هل مثّلت سيمفونية بيتهوفن التاسعة الحرية والفرح أم الاحتجاج؟

ألّف لودفيج فان بيتهوفن العديد من السيمفونيات، لكن السيمفونية التاسعة التي ألفها عام 1823 كان لها وقع خاص في التاريخ سواء في لحظة تأليفها الذي أعقب زمن الثورات الأوروبية أو ما بعدها، إذ استلهم قصيدة “أنشودة الفرح” الغنائية للشاعر الألماني فريدريك شيلر (Friedrich Schiller) ليخرج بهذا الإبداع.

إنها السيمفونية التي أحبها هتلر، واستخدمتها النازية في أفلامها للدعاية، وهي التي تحولت إلى نشيد وطني لجمهورية رودسيا في حقبة إيان سميث (Ian Smith) التي تميزت بالعنصرية. توظيف السمفونية لم يتوقف عند الأفلام النازية الدعائية، بل نجد السيمفونية حتى في الأعمال التي تنتمي للأنظمة الديمقراطية سينمائيا، وفيلم “برتقالة آلية”( A Clockwork Orange) للمخرج الأميركي الكبير ستانلي كوبريك (Stanley Kubrick) تجسيد لهذا الحضور.

ويسعى هذا التقرير إلى إظهار تجليات وحضور السيمفونية التاسعة لبيتهوفن في مناحي متباينة في الحياة المعاصرة والحديثة.

السيمفونية التاسعة وجذور الحرية
تكمن جذور فكرة “الحرية” في القصيدة التي تسكن سيمفونية بيتهوفن، وفي التغييرات التي قام بها صاحب القصيدة الشاعر الألماني فريدريك شيلر وذلك عام 1803، أي قبل نحو 20 عامًا من إكمال بيتهوفن سيمفونياته.

حينما نشر شيلر القصيدة أعرب عن عدم رضاه عنها، مما دفعه إلى إعادة صياغتها وذلك بإدراجه مجموعة من التغييرات مثل عبارة “كل الرجال يصبحون إخوة” بدل “المتسولون يصبحون إخوة الأمراء”.

وحذف عبارة “الانفلات من سلاسل الطغاة”، وهو ما يظهر لنا أن الحرية كانت أمرا حساسا يُحظر ذكره صراحة، ولكن كيف أفلتت بعض الأبيات الثورية في القصيدة من أيادي الرقابة؟

الرقابة التي كانت تحظر مسرحيات شيلر بين عامي 1793 و1808، مرّرت له عبارات عديدة يمكن اعتبارها ثورية بمقاييس ذلك الزمن، لتتحول قصيدته إلى رمز من رموز الثورة الفرنسية في تلك الحقبة.

كان بيتهوفن على دراية بالقصيدة الأصلية والمنقحة معًا، وما يؤكد هذا الطرح سعي بيتهوفن إلى تضمين بيت واحد من النسخة الأصلية في القصيدة، مُفضلًا عبارة “استمروا يا إخواني في طريقكم”، على العبارة التي نقّحها شيلر “امضوا أيها الإخوة” .

باستثناء هذا البيت أخذ بيتهوفن قصيدة شيلر المنقّحة التي يمكن عدّها أقل حماسة في دعمها للمثل الثورية، ولكنها تقدم في المقابل شعورًا بالعالمية. وفي هذا الصدد يشير الأكاديمي جيل ك. هارت (Gail k. hart) إلى أن ذاكرتنا الجماعية أكثر تناغما مع نسخة بيتهوفن لـ”نشيد الفرح” من قصيدة شيلر الأصلية.

سقوط جدار برلين كدعامة للحرية
لحظة انهيار جدار برلين في عام 1989 لم تكن لحظة عابرة، فهي محطة أعقبها إعلان انتهاء الحرب الباردة، وبدأ بزوغ أطروحة الليبرالية الجديدة المتمثلة في “نهاية التاريخ” حسب تعبير فرانسيس فوكوياما. ووفق هذه الرؤية يمكن أن نلمس أهمية سنة 1989 بكونها أعادت الاهتمام بسيمفونية بيتهوفن التاسعة للعامة والنخبة معًا، وتمت العودة إلى السيمفونية باعتبارها تقدم إرثًا تاريخيا للمنتصر، وذلك في استقبال هذا الحدث التاريخي الجديد المتمثل في إسقاط جدار برلين.

وهنا تكمن أهمية العرض الذي قدمه المايسترو ليونارد برنشتاين (Leonard Bernstein) الذي أقيم في ديسمبر/كانون الأول 1989، حيث كانت فرقته تعزف سيمفونية بيتهوفن على جانبي جدار برلين الذي أُسقط.

