زواره لا يصعدون إليه، بل يرتقون الطريق المسمى “الطبكي”، وهي كلمة مأخوذة أصلا عن المصطلح السرياني “طبيوثو” الذي يعني المرتقى، وهو طريق يتسلق أو يرتقي الجبل بين مرتفعين مرصوفين بالحجارة في اثنتين وثلاثين استدارة يتلوى يمينا ويسارا على امتداد كيلومتر واحد إلى قمة جبل مقلوب وعلى ارتفاع 2400 متر عن سطح البحر. ومع وجود طريق معبد للسيارات، فإن هناك من المسيحيين المتدينين ما يزال يصر على الارتقاء إلى دير مار متى سيرا على الأقدام، كما كان يصعده الرهبان منذ أكثر من 1600 عام للايفاء بنذور معينة.
بمناسبة اعياد الميلاد المجيدة تنشر شبكة رووداو هذا التحقيق عن أقدم دير في تاريخ العراق بل وفي منطقة الشرق الاوسط. الطرق التي تقود إلى حافة جبل مقلوب، الذي يحتل هذا الدير ثلثي مساحة قمته، عديدة، لعل أقربها الذي يصل من مدينة الموصل عبر مدينة عقرة، والذي يمتد لـ 35 كيلومترا، لكننا قصدناه من مركز مدينة أربيل، عاصمة أقليم كوردستان، مرورا بمدن برطيلا وبعشيقة وبحزاني للتمتع بمزيد من الاكتشافات الثقافية والاجتماعية والعمرانية والجمالية، إذ إن أبرز ميزة تعرف بها هذه البلدات الثلاث (برطيلا وبعشيقة وبحزاني) هي أنها تضم عراقيين من ثلاث ديانات: مسيحيين ويزيديين ومسلمين، يعيشون متسامحين وتتداخل علاقاتهم وعاداتهم الاجتماعية مع بعضهم بعضا منذ قرون عدة.
الطريق يمتد بين بعشيقة وجبل مقلوب عبر حقول القمح، والقرى المسترخية على جانبي الشارع المعبد تبدو وكأنها خرجت توا من غبش مؤثث بدخان التنور ورائحة الخبز، بينما انتشرت قطعان الماشية وسط برية مزدهرة بالنباتات، قرى هي أقرب للقطات سينمائية حية أو مناظر مرسومة في لوحات انطباعية منها إلى حقيقة مدهشة ومزدهرة.
سيبدو من الصعوبة أن ترصد مشهد أبنية الدير الراسخة هناك فوق قمة جبل مقلوب من عند سفحه، خاصة أن المطر بدأ ينزل قويا مباشرة وبلا مقدمات. السيارة ذات الدفع الرباعي اقتربت من حافات الغيوم، هنا بدا لنا دير مار متى بأبنيته الموغلة في القدم، والمشيدة من صخور الجبل ذاته، والأبنية الحديثة الأخرى المنسوجة مع القديمة، بناء ضخم ومهيب يشكل في مظهره تاجا فوق قمة الجبل الذي يختلف في طبيعته الجيولوجية بين بقية الجبال المحيطة به، فهو الجبل الوحيد الذي تتجه صخوره نحو الاسفل على العكس من اتجاهات صخور الجبال الأخرى التي تتجه نحو الاعلى، ولهذا سمي بجبل مقلوب ،كما سمي بجبل (الفاف) وهي مفردة سريانية تعني بالعربية (ألوف أو آلاف) نسبة إلى بلوغ عدد الرهبان الذين تقاطروا على هذا الدير منذ بنائه وحتى القرن السابع سبعة آلاف راهب، وارتفاع قمته 3400 قدم عن سطح البحر، والدير مبني على مساحة ثلثي الجبل باتجاه القمة، حسبما يوضح احد الرهبان المقيم هناك والذي رافقنا في رحلة اكتشاف الدير.
ما إن نصل إلى البوابة الرئيسية الخارجية للدير، ستتهيأ للزائر فرصة ثرية لمشاهدة امتدادات أبنية الدير عمقا في المشهد الماثل أمامنا، وارتفاعا باتجاه قمم الجبال المحيطة، وسنتأكد من ضخامة هذا التكوين المعماري الذي تعمد من بناه أن يجعله متسلطا بقوة دينية على بقية التكوينات التي أنشأتها الطبيعة، مانحا شعورا بالمهابة والاحترام.
