بعد مضي خمسة أشهر على الانتخابات المبكرة، تحول نار الحوارات والمفاوضات السياسية إلى رماد بعد فشل الكتل السياسية الفائزة في الانتخابات بتشكيل حكومة الأغلبية الوطنية بل وحتى التوافقية التي وعدت بها جمهورها، بعد أن ساد التعصب والتصلب في المواقف بدل الاعتدال والمرونة في المشهد التفاوضي، لتبقى تلك الكتل متمسكة بأبراجها العاجية رافضة النزول إلى ميدان التفاوض المرن والإيجابي للاتفاق على برنامج حكومي موحد لخدمة البلاد وشعبها.
بات من الواضح أن الاختلاف بين الكتل السياسية يكمن باللهاث خلف الفوز بالمناصب وكسب المزيد من الامتيازات وليس على البرامج والخدمات المزمع تقديمها لجمهور الناخبين، بعدما اتفقت الكتل على أن لا تتفق دون الاكتراث للنتائج المترتبة على استمرار الخلافات القائمة برغم ما تتسم به هذه النتائج من كارثية.
تفسير المحكمة الاتحادية للمادة 70 من الدستور أوجب حضور ثلثي عدد أعضاء مجلس النواب جلسة انتخاب رئيس الجمهورية، وهذا التفسير أجبر الكتل الفائزة على وضع فكرة تشكيل حكومة الأغلبية على الرفوف والتفكير حصراً بتوافق بات صعب المنال والتحقق.
الانقسام الثلاثي
انقسمت الساحة السياسية إلى ثلاثة أطراف متنافسة، الطرف الأول يتمثل بتحالف إنقاذ وطن غير المعلن رسمياً، ويشمل التيار الصدري وتحالف السيادة والحزب الديمقراطي الكوردستاني وقوامها 148 – 160 نائباً. وتفاوت العدد النهائي لهذه الفئة سببه الغموض في موقف الكتل السنية المنضوية داخل تحالف السيادة، إذ أن العدد النهائي للنواب ليس معلوماً بالضبط ولم يتم الإعلان رسمياً عن الأسماء المنتمية لتحالف السيادة، وعليه فإن العدد النهائي لأعضاء كتلة إنقاذ وطن غير محدد حتى اللحظة.
كتلة إنقاذ وطن لم تتمكن من استقطاب أي كتلة سياسية كما عجزت عن إقناع بعض النواب المستقلين بالانضمام لها. في ذات الوقت، شهد التحالف تشنجات داخلية لأسباب عدة. إذ بات رئيس مجلس النواب محمد الحلبوسي يشكو كثيراً من تمدد صلاحيات نائبه الأول وخصوصاً فيما يتعلق بعقد اجتماعات مع رؤساء الكتل النيابية والاستضافات والمراسلات الرسمية الموجهة للجهات التنفيذية، وإجباره على استخدام عبارة هيئة الرئاسة بدل الرئيس ونوابه. ومن جهته أبدى الحزب الديمقراطي الكوردستاني امتعاضه من ضعف موقف شركائه في التحالف إزاء إصدار المحكمة الاتحادية العليا قرارين جاءا بالضد من مصالح الحزب، القرار الأول استبعاد مرشحه لمنصب رئيس الجمهورية هوشيار زيباري، والثاني الذي شكل ضربة قاضية لملف النفط والغاز في إقليم كوردستان. رئيس الوفد التفاوضي للحزب، القيادي فاضل ميراني، وجه عتباً شديداً لقيادات التحالف في اجتماعه الثلاثي المنعقد في بغداد يوم 27 شباط الماضي، وقد أفاد مصدر مطلع بأن ميراني طالب قيادات التحالف بإبداء مواقف واضحة وصريحة مما يتعرض له حزبه. في المقابل بدأت الشكوك تراود التيار الصدري حيال مغزى الاجتماعات التي عقدها حلفاؤه مع الإطار التنسيقي خاصة لقاءات وفد الديمقراطي مع الإطار ومع زعيم دولة القانون نوري المالكي. ولا يخفي زعيم التيار الصدري إحباطه مما آلت اليه الأوضاع داخل تحالف إنقاذ وطن والعملية السياسية برمتها، وقد نُقل عنه بأنه أبلغ حلفاءه بأنه قد يذهب إلى المعارضة وعند ذاك سيكونون في “حل عنه” إذا اختار ذاك الطريق. بل كشف المصدر المقرب من زعيم التيار بأن الصدر مستاء من كثرة طلبات الشركاء وقلة عطائهم لمصلحة التحالف.
