احمد فاتح محمد
منذ اللحظة الأولى لتأسيس الدولة العراقية الحديثة أي قُبَيل 102 سنة من الآن كان مصير كركوك الثَّرية بالذهب الأسود والى اليوم هو الحكم بواسطة الحديد والنار ولغة “العين الحمرة”! لم تجنِّ كركوك ولا أهلها شيئاً من أرضها الخصبة وترابها المنتج سوى الويل والقهر شأنها شأن ما تجوفها من مواردٍ التي هي أيضاً لم تجد لنفسها طريقاً سوى الهدر والسلب. أبتُليت هذه المدينة ومنذ العهد الملكي بلعنة الخطابين القومي والطائفي اللذان قد تسببا في اختلال نسيجها المجتمعي وسلمها الأهلي على مدار الأعوام والسنين. طبيعة كركوك التاريخية وتكوينها الإنساني دفعا المُشَرِّع العراقي في العام 2005 كي يتفطن لها ويذهب إلى اختيار “المناطق المتنازع عليها” تسميةً وهويةً دستورية لها بدلاً من إضفاء صبغة قومية أحادية عليها تجنباً لما يثيرها الاحتكار الهوياتي هذا من شجون وحسَّاسيَّة.
ينظر التركمان الى كركوك نظرة موطن الأم الوجودي كما نعتبرها ونسميها نحنُ الكرد في بعض أدبياتنا السياسية “قدسنا وقلبنا وشمسنا التي لا تغيب” في حين يعتبرها العرب عمقاً من أعماق العروبة. لم تدر الأيديولوجيات القومية والطائفية المحتقنة منذ قديم الزمان والى اليوم على كركوك وأهلها بأية فائدة تذكر بل إنها أسهمت في اخلال توازنها وتناسقها الديمغرافي باستمرار. الحقيقة التاريخية المرة تقول: لم ينكفئ مكوناً من المكونات الثلاثة هذه ولم يدخر جهداً منذ العهد العثماني ومروراً ببدايات تأسيس الدولة العراقية الحديثة وخطفاً على العهد الجمهوري بأوجهه الثلاثة وصولاً الى اليوم في سبيل دحر المكون الآخر والاجهاد في سبيل طمس هويته في المدينة ويأتي كل ذلك على اختلاف القساوة المُتَّبَعة نظراً الى تباين القُدرات!
لحُسن الحظ أن محاولات التهميش في ظل سياسة الطمس المتواصلة كلها باءت بالفشل في المحصلة النهائية ولكنها خلفت وبالتأكيد أضراراً لحقتها بالمدينة وتكوينها البشري مما تسببت تدريجياً بتراجع مخيف في مستويات النمو والازدهار كما أنها تسببت بارتفاعٍ مهول في مستويات البطالة والفقر والتقهقر. نعم لدى كركوك من الناحية الجغرافية وبحكم جبر التأريخ جذوراً كرديةً ضاربة ولكن حتى هذه الحقيقة ليست من شأنها أن تشرعن لاحتكار هويَّاتيٍ من هذا النوع؛ فإن الاختلاف في الهوية السكانية لأمر طبيعي وهو لا يُرقى الى مستوى يكون فيه اضفاء طابعي قومي أحادي على مدينة كهذه أمراً مشروعاً وذلك لشدة خطورته وفرط حساسيته التي قد تجعل من هذه الرقعة الجغرافية برميلاً من الديناميت ليس بينه وبين الانفجار سوى عودُ كبريتٍ واحد.
إن تهافت الناس في مختلف الصنوف والقوميات الى الالتحاق بصفوف تنظيم ماضوي قاتم السواد كتنظيم “د١عش” الذي أتانا وهو يحمل راية الخلافة يقتــ*ــل باسمها ويـــذبـــ*ــح عند لحظة اقترابه من أطراف كركوك لهو المفارقة التي يتعين علينا جميعاً وفي مقدمتنا أهل كركوك الالتفات إليها، لكي تكون اللحظة تلك درساً من دروس التاريخ لهم يعينهم في قادم الأيام والسنوات ويمنعهم من الانجرار خلف الفِتَن الأيديولوجية والانخداع بها من جد وجديد، ولكي لا يذهب الناس مرة أخرى بعامَّته وغاغته ضحية لها!
يفترض أن يكون التعاطي مع كركوك وطبيعتها تعاطياً فريداً من نوعه متحلياً بالحكمة والتأني وذلك في سبيل قطع دابر الفتنة التي تتعشعش اليوم في بقعة مستعدة لكي تتحول بين عشية وضحاها الى ناغورنو كاراباخ أو كشمير أو قبرص أخرى في المنطقة. وعليه يتعين علينا هنا أخذ حقيقة ملموسة بعين الاعتبار ألا وهي: يساهم وبقوة انعدام الاستقرار في ظل دولة عراقية قلقة ومضطربة وإدارة كردية بائسة في وصول الأوضاع في كركوك إلى ما نحذر منه ومن وقوعه باستمرار.
قد تكون من ضمن التغييرات الإقليمية والدولية التي سوف تطرأ مستقبلاً على المنطقة هي إعادة إنتاج تجربة كالتي حصلت في قبرص، وأنا هنا استنتج ذلك بعد تمحيص وتدقيق النظر في الدفوعات السياسية والنظرية التي طرحتها وتطرحها تركيا باستمرار عن الطبيعة الديمغرافية في المدينة بالاضافة الى الاراء والدفوعات العربية المشابهة حول نفس القضية والتي هي من شأنها أن تتسبب بازمة اقليمية ودولية جسيمة. هنا يتعين على الكرد نفسه أن يبذل قصارى جهده في سبيل الحفاظ على التناسق المجتمعي متماسكاً وقوياً؛ التناسق الذي يكون في تماسكه وقوته كل الخير له ولبقية أبناء المدينة والصالح العام عموماً.