يُشكّل طه حسين (1889-1973) بمفرده ظاهرة أدبية ثقافية فكرية سجالية داخل ظاهرة أكبر بنفس هذه الصفات والتوصيفات، وهي ظاهرة مصر الثقافية إن جاز الاختزال في النصف الأول من القرن العشرين، وحتى أواخر الستينات أو أوائل السبعينات.. الفترة المرتبطة عند الكثير من المفكرين العرب بهزيمة 1967، وقبل هذه الهزيمة التي شكّلت مفصلاً تاريخياً في ضمائر العشرات من أدباء ومفكري ومثقفي العرب، كانت مصر ظاهرة عربية ثقافية سياسية مركزية، بل، كان مصطلح «المركز الثقافي العربي» أوّل ما ينطبق على القاهرة التي كانت تأتي دائماً في الطليعة ممّا كان يُسّمى مراكز الثقافة العربية.
كانت القاهرة في طليعة بغداد ودمشق وبيروت، وإذا كانت عبارة «القاهرة تكتب، وبيروت تطبع، وبغداد تقرأ» قد استهوت الكثير من الكتّاب العرب، ففي الحقيقة، أن مصر كانت تكتب وتطبع وتقرأ وحدها مكثّفة في المركز القاهرة الذي كان في النصف الأول من القرن العشرين، وحتى سبعينات القرن العشرين ظاهرة ثقافية سياسية جدالية وفنية أيضاً من حيث المسرح والسينما والصحافة وهجرة أسماء عربية عديدة وبخاصة سورية ولبنانية إلى «أم الدنيا» حيث كان هناك في القاهرة يجري مهنياً وفنياً – وإدارياً إنتاج وتصنيع المبدعين، وتحديداً في السينما والغناء، وما أكثر أعلام السينما والغناء في مصر من ذوي أصول – عربية: عراقية، وشامية بشكل خاص.
حيوية
تلك الظاهرة الثقافية المصرية العربية الاستقطابية النقدية والحيوية في الأدب والفن والنقد والفكر والفلسفة والسياسة وحتى الاقتصاد.. كان داخلها رجل فقد بصره صغيراً، ولكنه عوّض فقدان البصر ببصيرة تنويرية شجاعة وسط عمالقة أيضاً في الفكر والتنوير والنقد.. ذلك النقد الأدبي والثقافي الاستثنائي الذي أدّى إلى نشوء ظاهرة مصاحبة أيضاً يطلق عليها ظاهرة المعارك الأدبية بين الكتاب والأدباء والمفكرين في مصر، لا بل، سيدخل على خط تلك المعارك كتّاب عرب من العراق والشام، وسيكون طه حسين طرفاً في تلك المعارك التي قادها أو صنعها – أشرس أعداء طه حسين، وهو الأديب والمفكر زكي مبارك الذي ولد في العام 1892، أي بعد ولادة طه حسين بحوالي ثلاث سنوات، ولكن زكي مبارك الذي ينسب إليه أنه سيأكل لحم طه حسين إذا اقترب منه كان قد توفي قبل رجل البصيرة بعشرين عاماً، وفي حين أن نزق الصراع بين الرجلين، قد دفع مبارك أن يطلق على نفسه لقب «الدكاترة» زكي مبارك تحدياً – لشخص الدكتور طه حسين العائد من باريس في عشرينات القرن العشرين بدكتوراه فرنسية مضافة إلى دكتوراه مصرية قبل ذلك، إلاّ أن مبارك في ما أظن لم يعش حتى يرى كيف جاء لقب عميد الأدب العربي إلى الأعمى البصير وهو جالس في بيته، في القاهرة، مدينة الحروب الفكرية الجدالية آنذاك.
جاء لقب عميد الأدب العربي مثل مجرى الماء إلى طه حسين وسط عمالقة كما قلت، بالضبط، مثلما جاء لقب «أمير الشعراء» إلى أحمد شوقي بإجماع فطاحل شعراء العرب من الأخطل، وإلى كبار القصيدة العمودية في العراق والشام.
ظاهرة
لم يسع لا شوقي ولا طه حسين إلى اللقب، ولكنه استحقاق، إنه استحقاق صعب ذهب إلى «رجل ظاهرة» وسط ظواهر فرعية فردية أيضاً شكّلت هوية مصر الثقافية، وسيكتب طه حسين كتابه – الأشبه بزوبعة في محيط وليس في – فنجان «مستقبل الثقافة في مصر» من قلب ذلك الوسط القاهري من العمالقة المتقاربين في الأعمار، أو في بعض الأحيان يتصلون مع بعضهم بعضاً في إطار دوائر عمرية عزّزت من كون مصر أو القاهرة كانت ظاهرة ثقافية – في قلبها ظاهرة طه أو ظاهرة «طاهوية»، ولكن الحقيقة التي يجب أن يشار إليها في السياق وبأمانة أن أولئك العمالقة كان كل واحد منهم بمفرده هو ظاهرة..
