لم تكن الحرب، ولن تكون نزهة، أو جولة في التعبير عن الروح الوطنية، بل هي مطحنة دموية للرجال الذين يُقتلون باقسى الطرق وبواسطة احدث تقنيات الابادة، بينما القادة الذين يتنافسون على الالقاب ليحصدوا نياشين النصر الكاذب، يجلسون في قصورهم مستمتعين بالانباء المفجعة التي تصل من جبهات القتال، وبالتالي فان لا احد ينتصر سوى الموت والفواجع. هذا بالضبط ملخص لما اراد ان يقوله الكاتب الالماني إريك ماريا ريمارك، في روايته المناهضة للحروب”كل شيء هادئ على الجبهة الغربية”، All Quiet on the Western Front التي صدرت عام 1929، وحققت انتشارا عالميا واسعا، وهي إحدى أهم الشهادات عن أحداث الحرب العالمية الأولى واهوالها، والتي اعتقدها، ريمارك، بانها ستكون ناقوس الانذار ضد اية حرب قادمة ولتردع القادة المهووسون بالحروب من توريط شعوبهم بمهرجانات الدم.
وأعدت رواية ريمارك هذه، كونها واحدة من أكثر الروايات إزعاجًا لما تحتويه من حقائق مؤلمة عن الحرب العالمية الأولى، لدرجة أن الرايخ الثالث أمر بحرق كل نسخة من الرواية لتشويهها المجهود الحربي الألماني، وتثبيط عزيمة باقي الجنود.
نجاح الرواية دفع المخرج الأميركي من أصل روسي لويس مايلستون على إصدار أول فيلم سينمائي مُقتبس منها في العام التالي مباشرة، 1930، وشكّل الفيلم آنذاك أحد المعالم البارزة في صناعة الأفلام الصوتية الأميركية المبكّرة، وأول ملحمة مذهلة للتحذير من أهوال الحرب.
وعلى العكس ما اعتدناه في الأفلام الحربية، مثل: اطول يوم في التاريخ، او نهاية الرايستراخ، او القيامة الآن، او زهرة عباد الشمس، وغيرها الكثير، التي سلطت الضوء على جانب مُحدد من الحرب، فقد قدم هذا الفيلم على مدى ساعتين ونصف الساعة صورة بانورامية للحرب من جوانبها كافة، واضعًا مذابحها الوحشية نصب عينيه، من خلال تقرير عسكري واقعي وفظيع للمترجم الأسترالي آرثر وين ختمه بقوله “الجبهة الغربية هادئة، لأن كل من فيها موتى”.
فاز الفيلم بجائزتي “أوسكار”، وحقق نجاحًا جماهيريًّا إلى حد الاعتقاد بأنه سيكون رادعًا لأي حرب مستقبلية.
بعد 93 عام من صدور الرواية، يأتي المخرج والكاتب الألماني إدوارد بيرغر ليصنع أول نسخة المانية لفيلم”كل شيء هادئ على الجبهة الغربية”، الالمان انتظروا ما يقرب من قرن لنقل روايتهم الى السينما، حيث صدر الفيلم في 29 سبتمبر 2022، باللغات الالمانية والانجليزية والفرنسية، ومن بطولة: دانيال برول، ألبريشت شوتش وفيليكس كامرير، وسيناريو: إدوارد بيرغر، ليزلي باترسون،و إيان ستوكيل. والفيلم يُعد واحدًا من أضخم إنتاجات “نتفليكس” الذي يعرض على شاشتها الان،عن فئة الأفلام المناهضة للحروب.
المشاهد الاولى للفيلم تستهل بمناظر طبيعية لسماء زرقاء وجبال وغابات أوروبا الغربية الساكنة، ولثعالب مع صغارها، لكن سرعان ما ينتقل بعدها ليصور مشهدًا ضبابيًا كثيفًا، تتوارى خلفه جثث الجنود المتراكمة في إحدى ساحات القتال، ثم ينتقل بنا الى الحياة الطبيعية لشبان المان، طلبة مدرسة ثانوية، مفعمين بالحياة قبل ان يأخذهم الحماس للتطوع للجيش،معتقدين ان الحرب نزهة ورحلة الى فرنسا بعد الانتصار عليها حسب ما صورته لهم الدعاية الكاذبة.
على مدى ساعتين ونصف يروي فيلم ” كل شيء هادئ على الجبهة الغربية” ما حدث لشخصية حقيقية هو الجندي بول يبومر (الممثل النمساوي فيليكس كاميرر)، الفتى الألماني المراهق الذي تنتابه مشاعر وطنية جياشة، أجّجها أستاذ وطني متحمس للغاية، يدعو الشبان الصغار إلى الانخراط في الجيش وإنقاذ الوطن، حتى انه يقوم بتزوير تاريخ ميلاده ليتمكن من الانضمام الى الجيش مع أصدقائه في المدرسة، مُتصورًا أنه سيمضي في رحلة سهلة ومبهجة إلى باريس، من دون أن يخطر في باله أن كابوسًا من الفوضى وإراقة الدماء ينتظره هناك، وأن كل ما تعلموه من ثقافة وتقدم سيتحطّم تحت القصف في الخنادق.
