بعد 3 عقود على تهريبه.. لوح جلجامش يعود أخيرا إلى موطنه العراق

تحتفل منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو) اليوم الخميس بـ”نصر مبين في المعركة ضد الاتجار غير المشروع بالممتلكات الثقافية” مع إعادة “لوح جلجامش” إلى موطنه الأصلي، العراق، ويحتوي اللوح على نقوش لنصوص من ملحمة جلجامش مكتوبة باللغة السومرية وتعد من أقدم النصوص الأدبية والدينية في العالم.

وكانت القطعة الأثرية قد نُهبت من أحد المتاحف العراقية في أعقاب الاضطرابات التي شهدتها البلاد مطلع التسعينيات من القرن الماضي، وعُرضت عام 2007 للبيع بأساليب احتيالية قبل أن تضبطها وزارة العدل الأمريكية عام 2019، بحسب اليونسكو.

كان اللوح ملطخًا بالتراب لدرجة أنه لم يكن من الممكن قراءته في البداية؛ ولكن عند تنظيفه، أدرك الخبراء أنه يصف جزءًا من ملحمة جلجامش الشهيرة التي تروي مغامرات أحد الملوك الأقوياء لبلاد ما بين النهرين في سعيه إلى الخلود.

وكان تاجر أعمال فنية أميركي اشترى هذه القطعة الأثرية عام 2003 من أسرة تقيم في لندن وتم شحنها إلى الولايات المتحدة، من دون أن يصرح للجمارك الأميركية عن طبيعة هذه الشحنة. وبعد وصول اللوح إلى الولايات المتّحدة باعه التاجر عام 2007 لتجار آخرين مقابل 50 ألف دولار مستخدما شهادة منشأ مزورة.

وعام 2014 اشترت هذا اللوح -بسعر 1.67 مليون دولار- أسرة غرين التي تمتلك سلسلة متاجر “هوبي لوبي” وذلك بقصد عرضه في متحف الكتاب المقدس في واشنطن.

لكن عام 2017، أعرب أحد أمناء المتحف عن قلقه بشأن مصدر اللوح، بعدما تبين له أن المستندات التي قُدمت خلال شرائه لم تكن مكتملة.

وفي سبتمبر/أيلول 2019، صادرت الشرطة هذه القطعة الأثرية، إلى أن صدّق قاض فدرالي شهر يوليو/تموز الماضي على مصادرتها.

ونقل بيان لوزارة العدل عن المدّعية العامة -جاكلين كاسوليس- المسؤولة عن هذه القضية قولها إنّ القرار الصادر قبل شهرين “يمثل خطوة مهمة نحو عودة هذه التحفة الأدبية العالمية إلى موطنها الأصلي”.

وكان القضاء الأميركي أمر -في يوليو/تموز عام 2017- شركة هوبي لوبي أن تعيد إلى العراق آلاف القطع الأثرية التي تعود إلى حقبة بلاد ما بين النهرين، والتي جرى تصديرها إلى الولايات المتحدة بشكل غير قانوني، ضمن كنوز أثرية تضم -خصوصا- ألواحا مسمارية أخرى وأختاما قديمة.

ملحمة جلجامش
واعتبر نقاد وباحثون في مجال الأساطير أن الملحمة تمثل نصا شعبيا، باعتبار أنها كانت تتداول في المناسبات والأعياد التي كانت تقام خلالها الطقوس، حيث تظهر أحداث ونصوص فصولها على دكة المسرح والشوارع والساحات.

وبهذا اكتسبت شعبيتها باقترابها من هموم الرعايا في “أوروك” أو “الوركاء” (المدينة التي عاش فيها جلجامش وكتب ملحمته الشهيرة بها) أو سواها من الحواضر التي انتقل إليها النص، وبرروا أن النص شعبي لكونه وازن بين تناول حياة الملك والحاضرة وإشكالات رعايا “أوروك”، وأصبح جزءا من خزانة الكتب والوثائق آنذاك، إلى جانب دلائل أخرى، بحسب تقرير سابق للجزيرة نت.

لم تزل هذه الملحمة -التي تعتبر أحد أقدم الأعمال الأدبية للبشرية- تمثل معينا خصبا للكتاب والباحثين والأدباء على حد سواء، كونها من أكثر ملاحم آداب حضارة بلاد الرافدين القديمة خلودا، ويعود تاريخها إلى عصر سلالة “أور” الثالثة، وتعد ثاني أقدم النصوص الدينية المتبقية من تلك الفترة، بعد نصوص الأهرام الدينية.

ملحمة جلجامش من أكثر ملاحم آداب حضارة بلاد الرافدين القديمة خلودا
وتبدأ ملحمة “جلجامش” بـ5 قصائد سومرية عن بلجاميش (وهي الكلمة السومرية لجلجامش) ملك الوركاء، وتؤكد المصادر أنها أصبحت مرجعا لقصيدة ملحمية مجمعة في اللغة الأكدية. وتحمل أقدم نسخة متبقية من تلك الملحمة المجمعة اسم (البابلي القديم) ويعود تاريخها إلى القرن الـ18 قبل الميلاد.