هنا لا بد من أن نتقدم نحو الباب الداخلي للدير بخطواتنا متلمسين الصخور التي صقلتها خطوات الآلاف من الرهبان والزوار الذين قصدوا وما زالوا هذا المكان منذ أكثر من 16 قرنا. نتمشى بهدوء يتناغم مع هالة الصمت المتسيدة في عموم المكان.. شعور طاغ بالتحرر من الزمن الراهن، لا شيء يعكر صفو هذا الهدوء المتراكم منذ عصور عدة، لا إشارة، لا أصوات، لا لافتات، لا أجهزة أو آلات تذكرنا بصخب الحياة التي كنا قد تحررنا منها قبيل أقل من ساعة. هنا الصمت يهيئك للتأمل، لا شيء سوى صوت الصمت، سوى رائحة الريح، سوى لون ضبابي يغلف المكان والزمان على حد سواء.
لسنا بحاجة لأن نطرق البوابة المفتوحة على مدار ساعات النهار والمساء، يأخذنا رواق يذكرنا انحناء أقواس سقوفه بأبنية القصر العباسي ببغداد او القصر المعشوق في سامراء وبعمارة العصر القوطي، بل أقدم من ذلك بكثير، بقصور نينوى التي تنتمي إليها منطقة الدير تاريخيا و حضاريا وجغرافيا، الأعمدة المرمرية المزخرفة بأشكال نباتية تحيط الزائر من الجانبين نحو باحة مفتوحة إلى السماء، نمر بباب عتيق يفضي إلى (المغارة الكبيرة)، وهي عبارة عن صهريج كبير وقديم لخزن المياه حيث كان الدير غالبا ما يتعرض لحصار القوات الغازية أو لحصار الطبيعة. لا أحد يسألنا من نحن ومن اين جئنا وإلى اين نذهب، أو ماذا نفعل هنا، أو أي شأن نحن موجودون من أجله، بل تقدم نحونا أحد الرهبان من المقيمين والمتطوعين لخدمة الدير، وبابتسامة تشي برقة روحه قادنا نحو غرفة الضيوف ليمضي بنا من خلال سرده عبر خرائط معرفية في تاريخ وجغرافيا المكان والزمان، إذ تختلط في سرده قصة بناء الدير الأسطورة والحقيقة، فلا يستطيع المتلقي التمييز بينهما كونه ينتبه جيدا إلى عدم إهمال التواريخ، ولأنه أيضا مؤمن بأن ما يرويه هو عين الحقيقة وإن كانت الأسطورة تنسج فعل تأثيرها في هذه القصة.
قال: “عمر هذا الدير أكثر من 1600 سنة، وهو أقدم وأول دير في العراق، بناه الملك الآشوري (ملك نينوى) سنحاريب الوثني سنة 363 ميلادية، في غضون القرن الرابع الميلادي”، مستطردا في سرد تاريخ الشيخ مار متى (مار مفردة سريانية تعني القديس) الذي يعود أصله إلى “قرية في ديار بكر في تركيا، وهو من عائلة مسيحية سريانية ثرية وغنية، أحب التنسك والزهد فدخل إلى دير (سرجيس وباخوس) في قريته (ابجرشاد) سنة 361، حيث أمضى فيه سبع سنوات مع رفاقه الرهبان ليتعلموا أمور الدين، ثم انتقلوا إلى دير آخر مجاور لقريتهم يدعى (دير زقنين) للتوسع في المعارف اللاهوتية، في هذه الأثناء تنصب إمبراطور جديد اسمه لليانوس من سلالة الإمبراطور قسطنطين الكبير، وكان مسيحيا لكنه ترك المسيحية ورجع إلى الوثنية، فأطلقت عليه الكنيسة لقب الجاحد، فشن هجوما على المسيحيين خاصة في تركيا، وطاردهم في الأديرة والكنائس، وعندما بلغ خبر مطاردته للرهبان للقس مار متى هرب مع أصحابه وبنوا لهم كوخا صغيرا على ضفاف نهر الخابور، قبل أن يقصدوا هذا الجبل الذي يسمى جبل مقلوب.”