ومنذ البداية يصدمنا المخرج بتوطئة قذرة عن فضاعة الحرب، حيث يتسلّم بويمر زيّه العسكري على عجل، بعد نزعه من جثة جندي ميت، مقاسه أكبر، بعدما أعيد غسله وخياطته، واسم الجندي المقتول ما يزال على ياقة البدلة، وعندما يعترض بويمر على ان هذا ليس اسمه يقوم المسؤول عن تجنيده بنزع الاسم مباشرة، هذه الملاحظة السريعة، والعميقة في آن واحد تقود المتلقي الى قراءة مصير بول وزملائه وبقية المجندين، فهم ذاهبون الى الموت، وستنزع عنهم بدلاتهم وتغسل وترتق وتمنح لمجندين آخرين، هنا البدلات العسكرية اكثر اهمية واكبر قيمة من الجندي، الانسان ذاته.
لن يمضي وقت طويل، قبل أن يرى بويمر، ومن معه على الجبهة، الوجه الحقيقي للحرب، وسرعان ما تتبدد براءته أمام المذابح التي يشهدها، ويُجبر على ارتكابها، مفارقًا الحياة في إحداها بسبب تعنت القيادات العسكرية وطموحها الزائف بالنصر.
يتعمد المخرج بيرغر لاظهار اقسى مشاهد القتل بالاسلحة الفرنسية المتطورة وبالحرب الكيمياوية وحرق الجنود الالمان بواسطة قاذفات اللهب وهم احياء، وبدهسهم بالدبابات الثقيلة وطمرهم في مواضعهم، فهو لم يلجأ كثيرا الى الحوار بقدر تجسيده لروح الرواية التي تهدف لابراز فواجع الحروب، وفي كثير من المشاهد احالتني الى الحرب العراقية الايرانية، وحرب تحرير الكويت حيث دفنوا الجنود العراقيين احياء في مواضعهم الرملية بحفر الباطن، ومن ثم إبادتهم في مفرق صفوان، فالحروب تتشابه في قسوتها وهمجيتها، ويكرر الفيلم تحذيره من ويلات الحروب من دون يأس، من خلال مشاهد تحتوي على مستوى من العنف لا يتصوره عقل، آملًا أن ينجح هذه المرة في مساعدة البشرية في نبذ الحرب والجنوح نحو السلم.
لم يكف الجندي بويمر عن رواية ما يشاهده من اهوال ويبقى مصدوما طوال احداث الفيلم الذي يشير أيضًا إلى أن الجنود الألمان تعرضوا للخداع من قادتهم حين لم تُنقل لهم حقيقة الاضطرابات العسكرية على الجبهة الغربية، كما يوضح اسم الفيلم المأخوذ عن تقرير عسكري حقيقي يصف الجبهة بـ “الهادئة”، ما تسبب بالعديد من حوادث الانتحار والانهيارات النفسية بين صفوف الجنود، وظهور أولى أعراض ما سمي بـ “صدمة القصف”، التي باتت تعرف اليوم باضطرابات ما بعد الصدمة.
وبينما تشتعل المعارك في الجبهات بين الجنود الفرنسيين والألمان، تدير القيادات الفرنسية الالمانية العليا اجتماعات سرية على طاولة حوار يقودها نائب المستشار الألماني ماتياس إرزبيرغر (دانيال برول)، وهو شخصية حقيقية من الحرب العالمية الأولى ، لعبت دورًا محوريًا في عملية السلام مع الفرنسيين. مع انه غير موجود في الرواية فإن المخرج أضافها، في إطار التشويق وإثارة الجمهور المتلهّف إلى دخول الهدنة حيّز التنفيذ، لإنقاذ الشخصيات التي أصبح متعاطفا معها.
ومع أن كاتب الرواية ريمارك ابعد السياسة عن روايته، محاولا التركيز على المعاناة الجسدية والنفسية للجندي خلال المعركة وخارجها، إلا أن فيلم بيرغر يرسم أبعادًا أخرى لتلك الحرب، مشيرًا إلى أنها كانت سببًا رئيسيًا في صعود هتلر والنزعات النازية المتشددة التي اعتبرت الهدنة هزيمة مذلة للألمانيا ومدعاة خجل، فضلًا عما خلفته من صراعات لا زالت تعصف بالاستقرار السياسي حتى يومنا هذا. يقول إدوارد بيرغر في مقابلة له عقب عرض الفيلم: “يأتي الفيلم في توقيت مثالي نظرًا لكل ما يحدث في أوروبا اليوم”. الكارثة الكبرى تتجسد في تسبب أحد الضباط العسكريين الالمان المتشددين، بمنع جنوده المنهكين من العودة إلى المنزل، وجرهم إلى معركة استرداد الشرف قبيل بدء الهدنة بخمس دقائق فقط، متسببًا في مقتل عدد هائل منهم”.
