هل ألقت فرنسا بقطاع الثقافة وراء ظهرها خلال أزمة كورونا؟

لطالما احتلت الثقافة مكانة خاصة في المجتمع الفرنسي، وحظيت بالدعم من القطاعين العام والخاص، حيث يُنظر إليها وفق مفهوم “الاستثناء الثقافي” بوصفها قطاعا مميزا لا يخضع لشروط السوق والمنطق التجاري، لكن أزمة كورونا فرضت واقعا جديدا.

في تقرير نشره موقع “ذا كونفرسيشن” (the conversation)، تقول الأكاديميتان آن غومبولت ونسيمة أرحمون إن الحكومة الفرنسية تعرضت خلال جائحة كورونا لانتقادات بسبب توجهاتها التي تتعارض مع مفهوم “الاستثناء الثقافي” الفرنسي.

تقول الكاتبتان إنه إذا كانت “الثقافة هي فرنسا” كما يقول المثل الرائج في البلاد، فأين كان موقع الثقافة في أولويات البلاد، خاصة مع احتساب التأثير الكبير غير المباشر على الصناعات الإبداعية الأخرى مثل السياحة والترفيه، وأيضًا قيمتها الاجتماعية والأنثروبولوجية والنفسية والفلسفية، وتضيفان “كل ذلك مستثنى من حسابات الحكومة الفرنسية”.

الدولة تتخلى عن الثقافة
وتضيف الكاتبتان أن الخطأ الأول للحكومة الفرنسية حدث خلال عمليات الإغلاق الأولى من مارس/آذار إلى مايو/أيار 2020، إذ تلقى العاملون في القطاع الثقافي مساعدة مالية ضمن حزمة التحفيز الحكومية، بما في ذلك إعانات البطالة، لكن الفضاءات الثقافية أُجبرت على الإغلاق. وشمل ذلك المتاحف والمكتبات والمسارح وقاعات الحفلات الموسيقية ودور السينما والمهرجانات وحتى المعالم الأثرية.

أما الخطأ الثاني، فقد ارتكبته الحكومة الفرنسية في أواخر أكتوبر/تشرين الأول 2020، فمع اقتراب الإغلاق الثاني من نهايته، أعلن الرئيس إيمانويل ماكرون عن مجموعة جديدة من تدابير التحفيز، وحدّد الفرق بين ما يمكن اعتباره “ضروريا” أو “غير ضروري” بناء على معايير غير واضحة.

وما أثار صدمة كبيرة للعاملين في القطاع الثقافي أن الرئيس ماكرون صنّف الأنشطة الثقافية بأنها “غير ضرورية”، وهو ما عمّق الأزمة خاصة عندما اضطرت المكتبات إلى إغلاق أبوابها في نوفمبر/تشرين الثاني.

وترى الكاتبتان أن الخطأ الثالث هو تمديد إغلاق جميع الفضاءات الثقافية حتى العاشر من ديسمبر/كانون الأول الماضي، رغم أن العاملين بالقطاع بذلوا جهودا هائلة حتى يتمكنوا من إعادة الافتتاح في ظل البروتوكولات الصحية المعززة، تزامنا مع موسم الأعياد، الذي يشكل ذروة النشاط الثقافي في فرنسا.

وحتى اليوم، ما زالت معظم الأنشطة الثقافية محظورة في فرنسا، باستثناء المكتبات والمعارض الفنية، وهو ما يطرح الكثير من الأسئلة عن رؤية الحكومة ومستقبل الثقافة في البلاد. ويتساءل كثيرون، عن سبب إعادة فتح الشركات والمواصلات العامة ومراكز التسوق، وإجبار الفضاءات الثقافية على الإغلاق.

وتؤكد الكاتبتان أن استمرار هذه الإجراءات الحكومية التي تعرقل القطاع الثقافي مثّلت القطرة التي أفاضت الكأس، وجعلت النخبة الثقافية تطلق مجموعة من المبادرات والنداءات للجمهور، بينما رفع منتجو العروض الثقافية الحية دعوى أمام مجلس الدولة، لكن الحكم الصادر جاء في صالح الحكومة.

