مع الثورة الصناعية الرابعة أصبح كل شيء ممكنا، وصار الخيال المعرفي المبني على العلم والأبحاث المخبرية هو ما يقود العقل البشري نحو اكتشاف آفاق جديدة للإنسانية لم تكن موجودة من قبل، وبالذات مع القفزات الهائلة التي حدثت وما زالت تحدث كل يوم في علوم البرمجة والخوارزميات والذكاء الاصطناعي والتعلم الآلي وإنترنت الأشياء والحوسبة السحابية، وظهور مفهوم جديد هو “الإبداع الحسابي” (Computational Creativity).
ويعرف الإبداع الحسابي بأنه دراسة إنشاء برامج إبداعية لاكتشاف مفاهيم وأفكار جديدة في مجموعة متنوعة من المجالات، مثل الأدب والفن والألعاب والهندسة والموسيقى وغيرها، وتُستخدم هذه التقنية لمساعدة الناس على أن يكونوا أكثر إبداعا، كما تُستخدم في الذكاء الاصطناعي لاتخاذ قرارات إبداعية في مجالات صناعة الأفلام وتحليل السيناريوهات وتطبيقات الإبداع الحاسوبي الأخرى، ويشيع استخدام برامج الإبداع الحاسوبي في الكتابة الإبداعية وتحرير الصور والفيديوهات، حسب ما ذكرت منصة “غلوب نيوز واير” (GlobeNewsWire) في تقرير حديث لها.
وحسب تقرير صدر أخيرا عن مؤسسة “ماركت ريسيرتش فيوتر” (MRFR) (Market Research Future) فمن المتوقع أن يبلغ حجم السوق العالمية في هذا المجال نحو 1.15 مليار دولار بحلول عام 2026.
ولكن كيف كانت البداية؟ ومن أين انطلقت الشرارة الأولى في هذا المجهود البشري نحو المستقبل؟
الكاتب والأديب الأسترالي ريتشارد موس يحاول الإجابة عن هذا السؤال عبر تتبع تطور مفهوم الإبداع الحسابي، واستخدام الذكاء الاصطناعي في العملية الإبداعية التي كان يُعتقد حتى وقت قريب جدا أنها حكر على البشر.
ويبدأ موس مقالته منذ البدايات الأولى، وذلك عندما التقى الفنان البريطاني هارولد كوهين بأول حاسوب له في عام 1968، وتساءل حينئذ عما إذا كانت الآلات يمكن أن تساعد في حل لغز كان يحيره منذ مدة طويلة: كيف يمكننا أن ننظر إلى رسم ما، وبعض الخربشات الصغيرة، ونرى وجها؟
بعد 5 سنوات، ابتكر كوهين روبوتا آليا “فنانا” وأطلق عليه اسم “أرون” (AARON) لاستكشاف هذه الفكرة، وزوّد الروبوت بالقواعد والبيانات الأساسية اللازمة للرسم، وكيفية رسم أجزاء الجسد، وجلس يراقب النتائج.
لم يكن الملحن ديفيد كوب بعيدا عن هذا التفكير، وهو الذي صاغ عبارة “الذكاء الموسيقي” (Musical Intelligence) لوصف تجاربه مع التأليف الموسيقى المدعوم بالذكاء الاصطناعي.
وفي هذا السياق، قال كوب لريتشارد موس إنه في وقت مبكر من ستينيات القرن الماضي بدا له “منطقيا تماما القيام بأشياء إبداعية باستخدام الخوارزميات، وذلك بدلا من كتابة كل كلمة في قصة، أو أداء كل ضربة فرشاة في لوحة أو تأليف كل نوتة موسيقية في لحن…”، ثم انتقل كوب في عام 1981 إلى أجهزة الحاسوب لمطاردة هذه الحلم.
الآلات الإبداعية
كان كوهين وكوب من بين حفنة قليلة من “غريبي الأطوار” الذين يسعون لجعل الحواسيب تنتج أشياء إبداعية وذلك ضد طبيعتها الآلية الباردة، وكان مفهوم الذكاء الاصطناعي في ذلك الوقت ما زال في بداياته ويركز تركيزا مباشرا على بعض المفاهيم الصلبة مثل التفكير والتخطيط، أو على أداء مهام مثل لعب الشطرنج أو حل المشكلات الرياضية، ولم يكن أحد يفكر حينئذ بفكرة “الآلات الإبداعية”.