الطرف الثاني ممثلاً بالإطار التنسيقي والذي يعلن بين حين وآخر بأنه بصدد تشكيل كتلة جديدة باسم الثبات الوطني تشمل الاتحاد الوطني الكوردستاني وتحالف عزم بقيادة مثنى السامرائي، من دون صدور أي رد رسمي من الاتحاد أو عزم حيال الكتلة المقترحة، وقال المتحدث باسم دولة القانون بهاء النوري في تصريح متلفز بأن الكتلة الجديدة قوامها 133 نائباً.
بدأ الإطار التنسيقي مشواره بعد الانتخابات بحراك غير مسبوق من تنظيم تظاهرات أمام المنطقة الخضراء وتقديم دعاوى أمام المحكمة الاتحادية للتشكيك بنزاهة الانتخابات، مطالباً بإعادة الفرز والعد اليدوي. كما انتقل كذلك إلى مرحلة التفاوض المعلن مع التيار الصدري عبر سلسلة لقاءات مكوكية لمناقشة المواقف السياسية لكلا الطرفين، وكاد الإطار أن ينقسم على نفسه لولا رسالة وصلته من المرشد الأعلى لجمهورية إيران الإسلامية ومفادها ضرورة البقاء على تماسك أطراف التحالف والحفاظ على وحدة الموقف. والتي على أثرها بدأ التحالف يحرص على ضبط إيقاع حراكه وتحديد مواقفه التفاوضية، بل حاول التمدد عبر استقطاب عدد غير قليل من المستقلين، ليأتي قرار المحكمة الاتحادية بتفسير المادة 70 ويمنح التحالف مع شركائه قوة تعطيل جلسة انتخاب رئيس الجمهورية في حال عدم توافق التيار الصدري معه. وهنا أخذ الإطار يتنفس الصعداء مخففاً من اجتماعاته الدورية، بل وإلغاء لقاءات مقررة مسبقاً مع التيار الصدري، إذ أن آخر اجتماع بين قيادات الإطار مع زعيم التيار كان قبل قرابة الشهرين، لينقطع الاتصال بين الطرفين منذ ذلك الحين. بات الإطار متيقناً من عدم قدرة التيار الصدري على المضي بتشكيل الحكومة من دونه، لا بل ان بمقدوره فرض الشروط التي يراها مناسبة إذا ما أراد الصدر تشكيل الحكومة، وفي حال اختار الصدر الذهاب إلى المعارضة فإن التحالف سيظفر بفرصة تشكيل الحكومة دون عناء في ظل توفر أكثر من مرشح لديهم لتولي رئاسة مجلس الوزراء.
المستقلون وبعض الكتل الصغيرة غير المنضوية إلى أي من الطرفين الأول والثاني هم من يشكلون الطرف الثالث في معادلة الانقسام القائم، والذي يتفاوت قوامه بين 36 – 55 نائباً. يتصدر الطرف الثالث كتلة الجيل الجديد 9 نواب وكتلة إمتداد 9 نواب وقد اعلنتا في 15 كانون أول الماضي عن تحالفهما تحت عنوان من أجل الشعب، وانضم اليهما نحو 15 نائباً مستقلاً بحسب مصادرهما ليشكلوا معا كتلة قوامها 33 نائباً، ولم يكشف عن أسماء التحالف كاملاً بشكل رسمي حتى الآن. يرى مراقبون بأن تحالف من أجل الشعب تحالف غامض الملامح بسبب تباينات حول شكل ومضمون البرامج وأولويات الشركاء، إذ أن برنامج الجيل الجديد لا يتماثل مع برنامج وأولويات امتداد والعكس صحيح. ولم يجر اختبار النوايا والثوابت في أي مشتركات تنفيذية أو حتى تفاوضية ليبين ويؤكد مدى رسوخ وثبات هذا التحالف في المرحلة الراهنة ولكن يفي بالقول بأنهما اختارا المعارضة بدل المشاركة في الحكومة.
مراقبون يعتقدون بانه كان أمام المستقلين فرصة ذهبية لتغيير المعادلة السياسية باصطفافهم مع إحدى الأطراف المتنافسة وإجبارهم على المضي بتنفيذ الاستحقاق الانتخابي وما يتوجب تطبيق برنامجهم على الأرض فور التئام البرلمان الجديد. لكن تلك الكتل اتخذت موقف المراقب للأحداث دون المساهمة في صنع أو تغيير القرارات أو مضامينها ومساراتها ويعود ذلك إلى نقص الخبرة وضعف التجربة البرلمانية وبلوغ النضج السياسي، مما أفقدهم مثل هذا التأثير، حتى يكاد الجميع متفقاً على وصف أدائهم خلال الشهرين الماضيين داخل قبة مجلس النواب بالمتواضع.