حالة تمرد
توضح الكاتبتان أن المعارضة الثقافية لتوجهات الحكومة الفرنسية تصاعدت تدريجيا وأدت إلى اندلاع احتجاجات في 15 ديسمبر/كانون الأول الماضي، وقد أعرب الممثلون والمهنيون والنقاد عن خيبة أملهم وغضبهم من الحكومة، وعبّر وزراء ثقافة سابقون عن دعمهم للمظاهرات.

بالنسبة لكثيرين، بدت الإجراءات الحكومية غير منطقية، حيث أُغلقت المسارح ودور السينما والمتاحف والمكتبات رغم التزامها الصارم بالبروتوكولات الصحية، بينما فُتحت مراكز التسوق والفضاءات التجارية الأخرى.

ورغم الدعم المالي وتوفير وظائف بدوام جزئي، واجه العاملون في القطاع الثقافي صعوبات كبيرة خلال الجائحة بسبب إغلاق صالات العرض والمسارح ودور السينما وإلغاء المهرجانات وندرة فرص العمل.

وقد أدى التجاهل الحكومي إلى عرقلة الخطط الإستراتيجية المتعلقة بتشغيل الفضاءات الثقافية. وفي الثالث من شهر مارس/ آذار الماضي، أعرب المتحدث باسم الحكومة الفرنسية غابرييل أتال عن أمله في إمكانية “عودة الحياة إلى طبيعتها” بحلول منتصف شهر أبريل/ نيسان، لكن لم يكن هناك أي تفسير واضح لما يقصده بالنسبة للقطاع الثقافي.

الثقافة على الهامش
ترى الكاتبتان أن تعريف الحكومة الفرنسية لما هو “ضروري” وما هو “غير ضروري” يُظهر سوء فهم عميق لماهية المجتمعات الاستهلاكية في عصر ما بعد الحداثة.

وحسب رأيهما، فإن إجراءات الحكومة الفرنسية تتجاهل المبادئ التي تحدث عنها عالم الاجتماع الفرنسي جان بودريار، الذي قال إن “الاستهلاك هو الوجود الاجتماعي” ورأي بودريار أن الاستهلاك مرآة تعكس طبيعة الحياة اليومية والوجود الاجتماعي.

وأيضا تتجاهل الإجراءات الحكومية الفرنسية نظرية عالم اللسانيات جان ماري فلوك، الذي يؤكد أن الاستهلاك هو لبنة بناء هوية الفرد، ويعكس الانتماء الاجتماعي والعديد من القيم الوجودية والنقدية، وبالتالي فإن الاستهلاك هو الثقافة، والثقافة في الواقع هدف للاستهلاك، حسب تعبير الكاتبتين.

وتطبق الحكومة الفرنسية فهما قديما “للتسلسل الهرمي للاحتياجات”، الذي اقترحه أبراهام ماسلو عام 1943. لكن ماسلو نفسه اعترف لاحقًا بقصور نظريته، والحاجة العميقة إلى القيم المتعالية والجماليات.

وحسب الكاتبتين، فقد أدى الإغلاق الأول إلى هيمنة الإنتاج الثقافي الأميركي وترسيخ العولمة. وبطبيعة الحال، استغلت المنصات عبر الإنترنت التي تقدم برامج مدفوعة، مثل “نتفليكس” (Netflix)، الأزمة لتنمية هيمنتها على السوق. فإنهم هم الفائزون الكبار، وليس قطاع الثقافة في فرنسا.

بإغلاق الأماكن الثقافية وإبقائها كذلك، اعتبرت الحكومة الفرنسية القيم الجمالية “ثقافة غير أساسية” وجعلتها تقتصر على أشكالها التجارية فقط، في حين يسعى محترفو الثقافة غير الربحية للتكيف مع هذا العصر الجديد من خلال التحول إلى عالم افتراضي، لكنهم يفتقرون إلى التمويل الكبير للعمالقة الرقميين.

وتختم الكاتبتان بالقول إن تدمير الثقافة من أجل الصحة العامة والاقتصاد أمر سخيف، لا سيما مع العلم أن الثقافة متأصلة بعمق في كليهما، وتضيفان “هوية فرنسا مبنية على ثقافتها، فهي الغراء الذي يربط الأمة الفرنسية ببعضها بعضا. أظهرت حكومات أخرى، أكثر استنارة، أن الأماكن الثقافية ضرورية بالفعل. يجب على فرنسا أن تفعل الشيء نفسه”.

المصدر : مواقع إلكترونية