مالئ الدنيا وشاغل الناس وباعث شغفهم بالشعر، وما زالت أبياته الشعرية قادرة على أن تكون حكمًا وأمثالًا وفلسفة ومرجعًا في اللغة واللسانيات وحتى في الفقه.
إنه الشاعر أبو الطيب المتنبي الذي منذ أن عرف الأدب العربي أن الشعر ديوان العرب كان أحد فرسان الشعر وما زال من أشهر الشعراء عبر العصور، منذ زمن ظهور الشعر العمودي في العصر الجاهلي وقبله وبعده، أو كما قيل عنه إنه “فرّ” من زمانه بعبقريته، وجاء إلى زماننا، فهو ذاته في القوّة بين المديح والهجاء وبين الذم والعنفوان؛ حتى يخيّل لمن يقرأ شعره أنه يتلمّس تلكم (الأنا) التي جعلته مخلّدًا.
لذا يبدو السؤال واقعا: ما الذي جعل المتنبي يحافظ على هذه المكانة في عصور أخرى غير عصره؟ وما مدى اختلاف أثر شعره وقوّته وبيانه عن الشعراء الآخرين؟ وإن كانوا تمتّعوا بالشهرة لكنها لم تأت بمثل شهرة المتنبي الذي لقّب بالعديد من الألقاب التي تؤدّي كلها إلى عظمة شعره وبلاغته، وكأنه يستولي على الواقع كلّه وكونه.
مختصر الدليل
هو أحمد بن الحسين بن الحسن بن عبد الصمد الجعفي الكندي الكوفي، وجعفي جد المتنبي هو ابن سعد العشيرة من مذحج، وكندة التي ينسب إليها محلة بالكوفة وليست كندة القبيلة.
ولد في الكوفة عام 303 هـ-915 م ونشأ فيها، وتوفي عام 354هـ-965 م، وربما يكون الشاعر الأكثر شهرة بين شعراء عصره، وهو الأكثر إلهامًا لشعراء آخرين منذ العباسيين، وقد فاق من قبله، وربما هو الوحيد الذي لا يمكن جمع الأوصاف التي تطلق عليه، فمنها نادر زمانه، وأعجوبة عصره، الشاعر الحكيم، ومفخرة الأدب العربي، والذكي والداهية والحاد في شعره، والمبكّر في الموهبة، إذ قال الشعر وهو صبي، ونظم أوّل أشعاره وعمره 9 سنوات.
بناء وصنعة
فما الذي يجعل المتنبي خالدًا حتى اليوم؟ يجيب عن السؤال الشاعر والناقد الأكاديمي الدكتور عمار المسعودي بقوله إن “اكتمال تجربة الشعر العربي قد نضجت واستوت في بئر منقطعة العذوبة لأبي الطيب؛ احتشاد في المعنى،، وتلاوين في الحكمة واشتداد في الصنعة، فالفن صناعة وضرب من التصوير كما تدار هذه المصطلحات في مدونات نقادنا القدماء ممن قعّدوا وأرسوا القواعد الشعرية”.
وهو ما جعل المتنبي “الوريث لأمة من الشعر والنثر والصوفية والقرآنية التي تشرّبها هذا البارع الحاذق صانعًا مجدًا لا يدانيه مدان، ولا يقاربه مقارب، كون المدوّنة الشعرية المتنبوية هي بوتقة البوح حتى استوى عميقًا على مستوى البناء”.
وعما اجترحه المتنبي من صنعة، يقول الناقد المسعودي إن مدوّناته “تستوي فيها الفكرة أو الغرض مع المقدمات ومع المقام، وهو رجلٌ يعرف استعمال القوافي واستعمال البحر بميزان ذهب يوزّع بعدالة وحكمة كل شيء” ويشير المسعودي إلى ما قاله المتنبي في مديح سيف الدولة (تدوس بك الخيل الوكور على الذرى.. وقد كثرت حول الوكور المطاعم).
ويكمل المسعودي “لو نقرأ هذا البيت قراءة عميقة متفحّصين أجواء المقال والمقام لوجدنا أنه لم يستعمل المجاز، بل كان مسترسلًا في بساطة الخبر وسهولة تشرّبه واستيعابه وهو يدور بين فائدة الخبر ولازم الفائدة”.
ويرى المسعودي أن شعر المتنبي “فن دقيق يذهب بالشعرية إلى وضوح الفكرة وجوهرية اللعب الأسلوبي الذي يوفر للمتلقّي فرصة الدهشة”، ومن جهة أخرى يرى الناقد أن المتنبي “يتعالى على البلاغة، يأخذها بطرف عينٍ” ويزيد على قوله أنك في شعره “لا تجد بلاغية، بل تجد إبلاغًا شعريًّا وهذه قمة الشعرية”.
ديمومة الذكر وتوهّج المعاني
المتنبّي ما زال شاغل النقاد، فهم كلّما قرؤوا وجدوا شيئًا جديدًا خاصة ما يتعلّق بالشخصية والكينونة؛ فالناقد الأكاديمي الدكتور علي حسين يوسف يقول “ليس غريبا أن يكون الإنسان عبقريًّا، بل الغرابة أن تكون العبقرية قريبة من الجنون وفي الوقت نفسه تكون سببًا في خلود الذكر وديمومة التأثير”.
ويعتقد أن هذا ما حدث فعلا مع المتنبي “فلا أحد يشكّ في عبقريته وذكائه، ولم يُسبق بمثله من الشعراء ولم يلحق بمثله كذلك”.
