معد فياض
تحيلنا كارثة زلازل تركيا وسوريا التي وقعت في يوم الاثنين الماضي، 6 شباط 2023، الى كوارث طبيعية حدثت في العالم، مع اختلاف طبيعة الكارثة وحجمها وحجم خسائرها البشرية والمادية، لكن يبقى القاسم المشترك بين هذه الكوارث هو اسلوب وطريقة إدارة الازمة في انقاذ الضحايا والمرحلة اللاحقة في مساعدة الناس، وواحدة من تلك الكوارث الطبيعية هي فيضانات بولندا، او فيضانات اوربا الوسطى التي حدثت عام 1997 وسوء إدارة أزمة هذه الكارثة التي كبدت الكثير من الخسائر، مع انها لا تقارن بخسائر زلازل تركيا وسوريا، وهذا ما يناقشه المسلسل التلفزيوني، البولندي، ” المياه العالية” High Water المستوحى من احداث حقيقية، وليخرج برسالة مهمة للغاية مفادها ان سوء إدارة الأزمة هو من يتسبب بازمات كارثية للغاية وربما تكون اسوء من الكارثة ذاتها.
ومع انه من المبكر الحديث عن سوء ادارة الازمة في كل من تركيا وسوريا، الا ان التقارير المصورة والمكتوبة التي ينقلها مراسلوا شبكة رووداو الاعلامية من ساحات الاحداث ترينا ان هناك عشرات الالاف من الاهالي يسكنون في العراء في ظل ظروف جوية صعبة، بالغم من وصول المساعدات من عشرات الدول حول العالم.
تدور أحداث مسلسل High Water “المياه العالية”، المنتج عام 2022، الذي صاغ السيناريو له جان هولوبيك ، بارتوميج إجناسيوك، عن قصة كاسبر باجوان واخراج جان هولبك والذي يعرض حاليا على شاشة نيتفليكس Netflix، اعتمادا على احداث حقيقية وقعت في بولندا، التي اجتاحتها الفيضانات عام 1997، والتي تعد من أسوأ الكوارث التي واجهها البلد منذ الحرب العالمية الثانية، والتي سميت، ايضا، بفيضان أوروبا الوسطى أو فيضان أودر لحوض نهري أودر ومورافا التي غمرت مساحات من اراضي ومدن بولندا وجمهورية التشيك وألمانيا ، مما أودى بحياة 114 شخصًا وتسبب في أضرار مادية تقدر بنحو 4.5 مليار دولار، حيث بدأت الفيضانات في جمهورية التشيك ، ثم امتدت إلى المانيا وبولندا ، حيث كانت واحدة من أكثر الفيضانات كارثية في تاريخ البلاد.
تبدأ احداث المسلسل الذي تتوزع على ست حلقات، بانشغال مجلس بلدية مدينة “روكلو” البولندية بالاستعدادات لاستقبال بابا الفتيكان واعداد بامج زيارته والشوارع التي سيمر بها، عندما تفاجأهم برقية من عالِمة الهيدرولوجيا جاسمينا أو ياسمين تريمير(أغنيسكا زوليسكا)، التي تقيم مع صديقها في البرية خارج المدينة التي ولدت فيها وماتزال امها مغنية الاوبرا الشهيرة السابقة لينا تريمر(آنا ديمنا) تعيش شبه سجينة بسبب تعرضها للسمنة المفرطة، في شقتها في “روكلو”، تحذرهم فيها بقرب الفيضانات التي ستغرق المدينة وما حولها. يامر نائب رئيس البلدية جاكوب ماركزاك (توماش شوشارت)، حبيب ياسمين السابق، باحضار العالمة الشابة بواسطة الهليكوبتر لمعرفة ما الذي جعلها تتصور وجود فيضان قادم بينما المنطقة تعاني من الجفاف. عندما تدخل ياسمين الى المدينة تلاحظ ملصق دعائي كبير لنائب العمدة المرشح لان يكون هو العمدة، الملصق مثبت على حافة النهر وعلى ارتفاع من منسوب المياه، وسنلاحظ فيما بعد ارتفاع المياه لتغطي الملصق الانتخابي ، وهذه أشارة من كاتب السيناريو على ان برامج المرشح ستغرقها مياه الفيضان قريبا.
