في معرضه الذي أقيم في “غاليري القاهرة” بالعاصمة الأردنية بعنوان “في تناغم وعنف”، يجمع الفنان الرائد حفيظ قسيس المتناقضات في مربع اللوحة بصورة ذهنية تتناول مشكلات الإنسان والوجود.
وتشكل الخطوط والألوان شبكة بصرية معقدة للتعبير عن الواقع الاجتماعي والحياتي للإنسان المعاصر وقضاياه، ومعاناته في العصر الحديث الذي يتسم بالفردانية والفوضى والحصار من أعباء الحياة.
ولا تختلف تناولات الفنان للمكان، وتحديدا المستعاد من الذاكرة لمدينة القدس ومعاناتها تحت قهر الاحتلال، موائما بين معاناة الإنسان والمكان -ضمن قراءة فكرية وفلسفية لتاريخ المكان وهويته وانعكاسات الأحداث عليه- التي يعبر عنها بأسلوبه الخاص الذي تبدو معه الخطوط حادة بلا ناظم هندسي؛ إذ تبدو معها الصورة حالة من الفوضى والركام.
الشكل داخل أعمالي يمثل وحدات منتقاة تخدم الموضوع في تلاصق وتتابع موسيقي
القدس الأسير
مع اشتغاله في حقل آخر من الفنون، التي تتصل بصيانة الأعمال الفنية للكنسية القديمة؛ إلا أن هذا الاشتغال لم يتسرب إلى لوحته التي بقيت مسكونة بهم الفنان لقضايا الإنسان العربي، وذاكرته التي لم تنس مشهد القدس الأسير، حين غادر مسقط رأسه بيت ساحور منتصف الستينيات.
ويشرح الفنان أسلوبه بالقول إن “الشكل داخل أعمالي يمثل وحدات منتقاة تخدم الموضوع في تلاصق وتتابع موسيقي، عبر الخطوط القاتمة في كل الاتجاهات التي تؤكد وحدة العمل الفني ومساره وتتابعه وتناغمه. وخلال العمل، يتم استحضار المزيد من العناصر الخطية المختزلة التي تنبع من عالمي الداخلي ومشاعري الذي يعترضه الواقع القاتم”.
تتركز مفردات اللوحة عند الفنان الذي أقام 9 معارض في الأردن وفلسطين وتركيا على 3 عناصر، وهي: الإنسان والخيل والمكان -الذي يذوب عبر اللون- وتبدو معها المفردات متداخلة في ركام من الألوان والخطوط التي تغرق سطح اللوحة بالفجوات التي تأخذ المتلقي إلى متاهات لا تنتهي، وهي من المؤكد متاهات الحياة التي يقصدها الفنان.
تمتاز أعمال الفنان بالضربات السريعة والعريضة التي تعكس مشاعر الفنان وتوتره الداخلي، والدخول في التفاصيل عن طريق شبكة الخطوط المتقاطعة التي تفضي إلى سردية تتواءم مع اهتمامه الأدبي لصوغ رواية تحكي جزءا من مشاهد الحياة التي تسيطر على ذاكرة الفنان، وتحديدا ما يتعلق بواقع قبة الصخرة تحت الاحتلال التي جسدها بخطوط مكسرة تشي بحالة المكان الأسير.
يشتمل المعرض على 70 لوحة تمثل تجربة الفنان خلال 50 عاما منذ كان طالبا في معهد إسطنبول عام 1967 حتى الآن.
خواص اللون وأثره النفسي
وكما تتجاور التضادات في الموضوعات، فإن الألوان التي يستعملها الفنان لا تختلف في تجاورات الحار والبارد، والصارخ والقاتم الذي يبرز حدة المشهد البصري، غير أن خبرة الفنان في التعامل مع خواص اللون ودلالته وأثره النفسي، سيما وأن الفنان يركز في موضوعاته على الجانب الانفعالي للمتلقي عبر خلق حالة من الضجيج والفوضى التي تحقق الانتباه والتركيز ثم الانتقال إلى البحث والحوار مع اللوحة.
تقول الفنانة ميرفت هليل -للجزيرة نت- لوحات الفنان “المخضرم” حفيظ قسيس “تشكل كتلا تعبيرية بتداخل الخطوط وانسيابها وقوتها داخل اللوحة بتطويع سلس تجذب الناظر وتدفع المتلقي إلى تتبع الخط والشكل ورؤية العمل كوحدة متكاملة متناغمة في هدوء، وأحيانا تتداخل في صخب وعنف. ضربات الفرشاة -في بعض الأحيان- كانت في اتجاه واحد وأحيانا أخرى في فوضى تتلامس خارج التيار”.
الغريب في تجربة الفنان الحاصل على الماجستير في الرسم والتصوير أن عمله في الترميم يتناقض أيضا مع تقنيات عمل اللوحة وأسلوبه، فالترميم يقوم على المقاييس الهندسية الدقيقة والمهارة والخبرة المعرفة بتاريخ الفن.
يشتمل المعرض على 70 لوحة تمثل تجربة الفنان خلال 50 عاما
ترميم الكنائس
الفنان حفيظ قسيس الذي شغل منصب أول مدير لمدرسة الفسيفساء بمادبا، وعمل مديرا لمعهد الفنون التابع لوزارة الثقافة الأردنية يعد واحدا من أهم الفنانين العرب في هذا النوع من الفنون، حيث اعتمد “المرمم الفني المعتمد لحراسة الأراضي المقدسة في القدس” في فلسطين والأردن وقبرص.
وكانت المرة الأولى التي رمم فيها “كاتدرائية المخلص” في القدس بعد تعرضها لتلف كبير في أرضياتها ومكوناتها من الفريسكو الجداري، التي تشتمل على الكثير من الزخارف والديكورات والأيقونات والزجاج المعشق والأعمال النحتية.
وفيما بعد قام الفنان قسيس، وهو من مؤسسي رابطة الفنانين التشكيليين الأردنيين بترميم الأرضيات الفسيفسائية وقباب وسقف الكنيسة الجسمانية بالقدس، وكنائس مراحل درب الآلام، وفسيفساء كنيسة القيامة، وترميم وصيانة الزجاج المعشق لكنيسة المهد بالقدس.
تعبيرية تلوينية
يقول مستشار الفنون الفنان محمد الحالوس -للجزيرة نت- إن قسيس “يعد واحدا من الرواد في الحركة التشكيلية الأردنية، له أسلوبيته الخاصة التي يميل فيها للتعبيرية، وهو رسام مخطط، بمعنى أن -الخط يأخذ مساحة كبيرة من حجم اللوحة” إلى جانب دائرته اللونية المتعددة الأطياف.
ويتابع الجالوس أن الفنان قسيس انشغل بعيدا عن الرسم بمجال مهم ونادر، وهو الترميم، وأسس في ذلك مدرسة لها تلاميذ، كما امتدت جهوده خارج الوطن العربي إلى أوروبا، ومنها اليونان، وهذا المعرض هو استعادة للفنان الرسام.