إنها مجموعة أفراد – تحوّلت إلى ظواهر في مصر النصف الأول، وحتى السبعينات وبعد ذلك بالقليل من الزمن في القرن العشرين، وإليك هذه الخريطة السريعة لتلك – «الرؤوس الكبيرة» في مصر المتحوّلة آنذاك من النظام الملكي إلى النظام الجمهوري.
كان رأس طه حسين في رأس عباس محمود العقاد الذي ولد في العام 1889 نفس العام الذي ولد فيه حسين، ولكن العقاد توفي قبل طه حسين بنحو عشر سنوات، وهو صاحب العبقريات التي أصبحت بدورها أيضاً ظاهرة بحثية سيكولوجية مفتاحية في رجال قياديين تاريخيين كبار في الذاكرة المصرية والعربية، وفي التوازي مع صاحب العبقريات كان طه حسين لا يكف عن نقديته المحمية في ذاته بثقافة نقدية وراءها منهج وبحث أولاً وأخيراً، وهكذا، ثمة زلزال آخر لطه حسين عند صدور كتابه «في الشعر الجاهلي» عام 1926. وسأعود إلى هذا الكتاب بعد قليل، ولكن من المهم الآن استحضار الرؤوس الكبيرة المبصرة في مقابل رأس واحدة لها عينان لا تبصران، ولكن في القلب بصيرة استكشافية نورانية أو تنويرية تتوازى مع السيل الجارف الذي أوجده عملاق آخر هو توفيق الحكيم الذي ولد في العام 1898، أو بعد طه حسين بحوالي عشر سنوات، وسوف يعمر الحكيم ليعيش نحو 88 عاماً، وله هو الآخر زلازله في المسرح والرواية والقصة.. فأنت هنا أمام رجل كان طاحونة كتابة. حوالي 100 كتاب، كل كتاب له شخصية أدبية، غير أن طه حسين لن يتوقف، وهو الآخر طاحونة في أدب السيرة الذاتية، والنقد، والتفكير الأدبي، وإلى جانب طه حسين الأديب الذي حاز الاستحقاق العربي «العميد» فهناك في داخله أكثر من طه حسين كما نقول ذلك عند الحديث عن الأعلام التعددية الموسوعية، ولعلّه من قبيل – الصدفة الجميلة أن يحتفي معرض أبوظبي الدولي للكتاب بطه حسين شخصية أدبية ثقافية للمعرض، وفي الوقت نفسه يصدر قبل أيام قليلة «في الأسبوع الماضي فقط» كتاب بعنوان «النهضوي الأخير: طه حسين وبناء المؤسسات في مصر»، والكتاب صدر بالإنجليزية عن جامعة ستانفورد للأستاذ المساعد في التاريخ حسام أحمد، ولك أن تتصوّر أن كتاباً من هذا النوع يلقي الضوء على تنويرية ونهضوية طه حسين بعد حوالي نصف قرن على رحيله، فالرجل لا يزال في الذاكرة البحثية الأكاديمية في جامعات الغرب، وما زال موضوع سجال وقراءة ومراجعة، هو الذي كان أيضاً موضوع سجال وقراءة في الأربعينات والخمسينات من القرن العشرين.
يشير الكتاب الصادر حديثاً عن طه حسين، وقرأت له عرضاً صحفياً مهنياً – كتبته الصحفية المحترفة المثقفة ندى حطيط إلى شخصيات طه حسين المتعددة: فهو المترجم «.. أنجز أوّل نسخ عربية للعديد من المآسي اليونانية»، وهو الباحث كما جاء في عرض الكتاب الجديد «.. أنتج أعمالاً مرجعية عند بعض عظماء الأدب العربي الكلاسيكي» وهو مفكر: «صاغ طروحات جدلية تاريخية»، ومع أن هذه الشخصيات لطه حسين معروفة من قبل في سيرته الأدبية والثقافية والسجالية بشكل خاص، فضلاً عن طه حسين الأستاذ الجامعي، وطه حسين الوزير، وطه حسين الذي يقبع في داخله فيلسوف، وأحياناً، عالم اجتماع: «ذكرى أبي العلاء»، و«الفلسفة الاجتماعية عند ابن خلدون»، إلا أن استعادته في 2022، وفي مؤسسة جامعية أوروبية، كما استعادته النبيلة والذكية في معرض أبوظبي الدولي للكتاب.. تؤشر كلّها على الضمير الثقافي المتجدّد، النقدي والنهضوي والمستقبلي لهذا الرجل الظاهرة.
