يقول نقاد إن إنتاج الأدب العجائبي والفانتازي قليل ومحدود في السياق العربي، ويلحق باحثون الأدب الغرائبي العربي بالغرب، لكن روايات عربية فانتازية حديثة تشكك في تلك القناعة المستقرة في الدراسات الأدبية.
بعد 16 رواية، أصدر الروائي العراقي طه حامد الشيب -الحاصل على جائزة نجيب محفوظ في الرواية عن روايته (الضفيرة) عام 2000- روايته الـ17 تحت عنوان (خلو) لتثير كثيرا من الأسئلة في العراق.
وفي هذه الرواية -الصادرة 2021- يبتدع الشيب النص الداخلي الخالي من الحكاية، مستخدما ما يسميه اللعبة السردية، وهو أيضا لا يتنازل عن جعل الواقع الذي يعيشه الإنسان العراقي غرائبيا وفانتازيا.
التحرك والفضاء المخيالي
وفي روايته -الصادرة عن منشورات الاتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق وتبلغ عدد صفحاتها 340 صفحة كما هو حال أغلب رواياته التي توصف بالملحمية- يمارس الروائي لعبة صناعة الوهم مثلما يمارس لعبة صناعة التشويق، لذا هو يصنع مادة درامية مليئة بالتفاصيل، حتى لكأنه يراقب “راويه العليم” لمجاراة الواقع الذي يعيشه، ويخلق شخصيات تتصارع.
ويقول الشيب عن الرواية “أتركها تتحرك عبر فضاء مخيالي، لا ينزل إلى الواقع الكلي ولا يتبعد إلى سماوات بعيدة، بل واقع متحرك في المخيلة القرائية”؛ ولهذا كانت شخصيات الرواية عبارة عن مناورة واقعية مبنية على أساس خبرته الكبيرة، التي جعلته واحدا من الساردين العراقيين خلال الـ20 سنة الماضية.
ويوضح “شخصية حامد الديو تعيش بين مجهولين، وهما الواقع والتغريب، البساطة والتركيب التضادي والتوافق، الواقع الحاضر والماضي الذي يتحرك بطريقة “الفلاش باك”، فهذه الشخصية المحورية تتحرك بمعية شخصيات أخرى لصناعة الرواية أو حدث الرواية أو حكاية الرواية”.
لكن الشبيب لا يريد الحديث عن فكرة الرواية، بل يرمي الكرة في ملعب القارئ ويقول “كديدني في جميع رواياتي، باستثناء روايتي الأولى (إنه الجراد) أعمل فيما أسميه رواية النص الداخلي؛ حيث لا توجد حكاية يؤتى بها من الواقع المعيش بل تخلق تخليقا داخل النص”.
وهو يرى أن الحديث عن فكرة الرواية صعب جدا، ويضيف للجزيرة نت “لا أستطيع -في الواقع- أن أتحدث عن حكاية حكاية بالمعنى المتداول، لأن هذا أشبه ما يكون بلعبة يخترعها مجموعة أطفال، يتمتعون بما يرونه منها وما يلمسونه”.
بل ويذهب بعيدا إلى القول “ليس بوسعي، ولا بمقدور أي جهد نقدي، أن يقول -على وجه التحديد والتأكيد- بأن هناك في الرواية حكاية تشبه حكايات واقعنا المعيش كون أحداثها مليئة باللايقين”، تاركا الأمر لكل قارئ أن يستخلص شكل الحكاية التي رسمها هو، وليس الكاتب، “محللا الأمر إلى أن فيها ما يصطلح عليه (رواية النص الداخلي)، وهو ما اصطلح على وصف تجربتي بأنها سحرية واقعية، فبالتأكيد هذه الرواية تنتمي لهذا النهج الكتابي”.
المشروع المستمر
الشبيب يعتبر رواية (خلو) متواصلة مع خطى مشروعه الإبداعي كونها -كما يعبر- “مراكمة مثالا تطبيقيا آخر على الروايات السابقة بوصفها مادة بحث في موضوع رواية النص الداخلي” عبر الشخصية الرئيسية لتكون -كما يعتقد الشبيب- “إمعانا في تأكيد موقفي الإنساني الذي تناولته رواياتي السابقة، البحث عن عالم بلا قبح”.