وحتى تزداد أهمية هذا الأداء بالنسبة للمتلقي أجرى برنشتاين تغييرًا على قصيدة شيلر، حيث أدخل كلمة “الحرية” (Freiheit) بدل كلمة “الفرح” (Freude) المدرجة في قصيدة السيمفونية المعروفة باسم “أنشودة الفرح”، وهذا التغيير لم يكن أمرا ذائعا آنذاك في الحياة المعاصرة، لذلك استطاع برنشتاين لفت الانتباه وإيصال رسالة قائمة على مركزية “الحرية”.

ولا شك أن المحرك وراء قرار برنشتاين مردّه إلى البعد الرومانسي الذي تكتسيه تلك اللحظة التاريخية التي شهدت سقوط جدار برلين، وهو ما يتوافق مع روح بيتهوفن التوّاقة للحرية، وكذا سمعة شيلر باعتباره “شاعر الحرية” أيضا.

الاحتفاء بسيمفونية بيتهوفن لم يكن حبيس المسارح والعروض الرسمية في ألمانيا حينها، فالحركات الاحتجاجية الشعبية في ألمانيا وظّفت “أنشودة الفرح” كأنشودة عالمية للاحتجاج والاحتفال، وهو ما تجسد بتسلق الشباب الألمان جدار برلين وتجمهر الناس حولهم ليرددوا “أنشودة الفرح” بأنغام بيتهوفن، لتكون لحظة سقوط جدار برلين لحظة تظهر قيمة مقطوعة بيتهوفن عند العامة والنخبة، ولحظة تجسد النصر والحرية معا.

عرض برنشتاين لم يكن الأول من نوعه الذي يظهر تبني الدولة لسيمفونية بيتهوفن كرمز للسيادة والنصر، فأبرز حضور لسيمفونية في التاريخ الحديث كان في حقبة هتلر الذي كان معجبا بهذه السيمفونية، مما جعلها تحضر في عروض رسمية عديدة أبرزها الألعاب الأولمبية ببرلين سنة 1936.

غير أن النازية لم تكن الوحيدة من يستحضر هذه السيمفونية، ففي عام 2000 قام قائد الأوركسترا البريطاني سيمون راتل (Simon Rattle) بعزف السيمفونية التاسعة في معسكر اعتقال ماوتهاوزن السابق (Mauthausen Concentration Camp) للاحتفال بالذكرى السنوية الـ55 لتحريره من قبضة النازيين.

اختيار السيمفونية التاسعة لهذه المناسبة أثار دهشة كثيرين، وكأنها حالة من طقوس التطهير من الفظائع النازية التي قاموا بها في معسكر الاعتقال، واستدعاء “أنشودة الفرح” لبيتهوفن في ذلك الموقع يجسد قيمة التحرر، وفي الوقت نفسه هو تجسيد يحرر السيمفونية من التبنّي النازي لها.

السيمفونية رمز للوحدة الأوروبية
ليست فقط الأنظمة النازية والسلطوية هي من تبنّت سيمفونية بيتهوفن، بل امتد هذا التبني ليشمل بعض أكثر الأنظمة ديمقراطية في التاريخ المعاصر، إذ جعل الاتحاد الأوروبي من لحن “أنشودة الفرح” لحنه الرسمي.

يرى الاتحاد الأوروبي أن هذه السيمفونية لا ترمز فقط إلى الاتحاد الأوروبي كجهاز سياسي ولكن إلى أوروبا بمعناها الواسع، وتعبر “أنشودة الفرح” عن رؤية شيلر المثالية بأن يصبح الجنس البشري إخوة لبعضهم بعضا.

وفي عام 1972 تبنّى المجلس الأوروبي “نشيد الفرح” لبيتهوفن نشيدا له، وفي عام 1985 اعتمده قادة الاتحاد الأوروبي باعتباره النشيد الرسمي للاتحاد الأوروبي. ورغم أن النسخة المعتمدة من الاتحاد الأوروبي تخلو من قصيدة شيلر، فإن لحن بيتهوفن كان كافيا ليجسد المثل الأوروبية للحرية والسلام والتضامن والأخوّة. ويُعزف النشيد في الاحتفالات الرسمية التي يشارك فيها الاتحاد الأوروبي وكذلك في الأحداث ذات الطابع الأوروبي.

وما يظهر حجم تماهي هذا النشيد مع هوية الاتحاد الأوروبي أن هناك حدثا عرفه البرلمان الأوروبي عن طريق أنصار خروج بريطانيا من الاتحاد، حيث أداروا ظهورهم أثناء عزف موسيقى بيتهوفن التي تعد نشيدا للاتحاد الأوروبي بمناسبة افتتاح البرلمان.

