قليلون اليوم من شبان بغداد يعرفون أن المغني اليوناني الشهير ديميس روسوس الذي توفي عن 68 سنة في أوائل 2015، أحيا حفلتين في مدينتهم يوم كانت لم تفقد بعد ملامحها كمعلم حضاري ومدني مؤثر. لا بل انهم بالكاد أيضاً يعرفون ان بغداد احتضنت حفلة باذخة للسيدة فيروز في وقت ليس بعيداً عن موعد صاحب اغنية «غودباي ماي لوف غود باي» التي انشدت لسمّار الليل البغدادي عام 1976، وتحديداً في نادي «الطاحونة الحمراء» المشابه لـ «كازينو لبنان» الشهير لجهة الأسماء المرموقة التي تقدم فنونها الموسيقية والاستعراضية فيه.
في «الطاحونة الحمراء» الذي غنى فيه صاحب «فور ايفر اند ايفر»، تغيرت الصورة التقليدية التي كانت ترسمها وتحفظها اجيال عن النادي الليلي، فاكتشفت ان المكان الذي قدم فيه روسوس اكثر من حفلة، منفتح على الفنون الغنائية والراقصة، فثمة فرق من فرنسا واليونان والإرجنتين وإيطاليا وبريطانيا كانت تقدم أشكالاً استعراضية راقية تجمع الموسيقى بالرقص الحديث، إذ إن عائلات بغدادية منفتحة اجتماعياً كانت تحضر لمشاعدة تلك العروض وفنونها على رغم طابعها «المثير».
ديميس روسسز في ملهى “الطاحونة الحمراء” ببغداد قبل واحدة من حفلتين أحياهما هناك
ومن هنا ليس غريباً على شابات بغداد وشبابها تلك الأيام ان يفخروا بتقديم روسوس اغنياته في بغداد يوم كان يتربع على قمة لوائح الغناء العالمية، بل ان اغنياته كانت تحتل موقع الاهتمام والإقبال في محال تسجيلات الأغنيات وبيع اسطواناتها، ومنها ركن الموسيقى في «اورزدي باك» الذي كان اول «مول» في الشرق الأوسط، وأسس في بغداد قبل منتصف القرن الماضي، وفيه احتلت اسطوانات صاحب اغنية «ماي فريند ذا ويند» حيزاً من مبيعات ذلك الركن الذي كان يحرص على توفير الكلاسيكي والحديث بأسعار مدعومة من الدولة، كونها تشكل مادة ثقافية.
اليوم يستعيد من هم على اعتاب عقدهم السادس، وهم من جيل الانفتاح الاجتماعي والثقافي البغدادي، كم كان بعضهم محظوظاً حين استمع الى اليوناني ديميس روسوس في بغداد، وكيف رقّت أرواحهم مع اغنيته «ذا غريك سايد اوف ماي مايند»، وكيف انهم عاشوا مع عائلاتهم «ليلة من العمر»، حين حضروا حفلة غنائية احيتها فيروز، وتضمنت أغنية لم تزل حتى اليوم أجمل أغنية في وصف بغداد ومحبتها «بغداد والشعراء والصور».
كانت اغنيات روسوس تتردد في ابهاء «مطعم نواقيس» في الباب الشرقي لبغداد، وفي «فيتامين» المطعم الصغير والأنيق في شارع السعدون، ولكنه المقتصر على رواد معدودين يعرفون المكان والمشتغلين فيه والذين بدورهم يعرفون الرواد بالأسماء ويقدمون إليهم لذائذ الطعام مع ابتسامات الرضا.
ومن مباهج كتلك، كان ليل بغداد يرّق ويتسّع لحشد من الساهرين الباحثين عن الفرح كل على طريقته، اذ تبدأ سهرات لا أحلى ولا أروع، بين دور السينما في عروضها الأحدث والأبرز عربياً وعالمياً، او المسارح التي كانت تقدم زاداً معرفياً قبل ان تكون عروضها مجرد ترفيه تقليدي.
اليوم يبدو الحديث بين الأجيال الجديدة من متابعي الموسيقى الغربية المعاصرة بين شباب بغداد، عن ديميس روسوس، مرتبطاً بزميله في الفريق الغنائي الذي جمعهما «افروديت تشايلد»، وواضع ألحان غالبية أغنياته: المؤلف فانجليس، المعروف في وقتنا الراهن عبر اعماله البارزة في ما يعرف «موسيقى العصر الحديث» او «نيو آيج ميوزيك». لكنهم لا يدركون ان أثير مدينتهم ظل يردد لفترة طويلة اغنيات اليوناني الإسكندراني المولد، ويبتهج ايقاعه على اغنية رشيقة من نوع «فار أواي».
*كاتب وصحافي والمقالة سبق ان نشرت في “الحياة” بعد يومين على وفاة روسسز أوائل 2015.