في الأوقات المضطربة التي نجد أنفسنا فيها اليوم، لا يمكن للسياسة النقدية وحدها التعامل مع احتواء التضخم دون تكاليف كبيرة مجسدة بشكل من أشكال الركود والاضطراب الاجتماعي. وبالتالي يجب أن تتحمل الحكومات الوطنية والمؤسسات الأوروبية مسؤولية أكبر للإشراف على الأسواق الحساسة وتجنب القفزات الباهظة في الأسعار.
يتفق الجميع على أن الارتفاع الأولي للتضخم هذا العام كان مدفوعاً بشكل أساسي بصدمات جانب العرض، ثم فاقم فشل السوق تأثير هذه الصدمات إلى مستويات باهظة، لاسيما أسعار الغاز.
ولا يحتاج المرء إلى أن يكون خبيراً اقتصادياً ليلحظ خطأً في دورة أعمال السوق عندما ارتفع سعر الغاز (معيار TTF) إلى 340 يورو/ميغاواط ساعي في أغسطس/ آب 2022 مقارنة بمتوسط زمن طويل بلغ حوالي 20 يورو، ليعود وينخفض السعر إلى 100 يورو/ ميغاواط ساعي بنهاية أكتوبر/ تشرين الأول الماضي.
هذا النوع من التقلبات لا يمكن تبريره بالعرض والطلب على الغاز، بل هو فشل في هيكلية ولوائح السوق الحالية، ومثال على قوة الاحتكار والمضاربة من قبل بعض اللاعبين. ويمكن قول الشيء نفسه عن أسواق السلع الأخرى، بما في ذلك القمح وزيوت الطعام وغيرها. ووسط كل هذا، بدا أن سوق الطاقة في الاتحاد الأوروبي غير مهيأ لتحمل الاضطرابات الحالية.
لقد استجاب البنك المركزي الأوروبي والبنوك المركزية الأخرى لقفزات الأسعار بتشديد السياسة النقدية، فهذه هي وظيفتهم. ومع ذلك، من المحبط إلى حد ما رؤية المقايضة الصعبة التي تواجهها تلك البنوك في المقابل، كتحمل التضخم أو وضع الاقتصادات في حالة ركود. لذا فإن السياسة النقدية ببساطة ليس لها تأثير كبير في عوامل جانب العرض، وفي النهاية، سيؤدي ارتفاع الأسعار وانخفاض شراء الأصول إلى تهدئة التضخم على حساب الركود الهائل. فهل يمكننا أن نفعل أفضل من ذلك؟
للإجابة عن هذا السؤال يتعين على الحكومات والجهات التنظيمية في الاتحاد الأوروبي التدخل. وقد أظهرت مؤشرات التضخم في فرنسا وإسبانيا، وهما الدولتان الرئيسيتان في الكتلة اللتان وضعتا سقفاً لأسعار الكهرباء، أن هذه طريقة فعالة للجم هذا الشبح. وبالفعل، واعتباراً من أكتوبر 2022، كان لدى الدولتين أدنى معدلات تضخم في منطقة اليورو. بالتأكيد ليس من الضرورة أن يكون السقف موجوداً دائماً، لكن وجوده الآن يساعد في منع الارتفاع الأولي من التحول إلى تضخم واسع النطاق.
توضح قصة سقف أسعار الغاز في الاتحاد الأوروبي مدى صعوبة الاتفاق على سياسات مكافحة التضخم وتنفيذها على مستوى الدول الأعضاء. وكان الاقتراح الأخير الذي ناقشه وزراء الطاقة في 24 تشرين الثاني/ نوفمبر، وهو الحد من تقلبات أسعار الغاز، من أسهل الإجراءات التي حددتها المفوضية الأوروبية للتعامل مع أزمة الطاقة. وفي عملية التفاوض، تم خفض السقف لدرجة كبيرة، وتم تعيين عتبة سعر عالية جداً مع فترة طويلة أيضاً يتم خلالها تحمل السعر الزائد.
وتقول الدول الأعضاء الخمس عشرة التي تطالب بسقف رسمي إنه أمرٌ ضروري للحفاظ على السلام الاجتماعي والاقتصادات في حالة جيدة. في حين تجادل الدول المعارضة لوضع سقف أقصى وهي (ألمانيا والدنمارك وهولندا) بأن هذه الاستراتيجية قد تزيد الاستهلاك وتحول إمدادات الغاز الطبيعي المسال الدولية إلى أماكن أخرى. وعلى الجانب الآخر يوجد تجار الغاز الذين يحذرون من احتمال زعزعة استقرار السوق. وعليه، ليس من المستغرب ألا يتمكن وزراء الطاقة بعد من التوصل إلى اتفاق خلال اجتماعهم.
يشبه التعامل مع «مؤشر أسعار الغاز المحايد» TTF حالة من التدخل التنظيمي على غرار ما حدث خلال الأزمة المالية لعام 2008، عندما انفصلت أسعار الأدوات المالية المتنوعة عن الواقع (الأصول الأساسية). ونظراً للأهمية الاستراتيجية لإمدادات الطاقة، فإن الحجة الداعية إلى تنظيم تداول الغاز والكهرباء أقوى. وتتوقع المفوضية الأوروبية أن يساعد إعادة التوازن بين سوق الغاز وتوسيع قدرات الربط البيني في تقليل فروق الأسعار بين معيار TTF والمؤشرات الأخرى.
في الأثناء، من المتوقع أن يبدأ تشغيل مؤشر جديد لأسعار الغاز في الاتحاد الأوروبي في ربيع عام 2023. وفي غضون ذلك، يعد وضع سقف لتقلبات أسعار مؤشر الغاز المحايد أحد أسرع الحلول وأسهلها لتجنب سلوك الأسعار غير الطبيعي.
عند التعامل مع هذه المشكلة خصوصاً في هذه الأوقات، يجب على الاتحاد الأوروبي أن يضع في اعتباره أن بيئتنا قد تغيرت، وأن طريقة عمل الأمس قد لا تكون كافية. ونحن نجد أنفسنا في فترة من التقلب الشديد وعدم اليقين، وقد يكون هناك العديد من الاضطرابات في أشكال مختلفة، على رأسها الطاقة والغذاء.
ولا بد من التذكير بأن الأسواق عادة ما تكون غير فعالة في ظروف الحرب أو الأوبئة أو غيرها من أحداث المؤسفة، مما يعني أنه إذا لم تتدخل الحكومات، فسنواجه تقلباً كبيراً في الأسعار. وفي هذه الحالة، الشيء الوحيد الذي يمكن للبنوك المركزية فعله هو تشديد السياسة النقدية، الأمر الذي يحكم على أوروبا ككل بركود طويل الأمد.
وللخروج من هذه الأزمة، يتعين على الاتحاد الأوروبي والحكومات الوطنية تحمل نصيب من المسؤولية لاحتواء التضخم. على المدى القصير، يعني هذا الحد من تقلب الأسعار، وعلى المدى الطويل، يعني هذا أيضاً إصلاح الأسواق وتنظيمها بشكل أفضل، لاسيما بالنسبة للسلع الاستراتيجية كالغذاء والطاقة.
آنا كولسنشينكو
*زميل في مؤسسة «GLOBSEC» الفكرية العالمية، وخبيرة في تقاطع الاقتصاد والديمقراطية والعلاقات الدولية(إيميرجنغ يوروب)