كريم كطافة*
أمريكا التنوع.. الجامعات الراقية أمهات العلوم.. ناسا واكتشاف الفضاء.. نجمات ونجوم هوليوود.. الأخوة والأخوات الوندووز.. الأنترنت.. الفيسبوك.. تويتر.. والأخوات الصغار اللواتي خرجن من هذا الرحم الفايبر، الواتساب، الميمو وقيمر السدة.. اللواتي حولن العالم إلى قرية صغيرة.. همنغواي وأرتال الكتاب والكاتبات الذين جددوا ويجددون في الأدب والفنون.. مارتن لوثر وكفاحه ضد مخلفات العوق الأخلاقي العالمي (التمييز العنصري).. أمريكا الحريات والصحافة القادرة على صنع الرأي العام.. مراكز البحوث والإستطلاع.. صرعات الأزياء التي تقود ذوق العالم.. ماكدونالد.. كنتاكي.. ألعاب الألكترون المهلكة.. وأمريكا حزبي الحمار والثور اللذان يتبادلان قيادة العالم.. امريكا المكان الوحيد الذي تجد فيه كل أعراق وقوميات وأديان ومذاهب وأيديولوجيات العالم متسالمة كلٌّ وشأنه.. أمريكا التشكيل المستقبلي للمجتمع العالمي.. لكنها أيضاً أمريكا القنبلة الذرية وأسلحة الدمار الشامل القادرة على إبادة الحياة على سطح هذا الكوكب مرات عديدة… مافيات المخدرات.. عصابات الجريمة.. لوبيات تتبادل مصائر العالم مثل لعبة كرة قدم.. الأف بي آي.. السي أي أي.. أمريكا التي أوجدت أبشع وباء ديني في العصر الحديث (القاعدة وأخواتها).. أمريكا الحامية لأنظمة ثيوقراطية أكل عليها الزمن وشرب وتمارس كل أشكال العوق الإنساني.. أمريكا الحروب الكثيرة.. وأخيراً أمريكا ترامب صاحب مقولة (أدفع تسلم).. أمريكا بلوة..
ولسوء حظي اصطدمت مؤخراً من بين كل هذه الوجوه بالوجه العابس المتجهم الذي لا يمزح أبداً (وجه الأمن)..
حدث أن تلقيت دعوة كريمة من (الجمعية العربية الأمريكية الثقافية) في مدينة هيوستن- ولاية تكساس، لإحياء أمسية حول روايتي الأخيرة (قرابين الظهيرة). وسبب الدعوة أن البروفيسور الصديق (عزيز الشيباني) وهو رئيس الجمعية، كان قد قرأ كل أعمالي وهو معجب بها.. والأروع من هذا والمفرح لي أنه استخدم في محاضرته الأخيرة في مدينة دنهاخ- لاهاي مقاطعاً ووصلات وقفشات من روايتي الأخيرة (قرابين الظهيرة).. والشيباني بروفيسور متخصص ببلاوي الدماغ البشري وله أبحاث يحاول من خلالها المزج بين العلم والفن والأدب.. يعمل على الفصين الأماميين للدماغ وحاصل على استنتاجات ومعلومات علمية مثبتة مخبرياً، تخص الآليات التي يعمل بها الفص الأيمن الخاص بالأدب والفن والشعر وكل ما هو رومانسي وواقع متخيل.. والفص الأيسر الخاص بالأعمال والواقع الواقعي.. ووجد في رواية (قرابين الظهيرة) بعض الثيمات الخاصة بالجلاد والضحية وكيف جرى استخدامها داخل الرواية.. كما له أمثلة أخرى تخص شعر وفن مظفر النواب وقاسم الساعدي وعفيفة لعيبي إلى جانب استعاراته من الفن العالمي والأدب العالمي.. الحقيقة الحديث عن أعمال هذه الرجل يحتاج وقفة خاصة. وجاءت الدعوة من الكرم والإحترام بحيث جعلت الرحلة مدفوعة التكاليف بما فيها مصرف جيب معتبر.. الحقيقة كانت دعوة يحلم بها أي كاتب، خصوصاً إذا كان مغموراً مثل حالي. فرحت بالدعوة. وأعددت العدة للحصول على الفيزا. ولأني غشيم في مثل