تحمل رحلات الحج بصورة خاصة أهمية كبيرة من حيث ما تكتنزه من خزان معرفي وتاريخي وثقافي لكل الأراضي التي تشملها الرحلة المتوجهة إلى الحج.
وفي هذا الصدد، تكمن أهمية الرحلة الحجازية للحاج البشير البرتلي 1204هـ/ 1789 م بين مثيلاتها من رحلات المغاربة عموما والشناقطة خصوصا، بحكم أنها أقدم رحلة شنقيطية مدونة، كما أنها تختلف عن الرحلات المدونة اللاحقة من حيث الطريق الذي سلكه، وهو طريق مغاير لكل الطرق الأخرى التي سلكها الحجاج في ما بعد، وتكمن أهمية الرحلة في وصفه لنا المدن والقرى العامرة التي مر عليها، كل هذا تضمنه المخطوط الذي دبجه لنا الحاج البشير البرتلي.
هذه الرحلة انطلق فيها الحاج البشير البرتلي من مدينته ولاتة الموجودة في منطقة شنقيط والتي يرى المحقق أنها كانت تعود للحكم السعدي في تلك الحقبة، وأشار الحسن الوزان (الجغرافي والمؤلف ذو الأصل الأمازيغي الشهير أيضا باسم ليون الأفريقي) إلى أن ولاتة كانت مدينة تتعايش فيها جماعات مختلفة، منها العناصر السودانية التي تتحدث لغة السونغاي، كما لاحظ ابن بطوطة الذي قام بزيارة المدينة في القرن الـ14 م تمازج العنصر السوداني مع نظيره الأمازيغي، ومن هنا نشأ الحاج البشير بن الحاج أبي بكر بن الطالب عمر البرتلي المتوفى 1214 هـ/1800 م.
وبحكم أن الرحلة تقوم على الإيجاز والاختصار فهي تخلو -حسب المحقق- من التأنق في التعابير، إلا أنه يلتزم بأسلوب السجع في صياغة العبارة، كما تشير المخطوطة إلى تأثر البرتلي باللهجة الحسانية في صياغته للمخطوط الذي دون فيه رحلته للحج، لتكون رحلة مدونة بالعربية الممزوجة باللهجة الحسانية الصحراوية لمنطقة شنقيط.
وعلى ضوء هذا قدم المحقق المصري الدكتور عمرو عبد العزيز منير تحقيقه للمخطوط الذي يشهد على “أقدم رحلة شنقيطية مدونة للحج”، هذا المخطوط صدر عن مطبعة بريل العريقة سنة 2021، وعمرو منير هو باحث وأكاديمي في التاريخ والفولكلور، وسيسعى الحوار إلى إظهار بعض معالم ومميزات هذه الرحلة الشنقيطية إلى بلاد الحرمين.
أولا: كيف عثرت على هذا المخطوط؟ وما هي قيمته؟ وكيف عرفت من صاحب الرحلة؟
بحكم اهتمامي بعالم الرحلة والدراسات ذات الصلة بالثقافة الشعبية فقد كنت دائم التنقيب الدائم في مجاميع المخطوطات بحثا عن النوادر، وسعيا لنفض الغبار عن التراث وإعادته إلى الحياة، وهكذا جاء العثور على المخطوط صدفة ضمن سجل فهرسة مجموعة مخطوطات كان بعضها في الأصل ملكا لجدي عبد السلام المعلم الذي كان مهتما بجمع الكتب والمخطوطات، وتم إهداؤها لدار الكتب بالزقازيق بمحافظة الشرقية في مصر.
وفي البداية لم يكن الأمر واضحا، حيث كانت الرحلة منسوبة للمسمى “البيشي”، ولكن بعد البحث والتقصي اكتشفت أنه لا وجود لشخص بهذا الاسم، وأنه ربما وقع تصحيف أو سوء قراءة أو فهم، وفعلا كان الأمر كما توقعت، حيث لم يتمكن المفهرس أو كاتب السجل من قراءة الاسم المكتوب بالخط المغربي فثبته على أنه “البيشي”، وقد تأكدت من حقيقة الرحلة بالرجوع إلى المصادر التي تحدثت عن صاحبها، وأنها رحلة الحاج “البشير البرتلي الولاتي” التي قام بها سنة 1204 هـ/1789 م إلى الحرمين الشريفين، وأنها أقدم رحلة حجازية مدونة خرجت من بلاد شنقيط، وأنها ظلت في طي النسيان وحكم المفقود.
ولولا الإشارة التي أوردها مؤلف كتاب “فتح الشكور” عند ترجمته لصاحبه الحاج البشير البرتلي لكان مصيرها الضياع إلى الأبد، وأكد لنا ذلك أيضا بعض الإفادات باحتمال وجودها في إحدى مكتبات مدينة الزقازيق، أو مدينة طنطا المصرية، من دون أن يتيسر الحصول عليها لأي من الباحثين من أجل تحقيقها ونشرها.