قافلة
مرّت قافلة طه حسين، إن جازت العبارة، على أعلام مصر الظاهرة الثقافية:.. من إحسان عبدالقدوس 1919-1990، إلى نجيب محفوظ 1911-2006، إلى عبدالرحمن بدوي 1911-2006، إلى أنيس منصور 1924-2011، إلى يوسف إدريس 1927-1991، وحتى آخرين من صنّاع الفكر والأدب والفنون والنقد والبحث في مصر وفي الوطن العربي، وكان دائماً ملهماً – لجيل من متفائلي الثقافة في مصر وعشاقها الأصلاء مثل النموذج النسائي المصري الدكتورة سهير القلماوي وهي واحدة من قلائل الثقافة العربية ممّن قرأت «ألف ليلة وليلة» برؤية بحثية عميقة، وقد أنجزت في هذا السياق دراسة عالية الأهمية بعنوان «ألف ليلة وليلة» ومن المهم الإشارة هنا إلى أن هذه الدراسة صدرت أيضاً بطبعة جديدة أنيقة عن معهد الشارقة للتراث – وفي رأس هذه الدراسة نقرأ مقدمة لطه حسين منها – هذا الاقتطاف.. «.. هذا الكتاب الذي خلب عقول الأجيال في الشرق والغرب قروناً طوالاً، والذي نظر الشرق إليه على أنه متعة ولهو وتسلية، ولكن، على أنه بعد ذلك خليق أن يكون موضوعاً صالحاً للبحث المنتج والدرس الخصب».
مدار دائرة الضوء
النقدية المتجاوزة، إن أمكن القول عند طه حسين تتمثل في أكمل صورها في كتابه الجدلي حتى اليوم «في الشعر الجاهلي» وإذا كان شخص طه حسين كأديب وإنسان يقرأ اليوم في إحدى الجامعات الأوروبية بعد نصف قرن على رحيله، فإن كتابه «في الشعر الجاهلي» الصادر في العام 1926، أي قبل نحو 96 عاماً ما زال يقع في دائرة الضوء عند العودة إلى مراجعة الشعر العربي وتحديداً الجاهلي، وهو الموضوع الجدلي الفكري الأول الذي يتصل بالشعر من خلال نقدية طه حسين، ومن المهم أن نلاحظ هنا أن هذه النقدية قائمة أولاً على «بحث لم يألفه الناس من قبل» كما قال العميد الرّائي في تمهيده لكتابه المقروء حتى اليوم، هذا أولاً، أما ثانياً فأرى شخصياً أن بعض وربما الكثير من الغضب الثقافي وحتى الثقافي الشعبي الذي ووجه به طه حسين إنما لا يعود إلى أنه شكّك في هذا الشعر وشكّك في تاريخه كشعر في حدّ ذاته، وإنما يعود هذا الغضب العارم المصبوب على طه حسين وكتابه إلى ما يرمز إليه الشعر، ورمزية الشعر الجاهلي تتمثل هنا على شكل من أشكال القداسة للخطاب وللنص في حدّ ذاته، فالشعر العربي هو في النهاية ديوان العرب، والخروج على ديوان العرب أو التشكيك بهذا الديوان حتى لو كان تشكيكاً قائماً على نظرية علمية بحثية منهجية، هو تشكيك بالتاريخ والهوية والرمزيات الانتمائية – والاجتماعية والسلطوية التي يمثلها هذا الشعر.
يقول طه حسين بكل مباشرية صادمة: «.. أوّل شيء أفجؤك به في هذا الحديث هو أني شككت في قيمة الشعر الجاهلي، وألححت في الشك، أو قل أَلَحَّ عليَّ الشك، فأخذت أبحث وأفكر وأقرأ وأتدبّر، حتى انتهى بي هذا كلّه إلى شيء ألاّ يكن يقيناً فهو قريب من اليقين. ذلك أن الكثرة المطلقة ممّا نسمّيه شعراً جاهلياً ليست من الجاهلية في شيء، وإنما هي – منتحلة – مختلقة بعد ظهور الإسلام، فهي إسلامية تمثل حياة المسلمين وميولهم وأهواءَهم أكثر مما تمثّل حياة الجاهليين..».
حين كتب طه حسين هذا الكتاب = القنبلة كان في نحو السادسة والثلاثين من عمره «طه حسين مواليد 1889»، ومن الواضح تأثير الروّح الشابة المندفعة عادة إلى المغامرة، حتى لو كانت هذه المغامرة قائمة على قرائن بحثية أو تاريخية أو اجتماعية، أضف إلى ذلك الأثر المعرفي والفكري الذي تركته في شخصية دراسته وحياته في باريس، واتصاله برموزها الثقافية، ثم لا تنس الناحية السيكولوجية في كل هذا الاندفاع إلى خطاب جديد مغاير في الثقافة والفكر والبحث انطلاقاً من بصيرة حادّة هي تعويض عن حالة مبصرة عامّة تحيط به. وتحيط به أيضاً حالة عمالقة أو حالة عملاقية أشرت إليها في سياق هذه المادة، وفوق ذلك، سيكون طه حسين «الموعود» بعمادة الأدب ظاهرة داخل ظاهرة.. وكأن كل ذلك سيقوده إلى شكل من أشكال الشك ولم يشأ هو أن يوجّه هذا الشك إلى ما هو أيديولوجي أو عقائدي أو فكري فلسفي وجودي، فَوَجَّهَهَ إلى الشعر، وليس أي شعر، بل الشعر الجاهلي حيث لا أحد من موتى الجاهلية يمكن أن يوبّخ العميد.