وهو يؤكد مرة أخرى أن لعبته السردية في هذه الرواية التي استخدم فيها كل أنواع السرد “تحتاج إلى أكثر من قراءة للتمتع بكل التفاصيل التي تبدو شكليا متناقضة، لكنه صراع وتناقض ممتع يجعل القارئ يشترك في صناعة الأحداث وتوقع مصير الشخصيات”.
ويعتبر الشيب الكتابة “عملية تأمل بصوت عال في العالم من حولي، تأمل يتكثف ويتكثف حتى ينتهي إلى أن يكون موقفا ثقافيا يتطلب مني أن أصوغ له حكاية تناسبه، حكاية مبنية بناء فنيا خصيصا لهذا الموقف وليس لسواه” بل ويعرج إلى القول عن مفهوم الكتابة بأنه “رحلة لصوغ حلم يشكل العالم من جديد كما ينبغي له أن يكون”.
وقدم الشيب روايته الأولى التي أحدثت ضجة وحملت عنوان (إنه الجراد) الصادرة عام 1995، لتليها روايته الأكثر تأثيرا (الأبجدية الأولى) وكذلك رواياته (مأتم) و(الضفيرة) و(خاصرة الرغيف) و(الحكاية السادسة) فضلا عن رواياته (شواء) و(طين حري) و(حبل غسيل) و(مقامة الكيروسين) و(سأسأة) إلى روايتيه الأخيرتين (في اللاأين) و(عن لا شيء يحكي) وغيرها.
الأزمان الأدبية
إن رواية خلو ليست سهلة القراءة كما في رواياته (وأد) و(وديعة آدم) و(حبل غسيل)، ففي كتاباته ثمَّ احتراف، وهو يكتب بطريقة لا يريد فيها للقارئ توقع ماذا سيحدث، خاصة أن أحد “ثيماتها” هو الموت، حسبما يقول الناقد الدكتور حسين حمزة الجبوري.
ويتابع الناقد العراقي -للجزيرة نت- بالقول إن الموت “يثير الكثير من الأسئلة لما يحمله من نزاع أزلي بين الإنسان والقدر، فكان ضيفا ثقيلا عليه، وهو ’ثيمة‘ أصيلة في هذا الوجود”.
ويرى الناقد أن القتل في الرواية هو “الصورة الأكثر بشاعة من صور الموت الذي يقوم بالاعتراف بحق الإنسان في السيادة” ويرى كذلك أن ثيمة الموت هي الأقوى في الرواية وقد أصبحت “بؤرة الحدث، بامتداد زمنه المتعدد الطبقات، والمتداخل مع بعضه على نحو كبير حتى بدا فك تداخله صعبا”.
الناقد الدكتور حسين حمزة الجبوري يعتبر أن رواية خلو تتنقل بالقارئ بين الشك واليقين
ويعتقد أنه يحمل “بعدا سيمائيا متعدد الوجوه والدلالات؛ لا سيما أن هناك شكوكا سوف تثار إزاء هذا الحدث وصحته من السارد، الذي كان يستمع إلى رواة آخرين. وهو ما جعل رواية (خلو) تنتقل بين اليقين والشك” مما يجعل الزمن الحاضر وكأنه زمن الأزمان الشعرية كلها في الرواية، فيتقدم بالحدث إلى الأمام ثم يعود دائريا إلى البدايات.
ويقودنا هذا المشهد إلى ظاهرة أشد قسوة وأكثر إثارة وبشاعة من ظواهر الموت، وهي ظاهرة الحرب بين الدول، بحسب ما يراه الناقد عن الرواية.
وعن تقنية تعدد الأصوات في الرواية يقول الجبوري إنها قد أسهمت “في بناء تجربة أسطورية مختلقة، فكل واحد من السكان يروي الحدث بحسب وعيه وثقافته؛ لا سيما أن هناك أصواتا نسمعها ولا نعرفها وهذه تكشف عن قدر كبير من الفكر الأسطوري التراثي عن القتلة والسلطة، فهؤلاء مخلوقات عجائبية وغريبة اختلف الناس فيها”؛ لذا يعتقد أنها باتت “حديث خرافة” ويقصد صور تلك المخلوقات أو الكائنات الكونية التي حملتها الرواية سواء أكانت من “النساء أم الرجال، وهل هم عمالقة أو قصار القامة؟” وهي تبرز اللعبة السردية في الرواية.
