يشعر أغلب الأميركيين اليوم بالتوتر بشأن الوضع في بلادهم؛ إذ يعتقدون أن الديمقراطية تواجه خطرا حقيقيا.
ويرى الكاتب ماوريزيو فالسانيا -أستاذ التاريخ الأميركي بجامعة تورينو الإيطالية، في مقاله بموقع “ذا كونفرزيشن” (The conversation) البريطاني- أن الديمقراطيات يمكن أن تتدهور بشكل سريع.
وهذه المخاوف ليست جديدة؛ بل تعود لأزمنة قديمة، فقد رأى الفيلسوف اليوناني أفلاطون أن النظام يمكن أن ينهار فجأة أمام حكم الفوضى، إذ يظن الناس أنهم يمتلكون حقا مكتسبا للتعبير عن آرائهم بصوت عال، والتحدث بكل ما يدور في أذهانهم، ثم التصرف وفق تلك الأفكار، وغالبا يكون هذا التصرف عنيفا، ويتم اتخاذ قرارات غير مدروسة.
ويقول الكاتب إن الديمقراطيات يمكن أيضا أن تمهد الطريق للأنظمة الاستبدادية، إذ إن هناك قادة أنانيين، يسعون لإعادة كتابة التاريخ الوطني -بطريقة مبسطة- حسب أهوائهم، وإفراغه من كل التعقيدات والحقائق المزعجة، وهؤلاء يعملون على استغلال حالة التململ والإحباط والفوضى، للدفع بالأمور لصالحهم.
هذا النوع من القادة -حسب الكاتب- ما إن يمسكوا السلطة كاملة بين أيديهم، حتى يقرروا الحد من مشاركة الناس في السياسة، ويفرضون سياسات تمييزية، بناء على العرق والجنس والدين، ويتعمدون وضع عوائق أمام المشاركة الديمقراطية لبعض المناطق والفئات.
وهكذا فإن الديمقراطيات تتراجع بسبب الزعماء الفاسدين، إلا أنها يمكن أيضا أن تنهار بسبب قلة وعي الشعب؛ إذ إن وجود عدد كبير من الجماهير الجاهلة التي تشارك في اتخاذ القرار أمر لطالما أثار خوف الفلاسفة والكتاب والسياسيين.
وكان الآباء المؤسسون للولايات المتحدة في طليعة المعركة ضد الجهل الشعبي، ومن أول الإجراءات التي اتخذوها كان التخطيط لإنشاء جامعة عمومية وطنية.
لا ديمقراطية بلا تعليم
كان الفيلسوف الفرنسي بارون مونتسكيو -الذي عاش خلال القرن 18- من أكبر المدافعين عن إنشاء حكومات من الشعب وتعمل لصالح الشعب. كما أنه حذّر من أن غير المتعلمين سيتخذون قرارات عاطفية تسبب ضررا كبيرا، ولذلك يجب توجيههم من قبل الأشخاص الأكثر علما، أو فرض قيود عليهم.
من هذا المنطلق، كان أوائل القادة الأميركيين -مثل جورج واشنطن، وجون أدامز، وتوماس جيفرسون، وألكسندر هاملتون- يثقون في الشعب، ولكن هذا الشعب بالنسبة لهم يتمثل في الرجل الأبيض صاحب الأملاك، الذي يمتلك قدرا كافيا من التعليم، حسب الكاتب.
وكان توماس جيفرسون -الكاتب الرئيسي لإعلان الاستقلال- يهتم إلى حد الهوس بتعليم الناشئة في الولايات المتحدة، ويؤكد ضرورة تنوير عقولهم ونشر العلم لدى الجماهير، من خلال تلقينهم المعلومات والحقائق التاريخية.
وكان يقول “يجب تعليم جماهير المواطنين وتمكينهم من كل المعلومات، إذ إن حريتنا لا يمكن أن تكون في مأمن إلا إذا كانت في أيدي الشعب نفسه، ويكون هذا الشعب على قدر معين من التعليم”.
وكتب جيفرسون “إن التعليم له تأثيرات مباشرة على الديمقراطية، وكلما كان المواطنون مثقفين بشكل جيد، يمكن استئمانهم على تسيير شؤون حكمهم”.
جامعة وطنية
في عام 1787، نشر الطبيب والمغني الأميركي بنجامين راش خطابا موجها لشعب الولايات المتحدة، تضمن مقترحا بإنشاء جامعة فدرالية، يتم فيها تدريس كل ما هو مرتبط بشؤون الحكم، مثل التاريخ وقوانين الطبيعة والأمم، والقانون المدني، والقوانين المحلية للبلاد، ومبادئ التجارة.
وشدد راش على أن هذا المخطط مصيري، من أجل نجاح التجربة الديمقراطية الأميركية.
الملاذ الآمن للديمقراطية
قد تبدو فكرة إنشاء جامعة عمومية تسعى لجعل الناس متشابهين فكرة مرفوضة في أيامنا هذه؛ إذ يتم الاحتفاء بالتنوع الثقافي وتقديس الاختلاف، حسب الكاتب.
لكن جورج واشنطن (أول رئيس للولايات المتحدة من 1789 إلى 1797- في أواخر عهدته الرئاسية كان تقدم بمقترح لإنشاء جامعة عمومية، تهدف إلى نشر التعليم من أجل جعل المواطنين أكثر تجانسا، وهي فكرة تستحق الاهتمام.
وحسب الكاتب، فإنه لو كان الرئيس واشنطن حيّا اليوم أعتقد أنه كان سيقدم وصفته للشعب الأميركي، ليكون الشعب الملاذ الآمن للديمقراطية؛ ولكان واشنطن أكد ضرورة تثقيف المواطنين في مجال التاريخ، وأكد دعم التعليم ونشر المبادئ السياسية، والحد من تركيز الناس على اختلافاتهم وهوياتهم. وبهذه الطريقة في نشر التفاهم بين العامة؛ يمكن بالفعل بناء أمة مستدامة، وبالتالي إنقاذ الديمقراطية، كما يختم الكاتب.
المصدر : مواقع إلكترونية