ياسين أقطاي*
كنا قد قلنا إن القدور في منطقة الخليج العربي تغلي من أجل إيران، لكن ليس من الواضح من سيسلق في هذه القدور حقا. ذلك أن القدور التي غلت مرات عديدة في السابق من أجل إيران في الظاهر راح ضحيتها الشعب الأفغاني أو العراق أو صدام حسين أو الشعب السوري أو اليمني، وكانت إيران هي من ربح في كل هذه المرات.
لا نحسد إيران على مكاسبها، فلتكسب المزيد والمزيد، لكن المحزن في الأمر هو أنه من أجل أن تربح إيران أكثر لا بد وأن يدفع العالم الإسلامي ثمن هذا غاليا. هذا فضلا عن أن مكاسب إيران لا تعود بالنفع أبدا على الشعب الإيراني.
تزيد معاناة الشعب الإيراني وفقره أكثر كلما اكتسبت طهران مزيدا من المواقع في سوريا والعراق ولبنان واليمن بمساعدة كذلك السياسيات الأمريكية، وهو ما يؤدي كذلك إلى ضعف إيران من الناحية السياسية وفقدان قوة التقليد الإسلامي الذي تمثله. وإن الثورة الإسلامية في إيران تتحول بعد نقطة ما إلى شيء تسيطر عليه النخبة الحاكمة التي لا تهتم بشعبها أبدا، لتدفن معها مثل وقيم الثورة الإسلامية.
وكما أشار زميلي الأستاذ إبراهيم قراغول أمس في مقاله إلى الاقتصاد العالمي الذي يقف يعتبر سبب عدم حدوث مواجهة مباشرة بين إيران والولايات المتحدة أو إسرائيل حتى هذه اللحظة. ولا شك أننا لا نريد حدوث صراع بينهم، فيا ليتهم لم يتصارعوا أو يتحاربوا، ويا ليت كان الجميع يهتم بالسلام في الشرق الأوسط حقا ويبذل ما بوسعه من أجل تحقيقه. لكن ما يحدث هو أنهم يتظاهرون وكأنهم يتصارعون، لكنهم يستمدون قواهم بشكل كبير من هذا العداء.
لا نقول إن هناك اتفاقا رسميا أو سريا بينهم. كما لا نقول إن الولايات المتحدة وإيران وإسرائيل روجوا لهذا الصراع الصوري بطريقة تشبه الاتفاق السري الذي شهده مؤتمر يالطا الذي مطلع سنوات الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي. فما نحاول قوله هو أن الحرب الباردة المستمرة بين واشنطن وطهران منذ أربعة عقود لم يستفد منها سوى هذا الثنائي، وما كان نصيب العالم الإسلامي كله إلا الخسارة.
إن السعودية والعراق وسوريا واليمن وأفغانستان هم أبرز من خسروا بسبب هذه الحرب. وهنا نذكر أن أكثر من يخسروا هم الذين يشعرون بالتهديد الإيراني أكثر من اللازم في البداية فيلجؤون للدعم الأمريكي للتصدي لهذا التهديد. ذلك أن واشنطن لا تسارع لنجدة أحد؛ إذ إن الولايات المتحدة لا تبني سياستها على القضاء على التهديدات، بل على استغلالها وإدارة سياستها من خلالها، وهو ما ينطبق على تهديدات داعش وإيران.
يوصل أعضاء الكونغرس من الحزب الجمهوري شكواهم إلى البيت الأبيض بشأن أنهم لا يفهمون سياسة واشنطن تجاه إيران، وأنهم لا يحصلون على أي معلومات في هذا الصدد. وهو ما دفع الأمانة العامة للكونغرس لتعلن في جلسة مجلس الشيوخ يوم الثلاثاء الماضي أن وزير الخارجية مايك بومبيو ورئيس الأركان جوزيف دانفورد ووزير الدفاع باتريك شاناهان سيقدمون معلومات حول هذا الشأن إلى مجلس الشيوخ.
وبالمناسبة فإن كلا من بيرني ساندرز وكريس فان هولن، وهما من أقوى أعضاء الكونغرس، كانا قد أرسلا خطابات تحذر من أن السياسة التي ينتهجها ترامب مؤخرا مع إيران ربما تسفر عن عودة إيران إلى كل المجالات بعد انسحابها من الاتفاق النووي، وهو ما سيزيد من حدة التوترات أكثر من اللازم. أي أن هناك ضغوطا داخلية قوية تشير إلى أن هذا التغير الذي طرأ على السياسة الأمريكية لا يصب في مصلحة واشنطن.
إن هذا يعني أن هناك اعتقادا يشير إلى أن التهديد الأمريكي إزاء إيران يعتبر خطيرا هذه المرة. وثمة معلومات تفيد بأن الولايات المتحدة تستعد لإرسال 120 ألف جندي إلى المنطقة. فإذا كانت هذه القوة العسكرية ستحارب إيران، فيمكننا القول إننا أمام تغير جذري في السياسة الأمريكية. فهل يعني هذا أن هناك تراجعا عن العداء الذي غذى الولايات المتحدة وإيران كثيرا حتى يومنا هذا؟
كيف يريد ترامب أن يتحول إلى بطل بالقضاء في لمح البصر على السياسة المستندة إلى التهديد الإيراني والتي كان أسلافه من رؤساء أمريكا يرون أنها كالفرخة التي تبيض بيضة ذهبية؟ وهل كان عدم إقدام هؤلاء الرؤساء على خطوة كهذه بسبب أنهم “أغبياء” على حد قوله؟
إن هذه الحكاية تذكرنا بحكاية أب مارس مهنة المحاماة لسنوات عديدة قبل أن يتركها ليستريح ويتنازل عن أعماله لصالح ابنه الشاب الذي تخرج حديثا في كلية الحقوق. فالابن يتسلم مقاليد الأعمال بحماس كبير ويبدأ سريعا إنجاز الدعاوى التي تركها والده. وذات يوم جاء إلى والده يزف له بشرى بقوله “والدي العزيز، لقد فزت بالدعوى التي عجزت عن إنجازها منذ 15 عاما”، فيتحسر الأب ويقول “تعتقد أنك ذكي، فهل تعتقد أنني لم أنجز هذه الدعوى لأني عاجز عن ذلك؟ لقد أكلنا خبزا منها على مدار 15 عاما، لكنك جئت لتحرق في غمضة عين المركب التي تزودنا بالخبز”.
نحن اليوم أمام رئيس أمريكي يعتقد أن كل قبله في المنصب “أغبياء”، فترامب وقع نصب عينيه القضاء على التهديد الإيراني، تلك الدعوى التي أكل من ورائها الرؤساء الذين نعتهم بـ”الأغبياء” الخبز على مدار أربعة عقود.
وبالمناسبة فمصطلح “غليان القدر” يعتبر مصطلحا صفويا قديما؛ إذ يروى أن الشاه إسماعيل كان يعدم الأسرى أو من أراد معاقبتهم في القدور التي تغلي مياهها. ولهذا كان أهل المدينة يشعرون بالشغف لمعرفة من سيسلق في مياه القدور التي تغلي مياهها منذ الصبح: من أجل من تغلي القدور؟
واليوم فقد تحولت منطقة الخليج والشرق الأوسط عموما إلى موقد لا يعرف أحد من أجل من تغلى مياهه ليوضع فيها.
*مستشار الرئيس التركيوالمقال عن وكالة أخبار العرب