ومع أن معركة اللحظات الأخيرة التي نراها في الفيلم لم توثق تاريخيًا، إلا أن بعض المؤرخين يعتقدون أن تواريخ وفاة العديد من الجنود الألمان قد تعرضت للتلاعب، خاصة أولئك الذين سُجلت وفاتهم في اليوم السابق للهدنة، حتى يتجنب القادة العسكريون غضب ذويهم.
يصور فيلم” كل شيء هادئ على الجبهة الغربية” كيف تتشكل العلاقات الحميمية بين الجنود في ذات الخندق، وكيف تتغلب عواطفهم على غريزتهم في البقاء على قيد الحياة، فيتشاركون الضحكات والطعام الشحيح، وحتى التخيلات عن حياة ما بعد الحرب للحظات قصيرة فقط، تنير كابوسهم القاتم، قبل أن يعودوا إلى الساحات المظلمة مجددًا، حيث يُقتل الرجال فرديًا وجماعيًا بالطعن وبتر الأطراف والدهس بالدبابات، إلى جانب الاختناق بالغاز والحرق، وغيرها من أساليب القتل المروعة. يعرض المخرج مشاهد الموت والتعذيب بوضوح شديد، مؤكدًا ضرورة تصوير العنف لإيصال رسالة الفيلم وتحقيق غايته النهائية.
تصل القصة إلى ذروة الغثيان بعد التوقيع على الهدنة، عندما يضعنا بيرغر أمام الجندي بول، رمز البراءة الواسع العين، المُدَمّر من الرعب الشديد، بوجهه المغطى بقناع مخيف من الدم والوحل، المُخدّر بالجوع والصدمة واليأس، وهو يرى أصدقاءه يُذبحون الواحد تلو الآخر. وعلى الرغم من ذلك، لا يزال يتمسك بشيء واحد، هو محاربة الكراهية التي لم يعد لها معنى.
يتلقى الصدمة من قائده الغاضب لرفض المارشال الفرنسي فرديناند فوش (تيبو دي مونتاليمبيرت) بازدراء منح أي تنازلات للألمان، فيطلب من قواته المُنهكة خوض معركة أخيرة لإنقاذ شرف الوطن، تحت شعار طنان: “ما الجندي بلا الحرب؟ ليقول بول وهو يحتضر :أنا شاب عمري 20 سنة، لكنني لا أعرف عن الحياة سوى اليأس والموت والخوف، والسطحية السخيفة التي تجعلني على هاوية الحزن.
لقد صور بيرغر تلك المرحلة السوداء من تاريخ العالم بدقة شديدة، فيعيد تشكيل الخنادق والممرات وعنابر الإسعاف وحتى حفرة المرحاض التي كانت مكان تجمع للجنود آنذاك، فضلًا عن التقنيات المعاصرة التي يستخدمها في رسم مشاهد المعارك والقتال، مصحوبة بأداء مذهل ونغمة موسيقية مرعبة من المؤلف الموسيقي فولكر بيرتلمان، يتخللها قرع طبول متقطع ينذر بالخطر القريب، مقدمًا إبهارًا بصريًا وسمعيًا رائعا .يكتب بيرغر التاريخ من وجهة نظر “الخاسرين” هذه المرة، معيدًا تمثيل الحرب الدموية، ليخرج باستنتاجات قد تساعدنا على فهم لمَ جرى كل هذا، وربما تجنب أخطار مماثلة قد تواجه البشرية في مسيرتها الطويلة.
لكن كل هذه الاحداث والمشاهد القاسية لم تمنع قيام الحرب العالمية الثانية التي كانت اكثر قسوة من سابقتها، ولم تمنع قيام الحرب العراقية الايرانية التي استمرت ثمان سنوات، ولم تمنع غزو صدام حسين للكويت واشتعال حرب مدمرة اخرى ما يزال العراق يدفع ثمنها، ولم تمنع غزو الولايات المتحدة لافغانستان، ولم تمنع مؤخرا حرب روسيا ضد اوكرانيا.
لقد حظي فيلم” كل شيء هادئ على الجبهة الغربية” الجديد بتقييمات عالية عند عرضه للمرة الأولى في تشرين الأول 2022 على منصة “نتفليكس”، وفاز بعدد من جوائز الأكاديمية البريطانية لفنون السينما والتلفزيون “بافتا” ، وعلى رأسها جائزة أفضل فيلم، بعد ان كان قد اقتنص 14 ترشيحا لجوائز “بافتا”. واعتمدته ألمانيا ليكون الفيلم الرسمي المُمثل لها في مسابقة الأوسكار لهذا العام، وسط أجواء عالمية مشحونة، تكاد تشبه تلك التي كانت سببًا في إطلاق صرخته الأولى.