ولكن ببطء، عندما أطلق كوهين وكوب سلسلة من الأبحاث الأكاديمية والكتب المتعلقة بعملهما، بدأت الأشياء تتغير، وظهر مجال بحثي جديد أطلق عليه اسم “الإبداع الحسابي”، وتضمن هذا المجال الجديد دراسة وتطوير الأنظمة الإبداعية المستقلة، والأدوات التفاعلية التي تدعم الإبداع البشري، والنهج الرياضي لنمذجة الإبداع الإنساني. وفي أواخر التسعينيات، أصبح الإبداع الحسابي منهاجا رسميا للدراسة مع مجموعة متنامية من الباحثين، وفي نهاية المطاف أصبح لهذا العلم الجديد مجلته الخاصة ومؤتمره السنوي أيضا.
وبعد مدة وجيزة أصبح الذكاء الاصطناعي الإبداعي قادرا على استيعاب بيانات العالم الواقعي، وتحديد الأنماط والقواعد التي يمكن أن تنطبق عليها إبداعاته، وذلك بفضل التقنيات الجديدة في التعلم الآلي والشبكات العصبية الاصطناعية حيث تحاول العقد الحاسوبية المتصلة أن تعكس عمل الدماغ، كما يوضح موس في مقالته.
الإبداع حسب المزاج
قضى عالم الكمبيوتر سيمون كولتون -الذي كان يعمل في جامعة “إمبريال كوليدج” بلندن والآن في جامعة “كوين ماري” بلندن وجامعة “موناش” في ملبورن بأستراليا- جزءا كبيرا من العقد الأول من القرن الـ21 في بناء برنامج “بينتينغ فول” (Painting Fool).
وقام هذا البرنامج الحاسوبي بتحليل نصوص المقالات الإخبارية وغيرها من الأعمال المكتوبة لتحديد المشاعر واستخراج الكلمات الأساسية، ثم دمج هذا التحليل مع البحث الآلي في موقع “فليكر” (Flickr) للتصوير الفوتوغرافي لمساعدته على إنشاء صور مجمعة حسب مزاجه في قلب المقالة الأصلية. وفي وقت لاحق، تعلّم الـ”بينتينغ فول” أن يرسم صورا في الوقت الفعلي للأشخاص الذين يقابلهم من خلال كاميرا ملحقة، وذلك حسب “مزاجه الخاص”، وفي بعض الأحيان كان يرفض البرنامج أن يرسم أي شيء وذلك لأنه كان يمر “بحالة مزاجية سيئة”، ولا يرغب في الرسم، كما أكد موس في مقالته.
معنى أن تكون مبدعا
وبالمثل، في أوائل عام 2010 تحوّل الإبداع الحسابي إلى الألعاب، فقد كرّس باحث الذكاء الاصطناعي ومصمم الألعاب مايكل كوك أطروحته لنيل شهادة الدكتوراه من جامعة لندن لصنع “أنجلينا” (ANGELINA) التي صممت ألعابا بسيطة بناء على المقالات الإخبارية من صحيفة “الغارديان” (The Guardian)، وتجمع هذه الألعاب بين تحليل نصوص الأحداث الجارية وتقنيات التصميم والبرمجة ذات الترميز الثابت.
ونقل موس عن كولتون قوله إن أنظمة الذكاء الاصطناعي خلال هذه الحقبة أصبحت تبدو مثل فنانين مبدعين، وذلك من خلال قدرتها على دمج عناصر الإبداع مثل القصد والمهارة والتقدير والخيال، وتبع ذلك الجدل العالمي حول معنى أن تكون مبدعا.
ويؤكد الكاتب أن هذه التقنيات الجديدة التي برعت في تصنيف البيانات إلى درجات عالية من الدقة من خلال التحليل المتكرر ساعدت الذكاء الاصطناعي على إتقان الأساليب الإبداعية الحالية، حيث يمكن للذكاء الاصطناعي الآن إنشاء أعمال مثل أعمال الملحنين الكلاسيكيين والرسامين المشهورين والروائيين العالميين وغيرهم.
فمثلا، بيعت لوحة واحدة من رسم وإبداع الذكاء الاصطناعي على غرار آلاف اللوحات المرسومة بين القرنين الـ14 والـ20 مقابل 432 إلى 500 ألف دولار في مزاد علني، وفي حالة أخرى، عانى كثيرون في التمييز بين العبارات الموسيقية ليوهان سيباستيان باخ وتلك التي أنشئت بواسطة برنامج حاسوبي يسمى “كوليتا” (Kulitta) دُرّب على مؤلفات باخ.
