أعادت التطورات الأخيرة التي شهدتها مدينة كركوك للأذهان من جديد التذكير بحجم التدخلات في الشأن العراقي من بعض دول الجوار أو بعض القوى المؤثرة في المجتمع الدولي، لتؤكد من جديد هشاشة الوضع السياسي واستمرار انعدام الحلول لأزمات مضت عليها عقود.
وتصاعد التوتر في كركوك مطلع الأسبوع الجاري بعد مواجهات عنيفة بين عرب وتركمان من جهة والأكراد من جهة أخرى، على إثر قرار رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني بتسليم مقر العمليات المشتركة في كركوك للحزب الديمقراطي الكردستاني، وأسفرت المواجهات عن مقتل أربعة من المتظاهرين احتجاجاً على إغلاق طريق رئيس يربط المدينة بأربيل من فصائل مسلحة.
ودانت حكومة إقليم كردستان والحزب الديمقراطي الكردستاني الأحداث في كركوك، وطالب الحزب عبر عدد من ممثليه بسحب الجيش العراقي و”الحشد الشعبي” من المدينة باعتبارها جزءاً من إقليم كردستان.
إعادة المبنى إلى الحزب الديمقراطي الكردستاني كانت جزءا من اتفاق «إدارة الدولة» الذي جرى بين محمد شياع السوداني، والقيادة الكردية مقابل موافقتها على رئاسته للحكومة، وكان هذا المبنى واحدا من 32 مقرا آخر. احتفلت الإدارة الكردية بعودة المقر ذي الطابع الرمزي إلى سيادتها بإصدار طابع يحتوي على صورة لتمثال تخليد القوات الكردية (البيشمركه) في كركوك وهو يحمل علم إقليم كردستان وكتب تحت الصورة «كركوك هي كردستان».
باستثناء الحزب الديمقراطي الكردستاني، تملك معظم الأحزاب الكردية الأخرى مقرات في كركوك، وتمارس عملها على نحو طبيعي مع حراس مسلحين. أمّا عن المبنى المقصود وإصرار الحزب الديمقراطي على العودة إليه، فالسبب يكمن في رمزية هذا المقر لدى الكرد في كركوك وخارجها. استعادة الحزب لمقره السابق يُشعر أنصاره وسواهم من الكرد بقوته ويعزز من ثقتهم به، وهو يسعى للحصول عليه والاستفادة منه دعائيا خاصة مع قرب الانتخابات المحلية التي ستجرى نهاية العام الحالي.
وأثار القرار، في المقابل، مظاهر رفض من قبل العشائر العربية والمكوّن التركماني في المدينة، وحسب قول أحد مسؤولي العشائر العربية في المنطقة، فإن عودة المقر للحزب يمكن «أن تخلق توترات» زاعما أنه في الفترة التي كان الحزب مسيطرا «انتشر الظلم والاعتقالات والإساءة لمكونات عريقة».
تشير الاشتباكات، بداية، إلى العلاقات السيئة بين المكوّنات القومية التي يتشكل منها مواطنو المدينة، كما تشير إلى طبيعة المبنى نفسه، الذي يعتبر خارجا عن حدود إقليم كردستان جغرافيا، حيث نصب الرافضون للعودة مخيما أمام المبنى للاحتجاج في الأسبوع الماضي، كما قاموا بقطع الطريق بين اربيل وكركوك.
يتعارض هذا التوجه مع الأساس السياسي الذي يقوم عليه النظام العراقي الحالي، والذي يسمح للأفراد بالانتظام في أحزاب، وللأحزاب بفتح مقرات لها، وإذا كانت «كركوك لجميع العراقيين» كما قالت «الجبهة التركمانية العراقية» فما الداعي للاعتراض على وجود حزبي للحزب الديمقراطي الكردستاني؟ رد المعترضون على هذا كان إن المبنى مقر عسكري خارج حدود إقليم كردستان، وإذا دخلته البيشمركه، فهذا سيعتبر ضما، غير مباشر، لمناطق «متنازع عليها».
شكّلت قضية مرجعية محافظة كركوك العراقية عقدة أي تفاهمات بين حكومة بغداد والأكراد، طيلة تاريخ العراق الحديث، وبعد قانون الحكم الذاتي الذي أقرَّ في 11 مارس/ آذار عام 1974م بين الحكومة المركزية والملا مصطفى البرزاني، هذا القانون الذي ضمن لأكراد العراق حقوقاً دستورية لا يمكن التلاعب بها لاحقاً شملت ثلاث محافظات هي أربيل، والسليمانية، ودهوك، لكن، ولغرض تسهيل الوصول للتوقيع على الاتفاق بين الطرفين، ولصعوبة حسم موضوع كركوك المعقّد أصلاً، فقد تأجل موضوعها إلى فترة لاحقة، لغرض إجراء تعداد سكاني، ومراجعة الإحصاءات التاريخية، لتوضيح نسبة القوميات المتعايشة فيها؛ ذاك أن سكان هذه المحافظة تاريخياً كانوا مزيجاً من الأكراد والتركمان والعرب.
