مخلوقان يغنيان لبعضهما بعضا بلطف، ويتبادلان سلسلة من التغريدات والزقزقات. إذا أغمضت عينيك واستمعت، فقد تعتقد أنك تسمع عصفورين. لكن الأمر ليس كذلك.
في الواقع، إنهما زوج من نوع معين من الفئران يوجد في الغابات السحابية في أميركا الوسطى، وهي قوارض صغيرة تدعى فئران “ألستون” الغنائية (Scotinomys teguina)، وهي تتواصل مع رفاقها من خلال الغناء بحماس.
تقع أصوات هذه الفئران في الغالب خارج النطاق المسموع لدى البشر، إلا أن الباحثين كشفوا عن “سيمفونياتها” الجميلة من خلال تسجيل أصواتها بتردد يمكننا سماعه. وهذا يدحض الافتراض الشائع أن الطيور المغردة هي الوحيدة، بخلاف البشر، التي تغني.
تغني الحيوانات مع بعضها بعضا أكثر مما قد نتوقعه أو نعرفه نحن البشر. ولكن ما الأنواع التي تفعل ذلك؟ وهل تغني فقط للعثور على رفقاء للتزاوج وتحديد منطقتهم أم ربما لمجرد الاستمتاع أيضا؟
تقول الكاتبة بموقع “لايف ساينس” (livescience) العلمي إيما بريس “للإجابة على هذه الأسئلة نحتاج أولا إلى فهم الفرق بين الأغنية والأصوات الأخرى بالنسبة للحيوانات، يعرف قلة من الباحثين الأغنية على أنها سلسلة من النغمات، والتي قد تتكرر على مدى فترة زمنية إلى شيء يشبه ما نسميه اللحن”.
ويقول أستاذ علم الأحياء في جامعة “هارفارد” (Harvard University) بريان فاريل، الذي يخصص جزءا من بحثه لدراسة أصوات الحيوانات، للايف ساينس “كل الأغاني أصوات، ولكن ليست كل الأصوات أغاني”. من خلال هذا التعريف، فإن نباح الكلب، أو نقيق الضفدع، ليس بالضرورة غناء.
ويضيف أن الأغنية تنطوي على درجة من التركيب ناتجة عن القدرة على الارتجال. ومن المثير للاهتمام أن الحيوانات التي تستطيع الغناء غالبا ما تكون قد تعلمت ذلك من والديها، فهي لا تولد بهذه القدرة. ويعتقد فاريل أن هذا التعلم المرن يدعم القدرة على الارتجال.
وفيما يلي بعض أنواع الحيوانات التي لديها قدرات غنائية مذهلة:
الخفاش المكسيكي ذو الذيل الحر يحاول جذب انتباه الإناث أثناء موسم التزاوج بنبرة عالية
الخفاش المكسيكي يغازل زوجة المستقبل
الخفاش المكسيكي ذو الذيل الحر (Tadarida brasiliensis) يحاول جذب انتباه الإناث أثناء موسم التزاوج بنبرة عالية، يحتاج البشر لالتقاطها باستخدام معدات صوتية خاصة كي يتمكنوا من سماعها.
وبعدما ينجح ذكر الخفاش في جذب اهتمام رفيقته المحتملة، تصبح الأمور مثيرة للاهتمام أكثر، لأنه بسرعة يطوّر أغنيته البسيطة لدمج مجموعة متنوعة من التسلسلات، لإبقاء الأنثى مفتونة لفترة كافية لبدء التزاوج. وفقا لدراسة أجريت عام 2013 ونشرت في مجلة “أنيمال بيهافير” (Animal Behavior) يمكن للخفافيش أن تعيد تنظيم هذه التسلسلات بسرعة لاستنباط ما تحبه الأنثى.
“الغيبون” مطرب الأوبرا
يتحدى حيوان الغيبون (gibbon) البشر من حيث كونه أحد أرقى المطربين في عالم الرئيسيات. بالطبع لا تغني جميع أنواع الغيبون، ولكن تلك التي تغني تنتج نغمات معقدة تتداخل عادة لفترة طويلة، وتطلق صرخات صاخبة مع دفعات أقصر من الصوت، باستخدام الآليات الصوتية التي اكتشفها الباحثون شائعة بين مطربي الأوبرا أيضا.
تعتمد تركيباتها الموسيقية أيضا على السياق، حيث اكتشف الباحثون أن التنبيهات الخاصة بالحيوانات المفترسة والتي يستخدمها بعض أنواع الغيبون لها ترتيب فريد من الأصوات التي لا تُسمع في المكالمات العادية، إضافة إلى أن الغيبون يُعرف أيضا بغناء الثنائيات “الدويتو”، والتي يعتقد الخبراء أنها تساعد على تقوية الترابط الاجتماعي وترسيم المنطقة الخاصة بها.