ووصل الأمر إلى الطبخ، فقد دخلت شركة “آي بي إم” إلى الميدان حين كلفت “واتسون للذكاء الاصطناعي” (Watson AI) الخاص بها بتحليل 9 آلاف وصفة لابتكار أفكار المطبخ الخاصة بها.
محاكاة متقنة أم إبداع حقيقي؟
وعند هذه النقطة يتساءل الكاتب مثل كثيرين غيره عما إذا كانت أنظمة الذكاء الاصطناعي هذه تُظهر إبداعا حقيقيا، فكل التجارب السابقة كانت محاولات لتقليد أعمال موجودة حقا، وعلى الرغم من أنها متطورة في تقليدها فإن أنظمة الذكاء الاصطناعي الإبداعية هذه تبدو غير قادرة على الابتكار الحقيقي لأنها تفتقر إلى القدرة على دمج التأثيرات الجديدة من بيئتها.
وفي هذا السياق، قال كولتون وزملاؤه إنها تتطلب “كثيرا من التدخل البشري والإشراف والمعرفة التقنية العالية”. وبوجه عام، كما قال المؤلف الموسيقي بال دالستيد “تقاربت أنظمة الذكاء الاصطناعي هذه نحو الوسط، وخلقت شيئا نموذجيا لما هو موجود بالفعل، في حين من المفترض أن ينحرف الإبداع بعيدا عن كل ما هو نموذجي”.
ومن أجل اتخاذ خطوة نحو الإبداع الحقيقي، اقترح دالستيد أن الذكاء الاصطناعي “يجب أن يفهم ويستوعب ويصوغ أسباب وجود الموسيقى، وشروط ظهورها، وليس نتائجها فقط”.
وهنا يؤكد ريتشارد موس أن “الإبداع الحقيقي يكمن في البحث عن الأصالة، إنه إعادة تجميع للأفكار المتباينة بطرق جديدة، وتقديم حلول غير متوقعة قد تظهر على شكل أدب أو موسيقى أو رسم، وهو أيضا وميض الإلهام الذي يساعد على التقدم في مختلف مجالات الحياة مثل طريقة ترتيب المصابيح الكهربائية في الشوارع، أو اختراع الطائرات، ومن وجهة نظر كثيرين فإن الآلات لم تتمكن من الوصول إلى تلك النقطة”.
الآلات الإبداعية تغير فهمنا لأنفسنا
في السنوات القليلة الماضية، توسعت أنظمة الذكاء الاصطناعي الإبداعية إلى “اختراع الأسلوب” (Style Invention) الخاص بها، وهو ما مكنها من التأليف والإبداع الفردي بدلًا من التقليد، ويعني ذلك وجود “المعنى والقصد”، وهما العنصران الأساسيان في العملية الإبداعية.
أما في رأي ريتشارد موس، فإن عنصر القصد هذا المتمثل في التركيز على العملية الإبداعية أكثر من الناتج النهائي هو مفتاح تحقيق الإبداع، ولكنه يتساءل عما إذا كان المعنى والأصالة ضروريين أيضا، حيث يمكن أن تؤدي القصيدة نفسها إلى تفسيرات مختلفة إلى حد كبير إذا علم القارئ أن مؤلفها رجل أو امرأة أو .. آلة.
وهناك سؤال آخر يطرحه موس: إذا كان الذكاء الاصطناعي يفتقر إلى الوعي الذاتي للتفكير في أفعاله وخبراته، ولإيصال نواياه الإبداعية، فهل هو حقا إبداعي؟ أم إن الإبداع لا يزال مع المؤلف الذي غذى البيانات ووجّهها للعمل؟
في النهاية، قد يؤدي الانتقال من مرحلة الآلات العادية إلى الآلات الإبداعية إلى تغيير فهمنا نحن البشر لأنفسنا؛ فقبل 70 عاما حين ابتكر آلان تورينج -الذي يوصف أحيانا بأب الذكاء الاصطناعي- اختبارا أطلق عليه “لعبة التقليد” (The Imitation Game) لقياس ذكاء الآلة مقابل ذكائنا، كتب فيلسوف التكنولوجيا السويدي جويل بارثيمور “أعظم رؤية لتورينج تكمن في رؤيته لأجهزة الحاسوب كمرآة يمكن للعقل البشري من خلالها أن ينظر إلى نفسه بطرق لم تكن ممكنة من قبل”.