قبل ان تدخل ياسمين الى قاعة اجتماع المجلس البلدي تنتبه لوجود مقر محطة تلفزيونية محلية في نفس طابق قاعة الاجتماعات، وسوف نعرف لاحقا اهمية هذه المحطة في تسريب الانباء وتحذير السكان من مخاطر الفيضان الى جانب تقديم خدماتها لبث اعلانات مباشرة عن المفقودين وما يجري في المدينة وخارجها على مدار الساعة.
تشرح ياسمين امام مجلس البلدية او حكومة المقاطعة الحقائق العلمية المتوفرة لديها، وتوضح بان هطول الأمطار كان مرتفعًا جدًا ، حيث بلغ حجمه 300-600 ملم ، وهو ما يتوافق مع متوسط هطول الأمطار لعدة أشهر على مدار أيام قليلة. وارتفاع مستويات المياه بمقدار 2-3 أمتار عن المتوسطات المسجلة سابقًا وكانت عالية جدًا لدرجة أنها تسببت في تدفق المياه فوق أعمدة القياس الحالية. وتقترح خطة لتفجير حافة النهر في الريف خارج المدينة لتتسرب المياه الى المزارع وتنقذ المدينة، لكن استاذ كبير في العمر اسمه جان نوفاك (رومان جانكارجيك)، والذي يتعامل ببوقراطية ويعتمد على معلومات اكل عليها الدهر ويشعر بالاهانة لاستدعاء الشابة ياسمين، حيث يعتبر تحذيراتها مجرد ادعاء سخيف ويسخر منها، ويقنع المجلس بان مياه الفيضانات لن تدخل المدينة وهذا ما يتوافق مع امنياتهم فيصدقوه، ومن هنا يبدأ سوء إدارة ازمة الكارثة إذ لا ياخذون الامر بجدية، لكن ياسمين تواصل وباصرار مراقبة ارتفاع مستوى المياه من جهة، وتبدي قلقها على امها التي لم تزورها منذ سنوات عديدة، وعلى ابنتها كلارا ماركزاك (بلانكا كوت)، 14 عام، والتي تعيش مع والدها، نائب العمدة التي لا تعرف بالضبط من هي امها. تقنع ياسمين امها بصعوبة لنقلها الى الطابق الاعلى من العمارة وتبذلل مع عمال متطوعين لنقلها بواسطة رافعة بحبال ومن ثم البحث عن كلارا التي تضيع وسط المياه المتدفقة وهي تحاول التنزه مع كلبها.
كانت المياه تتدفق بقوة نحو المدينة وهنا ياخذ المجلس البلدي الامور بجدية لكن بعد فوات الاوان، وتتم الموافقة على تفجير جرف النهر في الريف، ويتأكدون ان ياسمين كانت محقة حين توقعت مسار تدهور الوضع في المراحل اللاحقة بعد ان هاجمها الرجال في المجلس طوال الوقت، خاصة بعد ان عقد مجلس البلدية مؤتمرا صحفيا اكدوا فيه عدم تعرض المدينة لمخاطر الفيضان ونصحوا الناس ان يناموا بسلام.
كان يمكن تخفيف تداعيات الفيضان لو سمح سكان بلدة “كيتي” للمسؤولين بتفجير جرف النهر. لكن اهالي القرية لا يثقون بالحكومة وقد تعبوا على ما يبدو من وعودها الفارغة، يكون أندريه ريباتش (إيرينيوس تشوب) الذي كانت ياسمين قد زارت بيته القريب من النهر لتعرف عن طريق الصدفة ان مسكنه الذي بناه الالمان عام 1903 كمحطة للقطارات يقع على مجرى مسقف للنهر، وان ريباتش في مرحلة اعادة اعمار البيت ارضاءا لوالده المتمسك بهذا البيت، والذي يعالج من امراض في القلب بمستشفى المدينة، لذلك يدافع عن القرية ضد محاولة تفجير جرف النهر، وهو الذي يحرّض الناس على التحرك. بينما ما يزال والده في المستشفى الذي سيغمره الفيضان قريباً وسيموت دون ان يعرف ابنه الذي لا يفكّر بهذا الاحتمال، بل يتخذ القرارات الانانية نيابةً عن سكان بلدته، وتُمهّد تصرفاته هذه لمشهدٍ يشعر فيه بالندم والعار حين يضطر لقيادة زورقه الصغير لجلب جثة والده فيما بعد ويلوم نفسه بعدم السماح لقوات الجيش بتفجير الضفة وانقاذ المدينة.
