على مدى عقود، أثارت خريطة فينلاند التي تصور رحلات الفايكنيغ من شمال أوروبا إلى أميركا الشمالية كثيرا من الجدل بشأن صحتها، وحسمت جامعة ييل الجدل مؤخرا.
وفي تقرير نشرته صحيفة “نيويورك تايمز” (Nytimes) الأميركية، يقول الكاتب ألان يوهاس إن الباحثين اختلفوا منذ أكثر من نصف قرن بشأن صحة خريطة “فينلاند”، التي كشفتها جامعة ييل للعالم عام 1965، ووصفتها في ذلك الوقت بأنها “دليل على الرحلات الاستكشافية للفايكينغ في غرب المحيط الأطلسي، وأول تصوير أوروبي لأميركا الشمالية، وكنز ثمين من العصور الوسطى”.
ويقول أمين الكتب والمخطوطات القديمة في مكتبة بينيكي للكتب والمخطوطات النادرة في جامعة ييل ريموند كليمنس -في بيان صدر هذا الشهر- إن “خريطة فينلاند مزيفة، ليس هناك شك في ذلك؛ التحليل الجديد حسم الأمور”.
وقالت الجامعة إن فريقا من علماء الترميم والباحثين الذين قاموا بتحليل الخريطة، وجدوا مستويات عالية من مركب “التيتانيوم” المستخدم في الأحبار التي تم إنتاجها أول مرة في عشرينيات القرن الماضي.
خريطة غير حقيقية
وتقول الأستاذة المشاركة في التاريخ الإسكندنافي بجامعة كامبريدج إليزابيث أشمان رو إن “الحصول على أقوى دليل علمي يؤكد حجج المؤرخين السابقة بأن خريطة فينلاند مزورة أمر مريح”.
وتضيف أن الخبراء في هذا المجال أكدوا منذ مدة طويلة أن الخريطة مزورة، لكن الجدل حولها استمر عقودا. ووجد الباحثون أن نقشا لاتينيا على الجزء الخلفي من الخريطة تمت الكتابة فوقه بالحبر الحديث، وهو ما وصفه كليمنس بأنه “دليل قوي على أن هذا تزوير وليست مجرد إضافة بريئة من قبل ثالث”.
وكان أول ظهور للخريطة عام 1957، إذ حصل عليها خبير الآثار الأميركي لورانس ويتن من مصدر غير معروف في أوروبا، وباعها إلى بول ميلون، الذي تبرع بها لجامعة ييل.
خريطة فينلاند المنسوبة للفايكينغ صورت غرينلاند وأميركا الشمالية في القرن 15
وفي عام 1965، كشفت جامعة ييل عن الخريطة للجمهور، وتحدثت عنها وسائل الإعلام والصحف الكبرى، حيث ظهرت على الصفحة الأولى من صحيفة نيويورك تايمز. في ذلك الوقت، اعتقد الخبراء في الجامعة أن الخريطة تعود إلى نحو عام 1440، أي قبل 50 عاما من إبحار كريستوفر كولومبوس غربا باتجاه أميركا الشمالية.
الرحلات الإسكندنافية
يعتقد علماء الآثار أن عددا صغيرا من الإسكندنافيين وصلوا إلى منطقة نيوفاوندلاند وخليج سانت لورنس في أميركا الشمالية نحو عام ألف بعد الميلاد، كما أن هناك أدلة على وجود رحلات وبقايا لمستوطنة “فايكينغ” في موقع يُعرف بـ”لانس أو ميدوز” في نيوفاوندلاند تعود للقرن 13.
ويقول أستاذ الدراسات الإسكندنافية في معهد “آرني ماغنوسون” في آيسلندا جيسلي سيغوردسون إنه ربما كان هناك أقل من 100 شخص في أكبر تلك الرحلات، وهبط المسافرون على الشواطئ، حيث يعيش السكان الأصليون بأعداد كبيرة.
ويضيف “تذكر القصص التي رُويت وأعيد سردها عبر الأجيال الوضع في تلك الأرض خارج غرينلاند، لكنها في الحقيقة بعيدة المنال، بعيدة جدا وخطيرة جدا. استمر الفايكينغ لأجيال في التفاخر بروعة تلك المغامرة وصعوبتها”.
