يساهم اكتشاف حجر رصف، يبلغ عمره 3500 عام في موقع يعتقد أنه مدينة أثرية مفقودة وسط تركيا، ويعتبر أقدم الآثار الفسيفسائية في منطقة البحر الأبيض المتوسط، في تعزيز المعرفة بالحياة اليومية التي لا يزال الغموض يكتنفها للحثيين بالعصر البرونزي.
وتتألف هذه الفسيفساء من أكثر من 3 آلاف حجر بألوان طبيعية (البيج والأحمر والأسود) منسقة على شكل مثلثات ومنحنيات، وقد عثر عليها بين آثار معبد حثي يعود إلى القرن الـ 15 قبل الميلاد، أي قبل 700 عام من أقدم فسيفساء معروفة بآثار اليونان القديمة.
وبسطت حضارة الحثيين (1600-1178 قبل الميلاد) سيطرتها على الأناضول وشمالي سوريا، وكانت ندا للحضارات المعاصرة لها في بلاد الرافدين ومصر وبلاد فارس. تلك الفترة ومع انتهاء العصر البرونزي المتأخر، انقسمت لدويلات مستقلة بالأراضي السورية، واستمر بعضها عدة قرون أخرى، حتى خضعت للإمبراطورية الآشورية.
جدة الفسيفساء القديمة
وقال أناكليتو داغوستينو مدير الحفريات بموقع أوشاكلي هويوك قرب مدينة يوزغات (شرق العاصمة أنقرة) “إنها بمثابة جدة الفسيفساء القديمة، ومن الواضح أنها أكثر تعقيدا. ما لدينا هنا بلا شك المحاولة الأولى لاستخدام هذه التقنية”.
في هذا الموقع الذي يبعد 3 ساعات من العاصمة أنقرة، يستخدم علماء آثار أتراك وإيطاليون المجرفة والفرشاة لمعرفة المزيد عن مواقع الحثيين الذين كانت مملكتهم من الأقوى بالأناضول القديمة.
واستنتج داغوستينو أن هؤلاء “شعروا للمرة الأولى بالحاجة للقيام بشيء مختلف، باللجوء إلى أشكال هندسية، ووضع الألوان معا، بدلا من صنع حجر رصف بسيط”. ورجح أن يكون الباني “عبقريا” أو أن يكون “طلب منه غطاء أرضي فقرر إنشاء شيء غير عادي”.
يقع المعبد الذي عثر فيه على هذه الفسيفساء قبالة موقع جبل كيركينيس، وهو مخصص لما يسمى آلهة العواصف لدى الحثيين، وهو ما يعادل زيوس بين الإغريق.
ورجح عالم الآثار أن الكهنة الحثيين “كانوا يؤدون طقوسهم في هذا المكان وهم ينظرون إلى قمة جبل كيركينيس”.
كنوز زيبالاندا وأرز لبنان
بالإضافة إلى الفسيفساء، اكتشف علماء الآثار أيضا خزفيات من أحد القصور، مما يدعم فرضية أن أوشاكلي هويوك بالفعل مدينة زيبالاندا المفقودة.
وورد ذكر زيبالاندا باستمرار في الألواح المسمارية الحثية، وهي كانت مكان عبادة مهما مخصصا لآلهة العواصف، إلا أن موقعها الدقيق لا يزال مجهولا.
وأوضح داغوستينو أن الباحثين يتفقون على أن أوشاكلي هويوك واحد من أكثر المواقع التي يحتمل أن زيبالاندا كانت قائمة فيها، مشيرا إلى أن اكتشاف آثار القصر وأوانيه الخزفية والزجاجية الفاخرة عزز هذا الاحتمال. وأضاف “نحن نفتقر فقط إلى الدليل النهائي، وهو لوحة تحمل اسم المدينة”.
ولم يكن سكان أوشاكلي هويوك يترددون في إحضار أخشاب من أشجار الأرز في لبنان لبناء معابدهم وقصورهم، لكن كنوز هذه المدينة، كغيرها في العالم الحثي، اختفت لسبب ما زال مجهولا قرابة نهاية العصر البرونزي.
ومن الفرضيات أن يكون ذلك عائدا إلى تغير مناخي صاحبته اضطرابات اجتماعية.
“صلة قديمة”
بعد نحو 3 آلاف عام على اختفائهم من على وجه الأرض، لا يزال الحثيون يسكنون مخيلة الأتراك.
فرمز أنقرة شخصية حثية تمثل الشمس. وفي ثلاثينات القرن العشرين، عرف مؤسس تركيا الحديثة مصطفى كمال أتاتورك الأتراك على أنهم أحفاد الحثيين.
وقال داغوستينو “لا أعرف ما إذا كان بإمكاننا إيجاد صلة بين الحثيين والناس الذين يعيشون هنا اليوم. فقد مرت آلاف السنين وتنقل الناس. لكنني أعتقد أن ثمة صلة معنوية لا تزال موجودة”.
ومن باب إبراز هذا الارتباط، ربما، أعاد فريق التنقيب تكوين تقاليد الطهو الحثية، مجربا الوصفات القديمة على الخزف المصنوع بشكل مماثل للطريقة القديمة، باستخدام التقنية التي كانت متبعة والطين المستعمل ذلك الوقت.
وقالت المديرة المشاركة للحفريات فالنتينا أورسي “أعدنا بناء الخزف الحثي بالطين الموجود بالقرية التي يقوم فيها الموقع، وطهونا تمرا عليه خبز، كما كان الحثيون يأكلون”.
وختمت بالقول “كان المذاق لذيذا جدا”.