وبعد احتلال العراق عام 2003، وسنّ الدستور الجديد، وضعت كركوك ضمن المادة 140 من هذا الدستور، والتي وسمت بـ “المناطق المتنازع عليها”، وحدد دستور 2005 المادة 140 كحل لمشكلة كركوك وما يسمى المناطق المتنازع عليها بين إقليم كردستان والمحافظات المجاورة له (نينوى وديالى وصلاح الدين).
وتعرف لجنة تنفيذ المادة 140 من دستور جمهورية العراق المناطق المتنازع عليها في العراق بأنها تلك التي تعرضت للتغيير الديمغرافي ولسياسة التعريب على يد نظام صدام حسين، وذلك خلال فترة حكمه من عام 1968 حتى إسقاطه خلال الغزو الأميركي في أبريل/نيسان 2003.
ونصت المادة على آلية تضم ثلاث مراحل: أولاها التطبيع، ويعني علاج التغييرات التي طرأت على التركيبة السكانية في كركوك والمناطق المتنازع عليها في عهد نظام صدام وبعده، والثانية الإحصاء السكاني في تلك المناطق، وآخرها الاستفتاء لتحديد ما يريده سكانها، وذلك قبل 31 ديسمبر/كانون الأول 2007.
يعتبر الأكراد أن المادة 140 هي خريطة الطريق الوحيدة لحل مشكلة كركوك والمناطق المتنازع عليها، وظل قادة إقليم كردستان يطالبون بتطبيقها في مختلف الأوقات، ولكنهم بموازاة ذلك عملوا على فرض الأمر الواقع في تلك المناطق، مستغلين الظروف الصعبة التي يمر بها العراق.
يعترض العرب والتركمان من جهتهم على المادة 140 من الدستور العراقي، وحجتهم أن سقفها الزمني انتهى في ديسمبر/كانون الأول 2007، وبالتالي فهي كما يرون بحاجة إلى تعديل دستوري.
ويتهمون في المقابل الأحزاب الكردية بجلب مئات الآلاف من الأكراد للسكن في تلك المناطق لتغيير هويتها الديمغرافية، ويتخوفون من احتمال ضم محافظة كركوك الغنية بالنفط إلى إقليم كردستان.
بدورها دعت الولايات المتحدة الأميركية إلى الحوار وتفعيل المادة 140 من الدستور العراقي، وقال المتحدث باسم الخارجية الأميركية فيدانت باتيل إن واشنطن على اتصال دائم مع شركائها في بغداد وأربيل في شأن آخر المشكلات حول الموازنة والرواتب وعدم استئناف تصدير نفط كردستان، داعياً جميع الأطراف إلى ضبط النفس واتخاذ كل الإجراءات اللازمة لتهدئة التوترات في كركوك.
لم تكن التطورات التي تشهدها كركوك بعيدة من دول الجوار العراقي وبعض القوى المؤثرة في المجتمع الدولي، إذ أبدت رأيها في هذه الأزمة بتصريحات متعددة وصل بعضها إلى الدعوة إلى تطبيق مواد الدستور العراقي الخاصة بالمناطق المتنازع عليها.
وكان الموقف التركي هو الأكثر وضوحاً، وحمل رسالة للقوى العراقية عن توجهات أنقرة بهذا الخصوص، إذ دعا الرئيس رجب طيب أردوغان إلى الابتعاد عن أية ممارسات من شأنها تغيير التركيبة الديموغرافية لمدينة كركوك العراقية من أجل الحفاظ على السلام في المنطقة.
وقال أردوغان في حديث للصحافيين على متن الطائرة أثناء عودته من زيارة رسمية لمدينة سوتشي الروسية الإثنين الماضي، إن “كركوك هي موطن التركمان ومنطقة تعيش فيها الثقافات المختلفة بسلام منذ مئات السنين ولن نسمح بزعزعة أمنها ووحدة أراضيها”.
وأضاف أن “أي فعل يلحق الضرر بتركيبة مدينة كركوك يعني إلحاق خلل بوحدة العراق”، داعياً وزير خارجيته هاكان فيدان ورئيس جهاز الاستخبارات إبراهيم قالن إلى ضرورة متابعة ملف كركوك عن كثب.
يمكن النظر إلى ما حدث في كركوك باعتباره يمثل «وضعا خاصا» بالمدينة وبالمقر موضوع النزاع، لكن تفحص طريقة تصرف القوات الأمنية، وإعطاء بعض المصداقية لادعاءات قيادة إقليم كردستان، يشيران إلى أن المسألة تتجاوز وضعية كركوك الخاصة، وتتعلق بديناميّات الصراع الداخلية في العراق، وكذلك ببعض دول الإقليم.
القصة لا تبدو في فصلها الأخيرة. فالاشتباك الذي جرى بكل سياقاته، يؤسس لانطباع راسخ في المدينة أنّ شيئا ما سيتطور قبل حسم هذه المعضلة بالقوة أو التسوية السياسية. ويأمل القلقون ألا يتحول التوتر إلى حرب أهلية في كركوك تبدأ منها وتبلغ ألسنة لهيبها كل العراق.