السيمفونية والاحتجاج
لم تكن الحركات الاحتجاجية الشعبية الألمانية الوحيدة التي وظّفت “أنشودة الفرح” أثناء أحداث إسقاط جدار برلين، بل امتد صدى هذا الأمر إلى حدود الصين، ففي احتجاجات الصين عام 1989 أثناء انتفاضة الطلاب هناك، استخدم المتظاهرون سيمفونية بيتهوفن التاسعة لتحفيز ومنع إعلانات الحزب الشيوعي من الانتشار.

لم يكن اختيار سيمفونية بيتهوفن التاسعة من قبيل الصدفة، بل هو استدعاء لرمزية معزوفة كانت حاضرة حتى أثناء الثورة الثقافية في الصين خلال الستينيات، وهو ما جعل النظام ينظر للسيمفونية على أنها معادية للثورة، وبلغ هذا الاستدعاء ذروته في أحداث تيانانمين المأساوية في 4 يونيو/حزيران 1989.

ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، ففي تشيلي خلال حقبة الرئيس أوغستو بينوشيه (Augusto Pinochet)، كانت العديد من النساء اللواتي يطالبن بمعرفة مكان وجود أزواجهن وآبائهن المختفين يرفعن اللافتات بطريقة سلمية احتجاجية، وكُن يرددن في احتجاجهن أنشودة الفرح بنغمات بيتهوفن أمام السجون التي احتُجز فيها العديد من المعارضين السياسيين، وهو ما جعل المؤرخ الموسيقي الأميركي لويس لوكوود يقدم ملاحظة مهمة، مفادها أن السيمفونية التاسعة تحولت إلى ظاهرة من حيث قدرتها على أن يتم تبنّيها من طرف السلطة الرسمية والحركات النضالية معا.

السيمفونية بين الرسمية والشعبية
قدّم سيجي أوزاوا (Seiji Ozawa) مدير أوركسترا بوسطن عرضا للسيمفونية التاسعة لبيتهوفن، وتميز هذا العرض بكونه عابرا للقارات الخمس في آن واحد، وعزفت السيمفونية جوقة مؤلفة من ألفي شخص منتشرين في مواقع عديدة (بكين وبرلين وكيب تاون ونيويورك وسيدني).

وتكمن أهمية هذا العزف المقدّم في ما يمكن اعتباره أنه مُزامنة دقيقة رغم تباعد أعضاء الأوركسترا المتناثرين في جميع أنحاء العالم، وهو ما يجعل السيمفونية تحظى بأعلى الدرجات من النظام والدقة، وربما يمكن تشبيهها هنا بمعزوفة “المسيح” للموسيقار البريطاني “جورج فريدريك هاندل” (Georg Friedrich Händel) من ناحية التزامنية الدقيقة، لكن الترجيح هنا للسمفونية التاسعة لبيتهوفن راجع بالأساس إلى تأثيرها الثقافي الممتد.

واللافت كذلك أن السيمفونية التاسعة لبيتهوفن لم تظل حبيسة العروض الرسمية التي تسعى إلى المثالية والدقة، بل انتقلت إلى الشارع لتجسيد الفرح الشعبي وهو ما يمكن لمسه في عروض “فلاش موب” (flash mob) المرتبطة ارتباطًا وثيقًا بالشبكات العنكبوتية، وهي عروض مرتبطة بقوة بالفضاء العام، وتجمعات “الفلاش” لا تخلو من صفات التناسق والتناغم والسعي إلى المثالية كذلك ولكنها تجمعات شعبية بالأساس.

ويمكن أن نلمس من أعمال “الفلاش” للسيمفونية التاسعة لبيتهوفن أن عامة الناس غير المحترفين قادرون كذلك على الإبداع.

والجدير بالذكر أن أكثر العروض مشاهدة على الشبكات العنكبوتية للسيمفونية التاسعة تعود إلى عروض “الفلاش”، وقد تمت مشاهدتها عشرات الملايين من المرات، ليظهر لنا مدى ترسخ هذه السيمفونية في وجدان العامة والنخبة في الوقت نفسه.

ومن هذا العرض يمكن أن نستشف أن سيمفونية بيتهوفن التاسعة جمعت المتناقضات، سيمفونية تبنّتها الأنظمة الرسمية والحركات الاحتجاجية، وتبنتها الأنظمة السلطوية والديمقراطية معا، كما جسدت السيمفونية الطابع الرسمي والشعبي في الوقت نفسه، هذه السيمفونية لحن عصرنا الحديث.