لكن الدكتور يوسف ربما يريد الإجابة عن سؤال ما برح يكرّر نفسه منذ ألف وأكثر من الأعوام، يدور حول سرّ خلود المتنبي في الذاكرة العربية رغم تبدّل سنن التذوق وتحولات ثقافة التلقي، فيقول إن “المتنبي لم يكن شاعرًا فحسب ولو كان كذلك لعدّ كأيّ شاعرٍ فحلٍ بين سائر الفحول، ولم يكن حكيمًا وإلا لأدرج اسمه ضمن الشعراء الفلاسفة وكُفي الناس شأنه”.
لكن يوسف يأخذ الأمر إلى أبعاد أخرى في الجواب؛ فيعتقد أن المتنبي “سبق عصره بوعيه، فقد كان مثقّفًا بما تتضمّنه هذه الكلمة من دلالات”، ويشرح الناقد هذه الثقافة بأنها “تمثّلت في خروجه عن السائد والقارّ من التقاليد الفكرية والفنية، حتى إنه لشدّة اعتداده بوعيه وثقافته ادّعى النبوة ومثّل الغرور والصلف والغطرسة بكلّ ثقة واعتداد”.
ويستدرك يوسف مستثنيا هذا الغرور لدى المتنبي من أنه “كان يعرف كيف يوظّف إحساسه في بناء تجربته الشعرية حتى تكون معبّرا عن التجربة الإنسانية عامة، لذلك عُدّ حكيما من هذه الناحية”.
ويعتقد أيضا أن سرّ خلود المتنبي ربما يعود إلى “تبنّيه موقفًا واضحًا لا مراوحة فيه إزاء المثل العليا، وقد جسّد ذلك في مدائحه ومراثيه وهجائه وفخره بصورة واضحة، فجعله ذلك من هذه الناحية مرجعية صالحة لمن يبحث عن بغيته في هذه المعاني”.
المتنبي قيامة الشعر
لا أحد يختلف في كون المتنبي شاعرًا خالدًا لم يزل على ألسنة الناس رغم تشبهه بالأنبياء، لكن أصحاب الهمم يتغنّون بكرمه وشجاعته مع ما وصف به من بخل وجزع.
وهو ما يقول عنه الشاعر الناقد الدكتور حسين القاصد “كأنه ينظر إلى الشعر المستقبلي على أنه قديم، بل كأنه واقف في نهاية الزمن ليقول لنا: أنا الصائح المحكي والآخر الصدى”، ويقول أيضا إنه الذي “صرخ في أحد الأيام: (أريد من زمني ذا أن يبلغني.. ما ليس يبلغه من نفسه الزمن)”.
ويعتقد القاصد أن سرّ المتنبي هو أنه “بكلّ معجمه اللغوي المكتنز ومعينه الفكري الفلسفي وقدرته على الاكتساب الجديد كأنه أقفل الباب على مستقبل الشعر، وأخفى المفتاح، ليصبح هو وحده الماضي الذي يمثل مستقبلا للشعر، بل يمثل قيامة الشعر وخاتمته”.
ويعتقد الناقد أيضا أن المتنبي “خلق للشعر فأخلص له واتّقى أحدهما بالآخر، وأفاد من كلّ فلسفة زمانه، حتى إذا أدرك الفكر الباطني في مرحلة مكوثه في مصر، رسم نقطة تحول خطيرة في شعره”.
ويطرح السؤال: لماذا بقي المتنبي حتى الآن؟ ويجيب “لأنه المتنبي واحد الشعر الأوحد وما عداه هم شعراء فحسب”.
وسطية المتنبي ومقتله
الجميع يعرف قصة مقتل المتنبي حين كان عائدًا إلى الكوفة، وكان معه ابنه محمد وغلامه مفلح، وقد لقيه فاتك بن أبي جهل الأسدي، وهو خال ضبّة بن يزيد العوني الذي هجاه المتنبي، فتقاتل الفريقان وقُتل المتنبي وابنه محمد وغلامه مفلح بالنعمانية بالقرب من دير العاقول (جنوب غرب بغداد).
لكن قصائده وأبياتها تحولت إلى أهازيج أشهرها (الخيل والليل والبيداء تعرفني.. والسيف والرمح والقرطاس والقلم)، ويقول الناقد زهير الجبوري إن “الميزة الأهم في تفرّد المتنبي عبر الأزمان امتلاكه ما يسمى بـ(الوسطية)، وأعني بها المرحلة الزمنية التي توسطت بين الشعر الجاهلي والإسلامي قبله”.
ويرى الجبوري أن المتنبي “ابن بيئة تتكلّم الشعر، وتخلقه، وتشتغل عليه كخطاب اجتماعي وسياسي وبيئي”، وزاد في الأسباب بقوله إن “مسألة تفرّده تعود إلى قدرته على تقحمه وسط الناس بطريقته الفذّة وبمجاراته لكل سلطة يقترب منها، في كل بلد يزوره أو يسكن فيه، كما أن قضاياه تلامس واقعنا المعيش، واللغة التي يتلاعب فيها مثلما يشاء، وحضوره كصوت فاعل يعطي انطباعا مفاده أن الزمن يتلاشى في كل مرحلة نعيش فيها، بمعنى أنه حاضر بشعره وبموضوعاته رغم الفارق الزمني الكبير”.