فعالية هي أن تمّد إيران شركاءها في «الحشد الشعبي» بدعمٍ حربي إلكتروني، مستفيدةً من قدرتها المثبتة على التشويش على أنظمة التحكم في الطائرات الأمريكية بدون طيار. ومنذ بدء الضربات الأخيرة على أهداف تابعة للميليشيا، يناقش القادة الإيرانيون والعراقيون مسألة إجراء تدريبات مشتركة في الدفاع الجوي، والإنتاج المشترك لأنظمة الدفاع والمراقبة ذات الصلة، فضلاً عن تفعيل اتفاقية استخباراتية مبرمة عام 2017 بشأن تشارك البيانات المتعلقة بالحركة الجوية من أجل تحسين إمكانيات رصد “الأعداء المشتركين”.
- دول أخرى: إذا تبيّن للعراق أنّ شراء الأسلحة الروسية أو الإيرانية أمر بالغ الصعوبة، من الممكن أن يقوم بشراء منظومات دفاع جوي من أوروبا أو الصين، على غرار “أستر” أو “أف إم-2000” أو “إتش كيو-22”. فقد سبق للعراق أن اشترى من الصين أربع طائرات مسلحة بدون طيار من نوع “سي إتش-4” في عام 2014، مما يدل على استعداده لتنويع الجهات التي يشتري منها معداته العسكرية.
التداعيات على السياسة الأمريكية
إنّ الاعتقاد السائد لدى الرأي العام العراقي بأن إسرائيل تقف وراء التفجيرات الأخيرة قد وضع واشنطن وبغداد في موقف صعب. فالمسؤولون العراقيون يتعرضون لضغوط للتحرك حتى وإن كانت خطواتهم رمزية إلى حد كبير، في حين أنّ الولايات المتحدة لن تمنع إسرائيل طوعاً من ضرب الجماعات المدعومة من إيران، والتي تنشر الأسلحة المتطورة. وحتى لو تم تسليم أصول الدفاع الجوي التي طلبها العراق من واشنطن عام 2013 بالكامل، فمن غير المرجح أن توقف أي ضربات إسرائيلية في المستقبل، والتي يُفترض أنها قد تَستخدم خلايا سرية محلية أو طائرات بدون طيار يتم إطلاقها محلياً أو مقاتلات الشبح مثل “أف-35“.
لذلك يمكن للمرء أن يتوقع أن يعرب العراق عن اهتمامه بالمنظومات الروسية والإيرانية، وأن يواصل «الحشد الشعبي» طرح الأفكار كفكرة تشكيل جناحه الخاص بالدفاع الجوي. ولكن، على واشنطن ألا تبالغ فوراً في الرد على مثل هذه الاقتراحات. فمن جهة، يُعتبر نشر الدفاعات الجوية المتطورة التي تديرها روسيا بحق خطاً أحمر بالنسبة إلى أعضاء “حلف شمال الأطلسي” الذين يشكلون غالبية قوات التحالف في العراق، ويجب الإعراب عن هذا الخط الأحمر بوضوح، مع التذكير بالأزمة الأخيرة مع تركيا بسبب منظومات “أس-400”. وبالمثل، يجب على واشنطن أن تدرس بعناية ردّ فعلها إذا قدّمت إيران منظومات صواريخ أرض-جو وطواقم عملها للعراق على سبيل الهبة أو الإعارة. ومن شأن التبادل الناتج عن المعلومات الرادارية أن يجعل العراق في الواقع امتداداً لشبكة الدفاع الجوي الإيرانية، وهو سيناريو ينبغي أن يحتاط له المسؤولون الأمريكيون من خلال تصميم مواقف سياسية حتى لا يُؤخَذوا على حين غرة.
من جهة أخرى، يجب أن تتفاعل واشنطن بشكل أكثر حزماً مع الخطوات العراقية التي تنطلق من دوافع سياسية لا ترقى إلى كونها تغيير اللعبة العسكرية. ومن الأمثلة على ذلك توقيع اتفاقيات أمنية خالية من الالتزامات مع روسيا أو إيران، أو التعاون التقني، أو تلَقّي معدات دفاع جوي متدنية المستوى. ففي النهاية، لم تتمكن طهران ولا موسكو من حماية «حزب الله» ونظام الأسد من الضربات الإسرائيلية، ولذلك فإن المساعدة التي تقدّمانها لا تشكل ضماناً لسلامة العناصر الفاعلة السيئة في «قوات الحشد الشعبي» في العراق.
وقد يكون الخيار المفضّل لدى واشنطن هو أن تضبط بغداد الأعمال الميليشياوية المخلة بالاستقرار والتي تستهدفها إسرائيل وفقاً لبعض التقارير – وتحديداً نقل تكنولوجيا الصواريخ والقذائف من إيران، وذلك بهدف تسليمها في بعض الحالات إلى سوريا ولبنان. وتحقيقاً لهذه الغاية، يجب أن يبذل المسؤولون الأمريكيون مجهوداً أكبر في سدّ الثغرة بين الضرورات الأمنية الإسرائيلية والمخاوف العراقية. وقد واجهت الأردن المجاورة وضعاً مماثلاً منذ عقود، وتمكنت تدريجياً من تحقيق نوع من الحياد من خلال منع المتشددين المسلحين والحكومات الأجنبية من استخدام أراضيها لمهاجمة إسرائيل. يجب على واشنطن أن تساعد العراق في العمل نحو نفس هذا النوع من السيادة.
على سبيل المثال، يمكن لإدارة ترامب أن تكلّف مسؤولاً رفيع المستوى بإيصال مخاوف إسرائيل الاستراتيجية إلى القيادات العراقية بهدوء ودقة، ومن بينها المعلومات الاستخباراتية التي تساعد هؤلاء على وضع حد للأعمال المحظورة. وإذا أبدى العراق تجاوبه في منع المزيد من الانتهاكات الإيرانية، يمكن لإسرائيل حينئذ أن تمتنع عن تنفيذ ضربات مستقبلية. وإذا عجز العراق عن الاستجابة أو أساء استخدام المعلومات الاستخباراتية المقدمة، فستكون واشنطن على الأقل قد اضطلعت بمسؤوليتها عن الوساطة بين شركائها، تاركة بغداد تعيش مع عواقب خياراتها.
مايكل نايتس هو زميل “ليفر” في معهد واشنطن ويقوم بزيارة العراق بانتظام لإجراء مقابلات مع صناع السياسة في الشؤون الدفاعية. فرزين نديمي هو زميل مشارك في معهد واشنطن، ومتخصص في شؤون الأمن والدفاع المتعلقة بإيران ومنطقة الخليج.
والمقال عن موقع “معهد واشنطن”.