نص تخيلي وشخصيات فنتازية
ثمة من يعتبر رواية (خلو) رواية فانتازيا وإنها تحتاج إلى قراءة تأويلية كفؤة، بحسب قول الناقد حمدي العطار؛ فلكي يتم اكتشاف حيثياتها لا تحتاج إلى “قارئ نصي، بل إلى قارئ ضمني يكون في مستوى النص ويستخدم الحدس والتوقع، وتغيير التوقعات في مجرى عملية القراءة”.
ويعلل العطار ذلك باعتبار الرواية “نصا تخيليا يقدم شخصيات فانتازية تحتاج إلى تقنيات الإقناع وقد توفرت في هذه الرواية”.
ويشرح العطار شخصيات الرواية التي تبدأ بسارد، وهو” (أخو نوفل) حيث يتعمد الروائي عدم ذكر اسمه وهو بهذا يستعين بعدد من الشهود لتأكيد ما يصرخ به عن شخصية أخرى (عمو حاتم مات)، وهو بطل الرواية (حاتم الديو) الذي يتعرض في بداية الرواية إلى عملية اغتيال”.
ويفسر العطار الغرائبية من خلال حركتين “أولها تعدد الرواة، والثانية حين يقدم ظاهرة غريبة من (أرض العراك)، هذا المصطلح الذي استخدمه الروائي بدلا من (جبهات القتال) إذ العراك بين العراق وإيران الذي يرى فيهما السارد نوعا من التشابه”.
وبحسب العطار، يعني ذلك أن “زمن الرواية هو زمن الحرب العراقية الإيرانية وما يحدث من تراكم علاقات”. ويشير العطار إلى أن الرواية “تنتمي إلى ما بعد الحداثة لأن الزمن يتكسر عند مستويات السرد، فلا يعرف القارئ الانتقالات المتوالية عبر الزمن من خلال ما يطلق عليهم الشهود، فتارة يكون القارئ عند الحرب العراقية الإيرانية وتارة شخصية أخرى حاضرة”.
السارد اللولبي
لا يخوض الشبيب تجربة جديدة في الكتابة السردية، بل إنه يواصل مشروعه في التحول من الواقعي إلى الغرائبي والعكس صحيح، ولهذا فهو يقدم مادته الروائية كما يقول الناقد العراقي صباح محسن جاسم “بأسلوب السارد اللولبي المستعين بنماذج لغوية سردية متعددة تجاوزت الـ5 أصوات بمستويات مختلفة”.
الناقد العراقي صباح محسن جاسم يعتبر أن رواية “خلو” تتميز بلغة مترابطة ومتناسقة تعتني باستقلالية الشخوص
ويرى جاسم أن هذه الطريقة “ليست توليفية من جانب، ولا فردانية من جانب آخر، بل يتسيد فيها البطل الجماعي ويصبح الواقع بداخلها أمرا معقدا للغاية” ولأن الرواية في طرحها لا تعتمد على التصاعد الحكائي، بل إنها حسبما يقول “تمكن من إظهار كل ما هو ملحمي وغنائي وتراجيدي وفلسفي في محاكاة ساخرة، قد انعكست غالبا عن واقع معاش تتداخل أحداثه متجاوزة بما في ذلك أنماط ما وراء الخيال”.
وهو ما يتجلى -بحسب الناقد- في الجانب السردي عبر “لغة مترابطة ومتناسقة تعتني باستقلالية الشخوص بموضوعية لا تحمل الشك بتدخل من الروائي، فهو يرى أن اللغة تجمع بين الشعرية ولغة التداول اليومي حيث يهيمن الكاتب في توجيه بقية عناصر السرد انسجاما مع بنية التواصل، فهو تعبيري نابه وساخر في الوقت ذاته يمنح لغة السرد شكلها الأدبي المميز”.
ويختم الجاسم بالقول إن الروائي قد “حرص على تلوينه للهجات المتلاقحة بين ما هو أعجمي ومحلي عربي؛ فاللغة هوية المتكلم”.