مع مرور الحلقات التي تشد المتلقي الى احداثها، تتوالى مشاهد تدفق المياه بقوة مدمرة. وترتفع مستويات المياه لتجرف الالاف من اكياس الرمل التي تعب السكان بوضعها عند حافة النهر وفي تقاطعات الطرق ، ويعرض المسلسل بعض المؤثرات البصرية والصوتية لاقناع المشاهد بخطورة الاوضاع وبحدوث الفيضان بالفعل، وهنا سيندم اعضاء المجلس البلدي لمدينة روكلو لعدم اصغائهم لمقترحات ياسمين بدلا من الاقتناع لاراء البروفيسور فوفاك الذي سيموت بسكتة قلبية.
لم يركز مسلسل “المياه العالية” على احداث الفيضان وكوارثه، بل يستعرض مسارات متوازية عن قصة حب سابقة لنائب العمدة وياسمين التي اثمرت عن بنت لا تعرف من هي امها وكذلك مشاهد درامية عاطفية لضمان متابعة جذب المشاهدين حتى النهاية. يطبّق المسلسل هذه المقاربة عبر إضافة تعقيدات شخصية إلى حياة ياسمين التي كانت قد تركت والدتها، وحبيبها، وابنتها، منذ وقتٍ طويل وقد عادت الان مجبرة لمساعدة الناس، وتضطر لاخبار ابنتها عن الحقيقة بانها امها وان تركها مع والدها كانت فكرتها ، وتقول”ان تعيشي بلا ام افضل من ان تعيشي مع ام سيئة”، في إشارة الى تصرفاتها السابقة وتعاطيها للمخدرات وقتذاك.
لقد عمد مخرج مسلسل “المياه العالية” على اعتماد ايقاع متسارع لا يصيب المشاهد بالملل، وبابتعاده عن لقطات الاكشن والصراخ، بل عرض الاحداث بهدوء حتى عندما تجرف المياه القوية البنت كلارا وهي تحاول تسلق سلالم النفق قبل ان تجرفها المياه بقوة ونعتقد انها ماتت بفعل الفيضان، ويهرع والدها الى المشرحة بعد ان تذاع اوصافها باعتبارها ميتة، وعندما يصل والدها الى المسلخ الذي تحول الى مشرحة يكتشف انها ليست ابنته التي ستلتقي امها ياسمين عن طريق الصدفة بجانب آخر من المدينة. واضاف المخرج لمسات انسانية بدخول فرقة متطوعين من الجيش الفرنسي لمساعدة الاهالي وتزويدهم بالطعام والمياه، وجزء من هذه الفرقة هم من ينقذون ياسمين وابنتها كلارا من المياه التي كانت تزدحم بالجرذان التي اجبرها الفيضان على هجر جحورها.
بالنسبة إلى مسلسل يتمحور حول كارثة مدمّرة، تبقى الأحداث هادئة أكثر من اللزوم، بالرغم من هروب بعض الحيوانات من حديقة الحيوان، وتسرب انباء عن وجود تمساح في منطقة ما من المدينة، ومنح الاعلام دورا مهما في تحذير الاهالي من الفيضانات عن طريق محطة تلفزيون محلية . لن نشاهد عدداً كبيراً من اللقطات الت تستعرض مشاهد الموت سوى استغاثة السكان وحاجتهم للطعام والماء وان حبهم للحياة وتحديهم للموت وعدم الاستسلام هو الاهم، اذ تتفاجأ ياسمين وكلارا بسماع اصوات غناء وموسيقى في احدى الابنية التي يصلون اليها عن طريق السطح لتكتشفا وجود حفلة عرس وان سكان البناية يحتفلون بهذه المناسبة بفرح غامر.
مسلسل(المياه العالية) يبعث برسالة مهمة مفادها ان سوء إدارة الازمة في الكوارث الطبيعي هي كارثة بحد ذاتها، إذ تسببت التناقضات والخلافات والانانية وعدم المعرفة داخل مجلس بلدية المدينة والاجتهادات الخاطئة للقائد العسكري للمنطقة ورئيس الشرطة والعمدة، بل حتى وزير داخلية بولندا الذي يهمه خسارة المرشح لمنصب العمدة ويهدده بانه سينهي مستقبله السياسي الى فشل ذريع في ادارة الازمة وبالتالي فان الناس هم من يدفعون الثمن.