“لم يعد لدي الكثير لأقدمه كممثل سوى دور الملك لير” هذا ما قاله دينزل واشنطن عن مشروعاته المستقبلية بعد فيلم “تراجيديا ماكبث” الذي يعرض يوم 25 ديسمبر/كانون الأول الجاري، وبقدر ما أثار التصريح من لغط حول الممثل الحاصل على جائزتي أوسكار، فإن تقديراً من نوع خاص سيناله دينزل وهو اختيار الوقت المناسب للقرارات مهما كانت صعوبتها.
لم يكن مشوار دينزل، الذي أوشك على نهايته، مجرد محاولة من شاب لفرض موهبته على المجتمع الأميركي المصاب بعنصرية بغيضة تضرب في أعماقه ولكنها محاولة لتأكيد الوجود الأفريقي الأميركي، وقدرته على الوقوف بندية أمام مختلف الأعراق، ذلك أنه ثاني ممثل من أصول أفريقية ينال جائزة الأوسكار بعد سيدني بواتييه، وهو أول ممثل أسمر يصبح رمزاً للوسامة طوال 30 عاماً في مجتمع يضم كافة الأعراق على الكرة الأرضية.
اقتحم دينزل عالم هوليود بشروطه الخاصة، فالصبي القادم من بيت قائم على الدين لم يتنازل عن تلك القيمة، حتى أنه تبرع بأكثر من مليوني دولار لبناء كنيسة، وصرح بأحد الحوارات أنه يقرأ في الإنجيل يومياً. فالأب كان واعظا يدير كنيستين ويعمل موظفاً بإدارة المياه في نيويورك، والأم تمتلك صالونا للتجميل، وقد ورث عن والده تلك القدرة على الخطابة الوعظية والإرشادية.
اشتهر دينزل بضحكته الصافية المجلجلة، وأدائه المتقن لأدواره سواء في السينما أو المسرح أو العروض التلفزيونية، ولكن بداياته كانت تشهد أن ثمة مراهق حائر لم يكن يعرف ماذا يريد حتى صادف عرضاً تمثيلياً شارك فيه بالمدرسة، وقرر بعدها أنه يريد أن يصبح أفضل ممثل في العالم.
قدم الممثل، المولود عام 1954 في نيويورك، ما يقرب من 61 فيلماً فضلاً عن 11 عملاً تلفزيونياً، و9 مسرحيات، وفاز بجائزتي أوسكار، وجائزتي غولدن غلوب عن 9 ترشيحات في كل جائزة، كما فاز بجائزة توني كأحسن ممثل مسرحي وحصل على الدكتوراه الفخرية.
رغم حضوره القوي في هوليود فإن دينزل بلا أصدقاء هوليوديين، لكن طلاقته في الخطابة رشحته في الكثير من المناسبات لإطلاق الخطابات التحفيزية التي اعتبرها خبراء التنمية البشرية مثالية لبعث الأمل والدفع بالإرادة الشخصية لمن يريد النجاح إلى أقصى قدرة ممكنة.
لم يتوقف دينزل في دوره الاجتماعي على الخطابة والتبرعات، وأصدر كتابا بعنوان “يد لترشدني” يدعو فيه إلى الاستمرار بالمحاولة لتحقيق الحلم مهما فشل الشخص أو قابل من معوقات لأن شرف المحاولة أفضل من الاستسلام.
بدأ على خشبة المسرح، ومن ثم انتقل إلى الدراما التلفزيونية التي دفعت به إلى السينما في فيلم “صرخة الحرية” (Cry Of Freedom) عام 1987 الذي منحه أول ترشيح للأوسكار.
لكن التاريخ الحقيقي للفنان الصاعد بدأ مع فيلم “المجد” (Glory) عام 1989 وحصل عن دوره فيه على أوسكار أحسن ممثل مساعد. وتدور أحداثه حول روبرت غولد شو الذي يقود أول مجموعة من السود بالحرب الأهلية الأميركية، ويحارب الأطراف الخارجة على فكرة الوحدة.
وانطلق بعدها دينزل كفرس جامح أطلق في ساحة خالية، وأبدع في أدوار متنوعة بين محقق قعيد ورجل شرطة فاسد ومدرب كرة قدم بالمدارس الثانوية وحارس خاص وغيرها.
استطاع أن يوضح الفارق بينه وبين كل الممثلين الآخرين حين قدم فيلم “مالكولم إكس” (Malcolm X) عام 1992، فالدور الذي اضطلع به للزعيم الأفريقي الأميركي المسلم مالكولم إكس قد يكون مكررا باعتباره مقتبسا من مذكرات إكس، لكن النجم الأسمر تجاوز الحدود في التفاعل مع الشخصية وإعادة إنتاجها بشكل مدهش، وكان الفيلم هو التعاون مع المخرج الهوليودي “سبايك لي” الذي قدم معه بعد ذلك “حصل على لعبة” (He Got a Game) عام 1998 ثم الدخيل (Inside Man) عام 2006.
وفي فيلمه “فيلادلفيا” (Philadelphia) عام 1993 يواكب دينزل الأجواء المسيطرة على العالم حينها والمرتبط بالرعب من مرض الإيدز، ولكنه يتعامل مع الرسالة الحقيقية للفن دفاعا عن مصابي المرض، وشاركه بالعمل النجم توم هانكس، حيث أدى دينزل دور محام طرد من عمله بسبب إصابته بالإيدز.
ويعد فيلم “يوم التدريب”(Training Day) عام 2001 محطة فارقة أخرى في مشوار دينزل حيث قدم أداء تفوق به على العديد من النجوم الذين اشتهروا بأداء دور الشرطي السيئ مثل راسل كرو وشين بين. ويدور الفيلم حول اليوم الأول لشرطي جديد يقوم بدوره الممثل إيثان هوك، وشاركه ضابط أقدم منه في العمل.
ولعل الطبيعة الشخصية لدينزل أدت إلى المشاركة بصناعة فيلم مميز هو “كتاب إيلاي” (Book Of Eli) عام 2010، فنجد شخصا أسمر يتسم بالهدوء يخوض رحلة من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب، يحمل رسالة ويستميت في الدفاع عنها رغم محاولات المغامرين والقتلة وقطاع الطرق السطو عليها.
يحارب الرجل ببسالة وقوة وشجاعة حتى يصل إلى متحف الحضارة الإنسانية، فيبدأ في تلاوة “الإنجيل” ليقوم أمين المتحف بكتابته وطبعه ووضعه على أحد أرفف مكتبة هائلة الحجم بجوار القرآن الكريم لحفظ هذه الكتب أو الرسائل للأجيال القادم بعد انهيار الحضارة الإنسانية.
ويعد فيلم “المد القرمزي” (Crimson Tide) عام 1995 واحدا من أكثر أفلام دينزل إثارة وجمالا، جسّد الصراع الدائم بين الواجب الوظيفي لضابط مساعد بسفينة نووية والقائم على طاعة أوامر القائد، والخطر المتجسد في إطاعة هذه الأوامر بصورة مطلقة على الكيان بكامله، مما يدفعه للقيام بتمرد وعزل قائده لحماية السفينة نفسها.
قدم دينزل الكثير من الإبداع عبر تجربته، لكن مشواره نفسه يعد إبداعاً من نوع خاص، إذ تغلب على حاجز العرق في وقت مبكر، وتمسك بمنظومة قيم لم تستطع هوليود تجريده منها، وها هو يقترب من نهاية مشوار القمة ليقف خلف الكاميرا مخرجاَ ومنتجاَ في مشوار جديد.