هذه التفاصيل، سألت مضيفي ببراءة؛ ياترى أني أملك الجواز الهولندي وأظنه لا يحتاج إلى فيزا لأمريكا. قال لي: اسأل السفارة والأصدقاء أصحاب التجربة. وعملت بنصيحته على الطرفين. بدأت بالفيزا. وظهر أن الحصول على الفيزا الأمريكية يمر بمرحلتين للبشر (العاديين) وبأربع مراحل للبشر (غير العاديين). هذه مصطلحات من عندياتي.. (العادي) هو المواطن الأوربي الأصلي أورجينيل و(غير العادي) هو مواطن كذلك أوربي رسمياً لكنه استنساخ مثل حالي. كانت هناك عدة نماذج لطلب الفيزا.. لكن النموذج الذي دلوني عليه مكون من أربعين صفحة على النت.. فيه أسئلة كفيلة بنبش رفات جد جدي.. تبدأ بالعنوان والتلفون والإيميل وصفحة الفيسبوك، المدرسة الأولى، المدرسة الأخيرة، رب العمل الأخير، العمل الحالي.. بلد الولادة.. بلد الأب والأم.. العقيدة الدينية.. المذهب.. الاهتمامات السياسية.. الإعلامية.. المواهب الهوايات..وغيرها وغيرها الكثير.. وكل صفحة تنهيها تغلق ويرسلوا لك شيفرة على تلفونك تفتح بها الصفحة الجديدة.. وبعد كل هذه الدراما ستصل إلى ملاحظة أسفل الصفحة الأخيرة تخبرك إن كان بلد الولادة لك أو للأب والأم أحد البلدان التالية فأنك قد لا تحصل على الفيزا.. وهذه البلدان هي الخماسي المرح المعروف (العراق، إيران، سوريا، ليبيا، اليمن).. ستتجاوز هذه الملاحظة لأنك سمعت أن وزارة الخارجية الأمريكية أعفت العراقيين من هذا المنع.. كل هذا هو المرحلة الأولى أما الثانية فهي (الأعوص) ستكون مقابلة داخل كواليس السفارة، سيلتقي بك محققون متخصصون.. يعيدون عليك كل المعلومات المسجلة وإياك أن تنسى شيئاً مما كتبته أو تثرثر بما لم يسألوك عنه.. وأنا لا يمكنني إلا أن اثرثر.. لأني مشترك بكل بلاوي بلدي.. من المعارضة السلمية لنظام صدام إلى الحرب العراقية الإيرانية إلى الكفاح المسلح في كوردستان ضد نظام صدام إلى كواليس التهريب والتزوير وووو إلى الاشتراك في كل النشاطات المعارضة لأمريكا قديماً وحديثاً.. ولو افترضنا أنك نجحت في هذا الإمتحان التحريري وأخذت الفيزا (الحديث ما زال لأصحاب التجربة الذين زودوني بالمعلومات).. فستسمع ملاحظة جميلة: هذا لا يعني أنهم لن يعيدوك من المطار الهولندي وإن كانت بحوزتك الفيزا..! اكتشفت أن امريكا البلد الوحيد الذي لديه فريق تحقيق خاص به داخل مطار سخيبهول الهولندي، مهمته التحقيق مع أمثالي من ذوي الأرومة (الخماسية) في غرفة خاصة داخل المطار.. وهناك ستسمع معلومة أخرى أحلى من الأولى.. أنت حتى لو أطلق سراحك فريق المطار وطرت.. هذا لا يعني أنهم لن يعيدوك من المطار الأمريكي..!
عليه وعلى ضوء هذه الدراما الرائعة التي سمعتها قررت احترام نفسي بنفسي وسحب الطلب وإلغاء المشروع كلياً. كتبت للبروفيسور عزيز الشيباني: يا صديقي أعذرني أني انسحبت من المواجهة.. ولنا أن نلتقي في أي مكان في العالم عدا أمريكا.. لأني الآن في هذا العمر والوضع مستعد براشدي واحد أعترف حتى على جدي (شهيب).. وشهيب هو اسم الدلع لأبو جدي (شهاب) كان معروفاً ماخذ الدنيا عرض بطول وليس أمامه من كبير غير البعير..!
*روائي وكاتب عراقي