كل حزب بما لديهم فرحون
على ما يبدو فإن الأطراف الثلاثة ليست على عجلة من أمرها في تشكيل الحكومة أو إكمال متطلبات الاستحقاق الإنتخابي وترسيخ العمل الديمقراطي، كوننا أمام تماهل في خلق تفاهمات ومماطلة باللقاءات وتسويف لما يتم تداوله وتبنيه في الاجتماعات بل وعدم الإفصاح عن النوايا واعلان المواقف، فضلاً على تجاهل وعدم مراعاة التوقيتات الدستورية،،، كل ذلك يؤكد وبوضوح بأن كل حزب بما لديهم فرحون بمعنى أنهم لا يريدون التفريط بما لديهم من مواقع ومكاسب ومغانم في السلطة السياسية الحالية وحكومتها القائمة.
التيار الصدري يتصدر المشهد السياسي ولديه قبضة حديدية تكاد تتحكم بكل مفاصل المشهد الحاكم كما أنه هو الفاعل الأساسي داخل الساحة السياسية، وهذا ما أشار إليه الصدر في مؤتمر صحفي يوم 18 كانون ثان في معرض رده على سؤال حول تأخر تشكيل الحكومة بقوله “إطالة الأمد ليس في صالح أحد أبداً، مع العلم أنا لست متضررا”. والصدر كان واضحاً وصريحاً وواثقاً من قوله كونه يمتلك نفوذاً واسعاً داخل السلطتين التشريعية والتنفيذية، إذ أن كتلته داخل مجلس النواب هي الكتلة الأكبر ويتحكم ببرنامج مجلس النواب بواسطة تحالفه مع رئيس مجلس النواب، إلى جانب تسميته لقيادي ذي خبرة برلمانية من التيار لتسنم موقع النائب الأول لرئيس مجلس النواب، ليصبح نفوذه مكتملاً لتمرير قوانين ومشاريع الإصلاح التي ينادي بها، وكذلك ضرب الخصوم عبر إقرار وتشريع القوانين التي تستهدف مصالحهم ومصالح أحزابهم وبالتالي إضعاف حضورهم والحد من قدرتهم على التأثير في القرار السياسي الجمعي. يضاف لذلك تعاون رئيس مجلس الوزراء الحالي مع التيار الصدري وزعيمه واستجابته لطروحاته وتوجهاته بشكل كامل، والذي دفع زعيم التيار في احدى اجتماعاته الرسمية بوصفه “صدري قح” كما لم يخف دعمه لتجديد ولايته لدورة ثانية. وتجلى هذا الدعم الصريح باستقباله الكاظمي في الحنانة لمرتين على التوالي، إضافة إلى تمكين التيار من الفوز بمناصب قيادية في الحكومة، نافذة لم تتوفر له من قبل ولعل منصب محافظ النجف الاشرف خير دليل على ذلك.
القوى السياسية المنضوية تحت لواء الإطار التنسيقي من جانبها مازالت تتحكم بثماني وزارات مجتمعة ولديها نفوذ واسع داخل الحكومة الحالية وفي مجلس الوزراء وتحظى هي الأخرى بدعم رئيس مجلس الوزراء كونها تشكل بالنسبة له عاملاً ضرورياً للتقدم نحو الولاية الثانية، لذلك يتحاشى التعرض لها ومقاطعة توجهاتها، في ظل استمرار المكاتب الاقتصادية التابعة لبعض تلك القوى بنشاطها المهيمن على مقدرات الدولة لصالح أحزابها. فيما يجري الحديث على ضمان منح الإطار 4 – 6 وزارات في الحكومة الجديدة في حال الاتفاق مع التيار الصدري، لذا فإن بقاء الوضع على ما هو عليه سيكون بصالح تلك القوى كونه يحفظ لها الإبقاء على نفوذها وامتيازاتها المتحققة.
تحالف السيادة وقياداته حقق أهدافه السياسية، إذ تمكن زعيم تقدم والقيادي في التحالف محمد الحلبوسي من تجديد ولايته بأغلبية ساحقة داخل مجلس النواب، والتحالف لديه 6 وزارات في الحكومة الحالية، فضلاً على تنامي نفوذه الواسع أصلاً داخل المناطق السنية التي تشكل ذروة ما يطمح إليه. مع احتفاظه بعلاقة وطيدة مع رئيس مجلس الوزراء الحالي تضمن تلبية متطلباته، ولعل آخرها تنصيب رئيس جديد للوقف السني. لذا فإن استمرار الوضع الحالي أو تشكيل حكومة جديدة سيان لتحالف السيادة، وهذا ما لا يدفعهم إلى التعجيل بإجراء أي تغيير بانتظار ما يقرره بقية الشركاء.
