العراق اليوم.. ألم وأمل

محمد المحمود*

العراق هو وطن الأشواق، كما هو وطن البكاء، العراق هو وطن الفرح الحزين، كما هو وطن الحزن الأسيف، العراق هو أغاني باكية لا تزال تنزف شوقا للعراق حتى وهي في العراق. لكن، لم يَشْتق أحد للعراق ولم يبكه من أعماقه الطافحة بالألم والأمل؛ كما اشتاق إليه وبكاه شاعر العراق العظيم بدر شاكر السيّاب.

عندما اشتاق السيّاب للعراق وهو على مرمى البصر منه، هتف بآهات يائسة لا تُشْبه إلا آهات مُغتربي الأبد، هتف باكيا وهو على سواحل الخليج:

“واحسرتاه، متى أنام

فأحس أن على الوسادة

من ليلك الصيفي طلا فيه عطرك يا عراق؟

بين القرى المتهيبات خطاي والمدن الغريبة

غنيت تربتك الحبيبة

وحملتها فأنا المسيح يجر في المنفى صليبه”

واليوم أين هو العراق، أين هو عراقنا! أين عراق الحاضر الذي يكتنز عراق التاريخ؛ فيكتنز ذواتنا من أعمق أعماقها. العراق بالنسبة لكل عربي، بل ولكل مسلم، ليس مجرد وطن عربي أو إسلامي، ليس مجرد رقعة جغرافية تنتمي إلى صميم وجودنا فحسب، ليس مجرد قطعة منا في هذا المكان أو ذاك، العراق هو نحن وجودا من حيث هو تاريخنا، من حيث هو ذاكرتنا الجمعية التي تشكل عينا بأنفسنا، وعينا بهويتنا. هل لنا من ذاكرة لولا الذاكرة الحيّة الساهرة على أضواء ما جرى في القرون الستة الأولى، بالعراق، ومن خلال العراق، مرورا العراق.

عالم العراق هو تاريخنا مكتوبا ومشهودا، عالم العراق هو تاريخنا منذ عشرينيات القرن الأول الهجري الذي شهد أكبر الهجرات إليه، وحتى عام 656هـ، عندما سقطت بغداد على يد التتار؛ فسقط الوجود العربي من أساسه. هذا العالم العراقي هو عالم كل عربي. أما ما بعده، وما حدث على أطرافه إلى ما قبل قرنين من الآن، فهي ـ مهما عَظُمت أو عُظِّمت ـ مجرد هوامش على المتن العراقي؛ بجغرافيته وأناسه وأحداثه، حيث صُنع وُجودُنا الأول إرادة وقَدَرا، ولا عتب على الأقدار.

ولئن شعرتَ أيها القارئ أن في هذا شيئا من مبالغة؛ فارمِ بخيالك بعيدا، وحاول أن تمحو من ذاكرتك العلمية والثقافية والوقائعية/ التأريخية كل ما حدث على أرض العراق في القرون الستة الأولى التي تلت ظهور الإسلام. إن فعلتَ؛ فلن تجد لغة عربية؛ لا معاجم ولا نحو ولا صرف ولا عروض، لا سِيَرة ولا تاريخ، لا سنة ولا شيعة ولا خوارج ولا معتزلة، لا مدارس فقهية، بل ولا فقهاء مُؤسِّسين، لا شعراء ولا كتاب، لا فلاسفة ولا علماء طبيعة…إلخ. فحتى أولئك الرموز الذين لم يكونوا من العراق أصلا ومولدا؛ لا بد وأنهم مرّوا بالعراق ضرورة انتماء، وفي العراق وبالعراق أصبحوا ما هم عليه لاحقا؛ إذ لولا العراق لكانوا شيئا آخر؛ أو لم يكونوا شيئا مذكورا على الاطلاق.

مشهد من الموصل

 

حتى العبقري الشامي مولدا ونشأة/ أبو العلاء المعري لم يكن يرى نفسه شيئا حتى دخل العراق. وعندما دخل العراق ـ ورغم بعض ما تعرّض له من سوء معاملة أغضبته ـ بقي عاشقا للعراق؛ كما كان من قبل، لا لشيء؛ إلا لأنه لم يكن يرى إمكانية تحقق هويته العلمية دون شهادة العراق، دون أن يكتب نفسه سطرا في كتاب العراق. لهذا قال ـ وفاء ـ بعد رجوعه وبقائه رهين المحبسين:

كَـلِفْنا بالعراق ونحن شرخ فـلـم نُلْـمـم بـه إلا كـهـــولا

وردنا ماء دجـلة خيـر مـاء وزرنا أشرف الشجـر النخيلا

هذا العراق الباذخ عظمة على امتداد تلك القرون، هذا العراق الذي يجب أن يكون أسطورة الأمل بكل ما تحقق فيه ـ وبه ـ قديما؛ يغدو اليوم أسطورة الألم بما نراه يجري على أرضه من مُحبطات. تجرح عينيك قبل قلبك تلك المشاهد الدامية التي كاد يتطبّع بها المشهد العراقي منذ ستة عشر عاما، كما تجرح عينيك قبل قلبك مظاهرُ الخراب والعبث والفوضى التي جعلت شرائح كبيرة من الشعب العراقي على حافة الفقر المدقع، بل على حافة الموت جوعا وعطشا، في بلد هو من أغنى بلدان العالم بالثروات الطبيعية؛ فضلا عن الثروة البشرية الواعدة، المتمثلة في شعب جاد وذكي وطموح، فيه ما يمكن أن يكون “قاعدة كوادر علمية ومهنية” تُؤهّله للريادة النهضوية على مستوى المشرق العربي.

يتصاعد مستوى الألم بقدر ما يمنحه الأمل من وعود. مؤلم حد الموت كمدا أن العراق الذي تؤهله إمكانياته ليكون “ماليزيا الشرق” على أقل تقدير، نجده يتساوى مع كثير من دول العالم الثالث، حيث التخلف والفقر المدقع وانعدام الأمان.

العراق الذي يسبح على بحيرة نفط (تؤهله ليكون ثاني أو ثالث أكبر احتياطي نفطي على مستوى العالم)، فضلا عن بقية الثروات، تجده اليوم يغرق في تخلّف تنموي ستعصى مشاهده على التصديق. تنقل الصور ـ على اختلاف مصادرها ـ مشاهد لا يخطر ببالك أبدا أنها من العراق، حيث ترى فقرا قاهرا على مستوى الأفراد، وانحطاطا ظاهرا في البنى التحتية، وغيرها من مشاهد لا ينبغي أن تكون لقرية نائية قبل مئة عام؛ فتشعر حينئذ بما يشبه الاختناق ألما وحسرة وكمدا على واقع العراق؛ مقارنة بما يليق بالعراق، بل وبما هو ممكن للعراق.

لا شك أن العراق اليوم هو ضحية الدكتاتورية الفاشية التي جثمت على صدره لأكثر من خمسين عاما. ما نراه اليوم من مآسي متلاحقة ومتراكمة، بعضها يدعم بعضا، ويشد بعضها أسر بعض، ليست بفعل الخيارات السياسية لساسة اليوم فحسب، وإنما ـ وهو الأهم والأخطر ـ هي الثمرة الكبرى، الثمرة اللاّمباشرة، لكل تلك العهود المتتابعة من القهر والهدر والمغامرات الحمقاء والطغيان وسحق الإنسان. ما نراه في الصور المنقولة حتى على مستوى تردّي البنى التحتية التنموية، ليس ناتجا عن فشل في التنمية الراهنة فحسب، وإنما نرى انعداما لأي منجز تنموي سابق يستحق أن يكون علامة على حراك تنموي يوازي الشعارات التقدمية للبعثيين الذين طالما تشدّقوا بـ”العراق العظيم”.

عندما أرى صور العراق اليوم أحسّ وكأن نموه توقف منذ بداية الستينيات، وهنا، أتساءل متحسرا: ماذا كانت الدولة البعثية تصنع منذ بداية الثورة النفطية منتصف السبعينيات إلى سقوطها الأخير عام 2003؟ وهو السؤال ذاته الذي طرحته على نفسي عندما زرت جورجيا، ورأيت كيف أنها ـ من حيث البنى التحيتية ـ مجرد حطام بلد وليست بلدا؛ بعد سبعين عاما من تبعيتها للدولة العظمى الثانية في العالم: الاتحاد السوفياتي، كنت أتحدث مع نفسي وأنا أمشي في شوارع “تبليسي” و “باطومي” وأبحث عن تنمية من أي نوع، فأتساءل متعجبا ـ لا جاهلا، ولا متجاهلا ـ: طوال سبعين عاما؛ ماذا كان يفعل هؤلاء؟ هل كانوا يسرقون ويسكرون بما يسرقون فقط؟ لو كانوا يبنون أكواخا بدائية على التلال، أو جسورا خشبية فوق الأودية والأنهار؛ لأصبحوا في سبعين عاما أفضل مما هم عليه الآن!