ولم يتبق من تلك القصيدة سوى بضعة ألواح طينية. وقد تمكن شخص يدعى “سين لقي ونيني” من جمع نسخة من الملحمة يعود تاريخها إلى ما بين القرنين 13-10 قبل الميلاد وتحمل الاسم “هو الذي رأى الهاوية”، أو بكلمات معاصرة “هو الذي يرى الغيب”.

وتم استرجاع نحو ثلثي هذه النسخة ذات الألواح الطينية الـ12. واكتشفت بعض النسخ الأفضل حالا في أنقاض مكتبة آشور بانيبال الملكية (مدينة الموصل) من القرن السابع قبل الميلاد.

وجعل المدون الملحمة على شكل أقسام، وأراد أن يبدو فعلها الدرامي ظاهرا ليجعلها نصا شعبيا؛ فالقسم الأول كان عن جلجامش وإنكيدو، والأخير عن رجل جامح خلقته الآلهة (حسب ما يزعمون) لوضع حد لطغيان جلجامش على شعب الوركاء.

كتبت الملحمة بالسومرية وترجمت إلى الأكدية قبل اكتشاف حروف اللغة العربية، وهي تحكي في إيحائها البعيد عن ملامح عالمية لا تقتصر على مكان أو شعب أو أرض معينة، بل تتعدى الحدود الجغرافية بإسقاط عالمي رحيب عبر ما تحكيه عن مدينة “أوروك” وشعبها الذي يحكمه ملك -ثلثاه إله وثلثه الآخر إنسان- وهو جلجامش ابن الإلهة ننسون التي حملت به من ملك بطل أسطوري مقدس.

كنوز العراق المفقودة
وأوضحت ندى شبوط، الأستاذة في تاريخ الفن ومنسقة مبادرة الدراسات الثقافية العربية والإسلامية المعاصرة في جامعة شمال تكساس، في مقال لها بصحيفة “واشنطن بوست” (Washington Post)، أن هذا اللوح واحد من أكثر من 17 ألفا من القطع الأثرية والكنوز التي بدأ العراق استعادتها من الولايات المتحدة.

وعلقت شبوط قائلة إن هذه أخبار مفرحة، إذ إنهم عملوا على توثيق التراث العراقي المفقود وملاحقته. ومع ذلك، لا ينبغي لهذه الحادثة النادرة أن تحجب حقيقة أن العراق كان ولا يزال عرضة للنهب والسرقة من دون عقاب.

وأضافت أن أكثر من 18 عاما مرت منذ غزو العراق، ولا تزال البلاد في حالة من الفوضى، ولا يزال كثير من تراثها الثقافي مفقودا، مشيرة إلى أن هذه الخسارة أمر منهك، وأن كثيرا من الشباب العراقي بعيدون -بسبب هذه الخسارة- عن تاريخهم وذكرياتهم الجماعية وهوياتهم الوطنية، ولا يمكنهم الوصول إليها، وتساءلت: كيف لهؤلاء الشباب تشكيل مستقبلهم؟

ومضت شبوط تقول إن العراق “غالبا ما يُطلق عليه مهد الحضارة بتاريخه الثري، الذي يعود إلى الأيام الأولى للبشرية، لأن تربته تعج بالأدلة التاريخية في صورة مواقع أثرية لم يتم التنقيب عن العديد منها، الأمر الذي عرض سلامتها لتهديد مستمر، وألحق بها الضرر بآلات الغزاة العسكرية، وبأيدي اللصوص الذين يعملون علانية”.

وقالت إنه منذ عام 2003، ظهرت الأعمال القديمة المسروقة من المتاحف أو المواقع الأثرية العراقية، وتم تداولها في أجزاء مختلفة من العالم. وبين حين وآخر، هناك أخبار عن أعمال مسروقة صودرت، مثل التمثال الحجري الذي يبلغ عمره 4400 عام للملك السومري إنتيمينا من لكش، الذي تم استرداده عام 2006 وعاد إلى العراق عام 2010.

ومع ذلك، تضيف الكاتبة أن معظم الأشياء المنهوبة لم يُعثر عليها أو لم تتسن إعادتها، وأصبح العراقيون محرومين من تراث بلادهم القديم، كما اختفت أيضا أشياء من أزمنة العراق المجيدة، ولكن تم التغاضي عنها في الغالب، واختفت أيضا.

وتوضح شبوط أن هذا الفقد له آثار في حاضر العراق، الذي بدأ في القرن الـ20 عندما أُسست دولته الحديثة، يعبر عن نفسه جزئيا من خلال فنه، وأن الفنانين العراقيين نجحوا خمسينيات القرن الماضي -لا سيما ما تعرف بجماعة الرواد وجماعة بغداد للفن الحديث- في تشكيل “أيقونة عراقية مميزة”، وساعدوا على تصور هوية وطنية جديدة.