وتحضر الأسطورة بكل سحرها وتأثيرها في السرد الذي يحفظه هذا الراهب عن ظهر قلب كجزء من تعاليمه الكنسية، فيقول:”الدير بني على أثر أعجوبة، إذ شفى مار متى سارة ابنة الملك سنحاريب (نمرود) من البرص، فدخلت مع أخيها بهنام و40 ضابطا الديانة المسيحية وتركوا الوثنية، مما دفع بأبيهم الملك نمرود إلى الأمر بقتلهم لتركهم الديانة الوثنية، فعاقبه الله بالصرع والجنون، فظهر الأمير بهنام في الحلم على والدته (شريني) وقال لها بأن تخبر والده الملك بأن يتوب ويعلن ندمه وأن يذهب إلى مار متى ويعتذر منه، وهذا ما فعله الملك في صباح اليوم التالي، إذ دعا القس مار متى، الله تعالى أن يشفي الملك، وشفي بالفعل وتحول إلى المسيحية، وصارت كل المملكة مسيحية وذلك سنة 363 ميلادية حيث أمر ببناء هذا الدير.”
مرت عملية بناء هذا الدير بمراحل امتدت إلى ما يقرب من 20 سنة، إذ أنتهي من بنائه سنة 381 ميلادية، وشارك في بنائه أكثر من 20 ألف عامل، وعين عليه أول رئيس وهو القديس مار متى الذي توفي سنة 411 ميلادية، وعاش أكثر من 90 سنة، ويسمى الشيخ متى نسبة إلى كونه كان طاعنا في السن، وكلمة الشيخ هنا لا علاقة لها بالدين أو المكانة العشائرية”، حسب إيضاح الراهب.
على أن هذا لا يعني أن هذا الدير عاش في وضع مسترخٍ ومريح، بل عاش أيضا ظروفا قاسية للغاية، وتعرض للتهديم، إذ “قام برسوم النصيبيني، وكان نسطوريا، بمهاجمة الدير سنة 480 وأحرق مكتبته الثمينة وهدم أجزاء منه وقتل الرهبان”، ينبه الراهب، إلى أن “الدير مر بمراحل متعددة منها الساسانية والفارسية والتتار، وتم هجره لأكثر من 150 سنة على فترات متقطعة، حيث تعرض لأقصى اضطهاد، لكنه كان يعاد بناؤه باستمرار، ففي السبعينات من القرن الماضي تم تزويده بالطاقة الكهربائية بجهود بذلها المطران إسحاق، كما كان (الرئيس العراقي الأسبق) صدام حسين قد أمر بين عامي 1980 و1984 بتحسين وضع الدير ومد الشارع من مفرق مدينة عقرة صعودا إلى الدير، بكلفة مليونين ونصف المليون دولار، وذلك بعد أن قام بأول زيارة للدير عام 1980، وزيارته الثانية كانت بعد عام من ذلك التاريخ”، لافتاً إلى أن ” الرئيس مسعود بارزاني قام بآخر عملية إعادة بناء وترميم كاملة لأبنية الدير من الخارج والداخل عام 2006 .”
نخرج إلى فضاء الدير، نرصد الطريق المتعرج (الطبكي) بوضوح من السطح العالي، نتأمل البناء القديم، الأول المحفور في صخور الجبل والذي ما زال ماثلا هناك في القمة، حيث الصوامع التي كان يتعبد فيها الرهبان، ومنها صومعة مار متى، فالبناية تتكون من ثلاثة طوابق وتضم كنيستين والكثير من الغرف التي يقيم فيها بعض الزوار لعدة أيام، كما توجد هنا عدة صهاريج نحتت في بدء تأسيسه لخزن مياه الأمطار المنحدرة من الجبل. ولا يزال أربعة صهاريج قائمة، يبلغ سعة أكبرها 2420 مترا مكعبا. ولعل أجمل كهوف الدير هو كهف الناقوط الذي يعد أكبر الكهوف، وأكثرها سحرا وجمالا، ويقع غرب الدير على مسافة 200 متر. ويتكون من قسمين، الخارجي ومساحته 10م×15م، ورصف بالحجر المعروف بالبازي تتوسطه بركة ماء. والقسم الداخلي مساحته 6م×4م، حيث تتقطر خلاله المياه طوال السنة لتتجمع في حوض صغير وتنساب إلى القسم الخارجي حيث تصب في البركة، إذ يقضي هناك الزوار وقتا ممتعا في فصل الصيف. يتم حاليا تزويد الدير بالماء من عين في الجنينة بواسطة (ماطورات) كهربائية، إلى خزان في أعلى الدير ويتم توزيعه على عموم الأبنية.
خلال تجوالنا في الدير التقينا بأكثر من عائلة مسلمة، إضافة إلى العوائل المسيحية طبعا، إذ يعلق الراهب الذي ودعنا الى بوابة الدير قائلاً: “يزور الدير أبناء كل الأديان والطوائف في العراق، وهو كما ترون مفتوح أمام الجميع، ومن يزوره مرة سيعاود زيارته مرات”.