إن الأنظمة الشمولية بطغيانها واستبدادها، وبتحطيمها للإنسان من الداخل والخارج، لا تصنع أوطانا، بل تصنع أشباحَ أوطان؛ سرعان ما تتلاشى بزوالها. هذا هو يقني الذي رافقني منذ عشرين عاما، ولا تزيده الأيام والقراءات والتجارب إلا وثوقا. ولهذا، عندما بدأت الولايات المتحدة تُلوّح بغزو العراق أوائل عام 2003، كنت مؤيدا لهذا الغزو؛ بصرف النظر عن مدى مصداقية التهم الموجهة للنظام الصدامي. كنت أرى أن على العالم المتحضر/ الغربي ـ كواجب حضاري وإنساني ـ أن يُحرّر العراق من صدّام.

وعندما حرّر الأميركيون العراق من صدام باركت ذلك مبتهجا، ونشرت في فبراير عام 2004 مقالا بعنوان: “أميركا في العراق: تحرير أم احتلال”، بيّنت فيه أن ما فعلته أميركا في العراق ليس احتلالا، بل هو تحرير حقيقي للإنسان العراقي من النظام الصدامي. وقد غضب كثيرون من هذا المقال، وتكرّر الغضب وتوسع عندما أكدّت هذا الرأي في مقابلة حوارية على قناة “العربية” ـ برنامج “إضاءات” أوائل عام 2007، إذ في السنوات الأربع التي تفصل هذا الحوار عن سقوط صدام، كانت العراق فيما يشبه الحرب الأهلية، وكان لا يمر يوم أو يومان إلا وهناك تفجير في هذا المكان أو ذاك من مدن العراق؛ ما يعني أن تفاؤلي الأوليّ بالخطوة الأميركية يجب ـ وفق رؤيتهم ذات المدى القصير ـ أن يسقط لصالح الرافضين لتحرير العراق الذي يرونه احتلالا.

خلال السنوات الأخيرة أسمع من بعض العراقيين (وبعضهم كانوا ضحايا ـ بحكم الانتماء المذهبي ـ للنظام الصدامي)، إشادة صريحة أو ضمنية بالعهد الصدامي؛ تحت وطأة الألم الذي يقاسونه في حياتهم اليومية التي لم تستطع هذه الحكومات المنتخبة ديمقراطيا توفير الحد الأدنى من ضرورياتها. اليوم، عندما أسمع عراقيا يتمنى عودة صدّام (الذي يعني عودة الطغيان)؛ لا لشيء إلا لغضبه الأليم المُحبَط من واقعه؛ أصاب بتشاؤم حادٍّ أجِدُ مرارته تَنْسرب كالنار في عروقي، فتحرق باليأس ما بقي من تفاؤل خافت حائر، تحرق ما بقي من “صوت تَفجّر في قرارة نفسي الثكلى: عراق”؛ مع أني عوّدت نفسي ـ كآلية ذاتية لتوفير القدر الضروري من التوازن النفسي ـ على نوع من الفصل بين الخاص والعام.

بين الواقع والممكن هناك فرص تاريخية هائلة. ما يجب أن يستوعبه المؤثرون في تسيير الأمور في العراق (من ساسة، ورجال أعمال، ومثقفون، وإعلاميون، وإداريون، ورجال دين، بل وميليشيات متحزبة…إلخ) أن العراق يستحق أكثر بكثير من أن يصبح المستوى الحياتي المتواضع الذي وفَرّه النظام الصدامي في القديم أملا للأجيال الجديدة.

ما يليق بالعراق، ليس بدائية البنى التحتية، ولا التشرذم الديني والمذهبي والحزبي، ولا الاحتراب الطائفي، ولا الديمقراطية الصورية، وإنما يليق به الوجه الآخر لكل هذا: الثورة التنموية، والأحزاب المدنية ذات الولاء الصادق للمواطن، والديمقراطية الحقيقية، والسلام الأهلي المدعوم بالاستقرار؛ ليكون بذلك واجهة المشرق العربي.

هذا بعض ما يليق بعراق الأمل الكبير، الذي هو أملٌ يتناسل آمالا؛ فيتجاوز جغرافيته المحدودة. فأين هذا العراق المأمول من عراق الألم الذي يُحطّم آمالنا بواقعه المأساوي الذي يتصدر أكثر الدول مأساوية على مستوى العالم؟!.

*المقال عن موقع “الحرة”