الاتحاد الوطني الكوردستاني مازال متربعاً على عرش رئاسة الجمهورية ولديه وزارة العدل حالياً، فيما يجب عليه التفاوض بقوة تكتنفها صعوبات للحصول على رئاسة الجمهورية مجدداً فحسب، وعلى أغلب الظن سيخسرون وزارتهم الوحيدة في حال تشكيل الحكومة الجديدة واحتفاظهم برئاسة الجمهورية، لذلك يعد الوضع الراهن مناسباً لهم إلى حد كبير.
الحزب الديمقراطي الكوردستاني حصل مجدداً على منصب النائب الثاني لرئيس مجلس النواب ولديه وزارتان، ويتمتع أيضاً بعلاقات متينة مع رئيس الحكومة الحالي، وقد لا يضمن مثل هذه العلاقة في حالة تغيير الحكومة ومجيء رئيس وزراء آخر، خاصة بعد إصدار المحكمة الاتحادية قرارها حول عدم دستورية قيام إقليم كوردستان بتصدير النفط والغاز. بمعنى آخر، ان الوضع الحالي مازال في صالح الديمقراطي برغم اعتقاده بأن استحقاقه أكبر من الاستحقاق الحالي وهذا ما يدفعهم للتحرك اللافت نحو تشكيل الحكومة القادمة.
ناقوس الخطر يدق من جديد
الحرب الروسية الأوكرانية دخلت أسبوعها الثالث، وقد تكون عواقبها كارثية على العالم بأكمله، والعراق كما هو معروف ليس بمنأى عن هذه العواقب، إذ ان استمرار وتطور هذه الحرب قد يضع العراق على حافة الهاوية، خصوصاً فيما يتعلق بأسعار المواد الغذائية والسلع والخدمات. إذ ان اقتصاديات الدول الكبرى تمكنها من كبح جماح انعكاسات الحرب على أسواقها، في حين مازال العراق يترنح تحت اقتصاد ريعي مقيد من دون أن يتقدم خطوة واحدة إلى الأمام، مع تراجع مقلق للقطاعين الزراعي والصناعي وافتقاده للحد الأدنى من الأمن الغذائي. وفي حال توقف الاستيرادات فإننا سنكون أمام مجاعة حقيقية، فضلاً على الانعكاسات العسكرية والأمنية الأخرى. ومن الوارد أيضا خسارة العراق لشركات الطاقة الروسية العاملة في عدة مواقع نفطية بجنوب البلاد وشمالها، جراء حزمة العقوبات الدولية الرامية لضرب المصالح الروسية.
على القوى السياسية الالتزام بالتوقيتات القانونية والدستورية ومراعاة الاستحقاقات الإنتخابية واحترام تعهداتها لجمهورها، وعدم الاكتفاء بأداء اليمين الدستوري وانتخاب رئاسة مجلس النواب، فيما فشلت في انتخاب رئيس الجمهورية وما يعقبه من تكليف مرشح الكتلة البرلمانية الأكبر بتشكيل الحكومة.
ان استمرار الوضع على ما هو عليه لن يطول، سواء كانت أسابيع أو أشهر، وعلى هذه القوى أن تدرك جيداً انها ستكون في مواجهة ناخبيها عاجلاً أو آجلاً، لتستجدي أصواتهم من جديد برغم فشلها في تحقيق التزاماتها القانونية والوطنية والأخلاقية فضلاً على إخفاقها في إنجاز برامجها ووعودها الإنتخابية، فالناخب العراقي لن يغفر لقوى وأحزاب عجزت عن تقديم الخدمات وتأمين فرص العمل وتوفير الغذاء.
حقيقة أن الأحزاب الحاكمة أمام مجازفة محفوفة بالمخاطر، تغامر بتاريخها وجماهيرها ووجودها باحثة عن امتيازات ومكاسب آنية على حساب معاناة شعب ومستقبل بلد بأكمله، متناسية احتمالات ليست ببعيدة بردود فعل عنيفة بإمكانها أن تقلب الطاولة على رؤوس الجميع، إن نار انتفاضة الشارع أصبحت رماداً ولكنها قد تشتعل من جديد وحينذاك سيخسر الجميع دون استثناء وتكون النتائج كارثية، ومن الصعوبة إن لم يكن من المستحيل تداركها.
فرهاد علاء الدين
رئيس المجلس الاستشاري العراقي