لا تغني جميع أنواع الغيبون لكن تلك التي تغني تنتج نغمات معقدة تتداخل عادة لمدة طويلة
ومع ذلك، فإن هذه الرئيسيات ليست الحيوانات الوحيدة التي تستمتع بالغناء. ففئران ألستون أيضا تغني في شكل ثنائيات، وهي تفعل ذلك بلطف شديد، ويمكن أن تحتوي أغانيها على ما يقرب من مئة نوتة موسيقية.
وتظهر الدراسات أن الحيوان الذي يغني لن يقاطع قط أغاني حيوان آخر، حيث يتوقف كل فأر مؤقتا لجزء من الثانية حتى ينتهي رفيقه، ومن ثم يبدأ أغنيته الخاصة. يحاول علماء الأعصاب معرفة الأساس العصبي لهذه القدرة على التوقف المؤقت، ليروا ما قد يخبرنا به عن الجذور التطورية للمحادثات بين البشر، والتي قد تكون مبنية على تبادل الأدوار أيضا.
دندنة الحيتان
ولن يكتمل أي حديث حول الغناء بالطبع من دون ذكر الألحان المؤرقة للحوت الأحدب (Megaptera novaeangliae). في عام 1970، استحوذ عالم الأحياء الأميركي روجر باين على مخيلة الجمهور عندما أجرى التسجيلات الأولى لأغاني الحيتان، ووزعها على نطاق واسع.
يقول فاريل إن أغاني الحيتان المفعمة بالحيوية أحدثت تأثيرا كبيرا حتى إنه يُنسب إليها الفضل في تحفيز الزخم ضد صيد الحيتان خلال السبعينيات، مما أدى في النهاية إلى وقف شبه عالمي.
أحدثت أغاني الحيتان المفعمة بالحيوية تأثيرا كبيرا إذ يُنسب إليها الفضل في الزخم ضد صيد الحيتان
أظهرت تسجيلات باين أيضا، ولأول مرة، أن دندنة الحيتان تتكون من أشكال مميزة ومتكررة. يقول فاريل “كان باين بالفعل أول شخص اكتشف أن هذه الأصوات التي نطقت بها الحيتان لمدة 20 دقيقة هي في الواقع مؤلفات”.
ومنذ ذلك الحين، اكتشف الباحثون أن الحيتان لها أغان فريدة يمكن استخدامها للتعرف عليها، وأن أنواع الحيتان الأخرى، بما في ذلك الحيتان القاتلة (Orcinus orca) وحوت بيلوغا (belugas) والحوت الأبيض (Delphinapterus leucas)، تغني أيضا.
لماذا تغني الحيوانات؟ وهل تستمتع بالغناء؟
يقول فاريل إنه، بالإضافة إلى التنافس على الأرض والأزواج والطعام، يتعين على الحيوانات التي لها المساحة الصوتية نفسها أن “تتنافس على النطاق الترددي” حتى يُسمع صوتها.
فقد اتضح أن الغناء له مزايا الإرسال لمسافات طويلة، والقدرة على حمل الكثير من المعلومات في تسلسله الطويل. وهذا مفيد عندما تستخدمه الحيوانات لترسيم حدود المنطقة، وتنبيه الآخرين إلى الحيوانات المفترسة، أو جذب رفيق له مآثر صوتية رائعة، مثل الخفافيش ذات الذيل الحر.
وبخلاف هذه الأدوار الوظيفية، هل تغني أي حيوانات لمجرد الاستمتاع؟
الحيتان القاتلة من الأنواع الأخرى التي تغني أيضا
يقول فاريل لا توجد إجابات واضحة وسريعة على هذا السؤال، نحن نعلم أن الحيوانات تلعب وأن لديها حياة عاطفية. و”هذان الشيئان موجودان وهناك بحوث كثيرة حولهما”. وهناك أيضا أدلة متزايدة على أن الحيوانات لديها استجابة عاطفية للموسيقى.
على سبيل المثال، درس الباحثون تأثير مؤلفات موزارت على الفئران، التي يمكنها سماع أعلى نغمات تردد للموسيقى، ووجدوا أن الموسيقى تخفض ضغط الدم لدى الفئران، كما يرتبط سماع الموسيقى عموما بمشاعر الهدوء.
ولكن هل يمكننا أن نستنتج من هذا أن الحيوانات تغني من أجل المتعة فقط؟ يميل فاريل إلى الاعتقاد بأن هناك مكونا عاطفيا لأغاني الحيوانات، لكن هذا يتجاوز قدرتنا البحثية الحالية للتأكيد، ولكن بالتفكير في أصوات الغيبون المرحة، والثرثرة المتعاطفة للفأر الغنائي، ولحن الحوت الروحي، من الصعب تصديق أنه لا توجد مشاعر وفرح منسوجان في أغاني الحيوانات. هذا لغز يجب اكتشافه في يوم آخر.