وعندما ظهرت خريطة فينلاند عام 1965، بعد فترة وجيزة من اكتشاف نيوفاوندلاند الذي أحدث ضجة كبيرة؛ أُثير الكثير من الجدل حول المخطوطة. ورأى أمين الخرائط في مكتبة ييل في ذلك الوقت أن الرسم “الدقيق بشكل مذهل” لغرينلاند يدل على رحلة استكشاف للفايكينغ، وأكد آخرون أنه عمل فني من القرن العشرين.
ويؤكد سيغوردسون أن الساحل الشمالي لغرينلاند رُسم في الخريطة “بطريقة مشابهة للخرائط الحديثة إلى درجة مثيرة للريبة. غرينلاند قريبة جدا من غرينلاند الحقيقية، ومن الصعب تصديق أن أي شخص في العصور الوسطى كان سيرسم خريطة كهذه”.
بدا للباحثين أنه من غير المعقول أن يعرف الشخص الذي رسم الخريطة في القرون الوسطى أن غرينلاند -التي رُسمت لقرون كشبه جزيرة- كانت جزيرة كاملة. وتقول الدكتورة رو “كانت المعلومات المتعلقة بجغرافيا غرب المحيط الأطلسي تأخذ شكل المعلومات التي تنتقل شفهيا من بحّار إلى بحار. لم يستخدموا الخرائط للملاحة”.
ويقول أمين علم آثار أميركا الشمالية في متحف سميثسونيان الوطني للتاريخ الطبيعي الدكتور ويليام فيتزيو “لقد لوحظ أن حبرها يتلاشى بطريقة غريبة تختلف عن حبر الخرائط المستخدم في العصور الوسطى”.
خريطة مزورة
استمر الجدل حول الحبر والكتابة اليدوية وعناصر أخرى في الخريطة عقودا، وأثار الخبراء أسئلة أخرى حول الثقوب الموجودة في المخطوطة، ومدى تطابقها مع الثقوب الدودية في مجلدات العصور الوسطى المصنوعة من جلود العجول.
وفي عام 1974، قالت جامعة ييل إن بحوثها خلصت إلى أن الخريطة “قد تكون مزورة”. وفي عام 1987، أكد خبراء من جامعة كاليفورنيا أنها قد تكون خريطة حقيقية رغم كل ما يُثار حولها. وفي العقد الأول من القرن 21، نشر العديد من الباحثين دراسات متضاربة حول هذا الموضوع، مع تضاؤل عدد المدافعين عن صحة الخريطة.
ويقول ديل كيدواردز مؤرخ الخرائط في معهد آرني ماغنوسون إن الخريطة غذّت الأساطير حول الأوروبيين الأوائل الذين وصلوا إلى الأميركتين. ويضيف “خريطة فينلاند ليست سوى واحدة من سلسلة طويلة من عمليات التزوير التي تهدف إلى إظهار الوجود الأوروبي في العصور الوسطى على الأراضي الأميركية. لقد تم استخدامها لتقويض تاريخ الشعوب الأصلية، وهي مرتبطة بالتأريخ القومي الحزبي الذي تطور في أوروبا”، حسب الصحيفة الأميركية.
وتقول الدكتورة رو إن من قام بتزوير الخريطة ربما كان مدفوعا “بالرغبة في تعزيز المكانة الدولية للفايكينغ في وقت كانت فيه النرويج واحدة من أكثر الدول فقرا في أوروبا”، لكنها تشير إلى أن “الخريطة لا تغير فهمنا للرحلات الإسكندنافية غرب غرينلاند”.
وتأمل جامعة ييل أن يُغلق ملف هذه الخريطة المزورة بشكل كامل، ويقول كليمنس -في بيان الجامعة- إن “أشياء مثل خريطة فينلاند تشغل حيزا كبيرا في الفضاء البحثي، ولا نريد أن تظل محل جدل”.
ويؤكد البروفيسور كيدواردز أن التكنولوجيا الحديثة أصبحت تلتقط بسهولة مثل هذا التزوير، لكن خريطة فينلاند خدعت “بعض الخبراء المرموقين” لسنوات طويلة.