عند الحديث عن هذه الرحلة باعتبارها رحلة قام بها “البشير البرتلي الولاتي”، هل يمكن أن تعطي لنا خلفية عنه، سواء الدينية أو الاجتماعية؟
مؤلف الرحلة هو كما عرف نفسه “الحاج البشير بن الحاج أبي بكر بن الطالب محمد بن الطالب عمر البرتلي الولاتي دارا ومسكنا ومنشأ ووطنا، المالكي مذهبا، الأشعري اعتقادا”، وينتمي إلى قبيلة “بارتيل” الأنصارية التي اشتهرت بكثرة علمائها وشيوخها، وإلى أحد أجل البيوتات العلمية العريقة لتلك القبيلة بمدينة ولاتة، فقد كان أبوه الحاج أبو بكر وجده الطالب محمد وجد أبيه عمر الملقب بالخطاط من صدور العلماء المدرسين المؤلفين.
ولم تذكر المصادر الكثير عن تفاصيل دراسته، غير أنه مما لا شك فيه أنه أخذ عن والده وعن علماء بلدته ولاتة، وأنه درس ما يدرسه عادة أمثاله من أبناء ولاتة من علوم القرآن، والفقه، واللغة، والحديث، والمنطق، وغيرها.
أما أشياخه من خارج ولاتة فقد ذكر هو في رحلته ما يؤكد الذي أورده مؤلف فتح الشكور من أنه أخذ الشفا بالتعريف بحقوق المصطفى -صلى الله عليه وسلم- عن الفقيه المحدث محمد الأمين بن الطالب سيدي أحمد السوقي، وأجازه به، وأنه لقي في رحلته العلماء والصالحين واستجاز بعضهم فأجازوه، ومنهم العلامة محمد بن محمد الزبيدي الحسيني المعروف بالشريف المرتضى الذي لقيه في مصر وأجازه، وزاد بأنه أخذ علم السر عن الفقيه عمر بن مودي حمد الفلاني السيوبي.
ويبدو أن تخصصه كان في الحديث الشريف، حيث استجاز فيه وأجاز، وكان الطالب البشير شاذلي الطريقة، محبا للنبي صلى الله عليه وسلم وآل بيته ومحبا للصالحين حريصا على زيارتهم والتماس بركاتهم، فقد وصفه صاحب فتح الشكور بأنه كان محبا للنبي صلى الله عليه وسلم، مشتاقا، ملازما لقراءة قصائد المديح النبوي خبيرا بضروبها، ويطرب عنده غاية الطرب ويهتز له ويحبه، وأنه كان يحضر مجالس البخاري والشفاء.
وتؤكد ذلك رحلته الطافحة بالتماس البركة دائما، وحرصه على زيارة كل مظنة لها، من مزارات ومواضع ومشاهد وأماكن مباركة، ويذكر المحجوبي أنه “ما زال مشتاقا للنبي صلى الله عليه وسلم حتى حج وزاره صلى الله عليه وسلم”.
وقد أكدت الرحلة كذلك حرصه على أخذ العلم واستجازة العلماء، بالإضافة إلى صفات أخرى، منها الصبر وتحمل المشاق، وقد وصفه الإديلبي في تاريخه وصاحب كتاب “فتح الشكور” بالصالح “المداح”، توفي الحاج البشير -رحمه الله تعالى- في 11 رمضان سنة 1214 هـ الموافق للسادس من فبراير/شباط 1800 م.
ما هي الأمور التي تكشفها لنا رحلة الحاج “البشير البرتلي الولاتي” التي قام بها سنة 1789 م إلى الحرمين الشريفين من مظاهر اجتماعية اتسمت بها الرحلة؟
تكتسي الرحلة الحجازية للحاج البشير البرتلي أهمية بالغة بين مثيلاتها من رحلات المغاربة عموما والشناقطة خصوصا، فهي أقدم رحلة شنقيطية مدونة، كما أنها تختلف عن الرحلات المدونة الأخرى في الطريق الذي سلكته، وهو طريق نفتقد -أو نكاد- أي رحلة حجازية مدونة مشابهة سلك صاحبها هذا الطريق الذي تجمع المصادر على أهميته، ويصف لنا صاحبها المدن والقرى العامرة، معددا مزاراتها وأضرحتها ورجالاتها الصالحين.
كما تتفرد الرحلة بوصف صحراء تنزروفت (جنوب الجزائر حاليا) الموحشة، وتقدم لنا مادة جغرافية جزلة حول هذه المنطقة المجهولة التي لم يتطرق إليها الجغرافيون الأوائل إلا بشكل سطحي وعام، كما تعدد الرحلة منازل الطريق وصولا إلى الحرمين الشريفين وآبار المياه فيها عذبها ومالحها، واصفة جغرافيتها وتضاريسها، وتزخر بالكثير من الإشارات التاريخية المتعلقة بمدينة ولاتة، وبلاد توات، وصحراء ليبيا، ومصر، والحجاز، ويحفل نصها ببعض الظواهر اللغوية الخاصة، وينبئ عن ثقافة صاحبها الدينية وسلوكه الصوفي المفعم بمحبة النبي -صلى الله عليه وسلم- والصالحين.
أما المظاهر الاجتماعية التي استفاض في ذكرها فمنها وصفه لحفرة الركب في عين صالح بالجزائر، ومرزق في ليبيا، لكنه أولى اهتماما خاصا لبلاد الحرمين الشريفين ومعالم مكة كدار المولد النبوي التي وصف الحالة التي كانت عليها إبان حجته، وكذلك المزارات التي زارها في المدينة المنورة ومصر.
كيف وصف الحاج “البشير البرتلي الولاتي” رحلته للحج؟
رغم أن الرحلة تقوم على الإيجاز والاختصار فإنها تضمنت تفاصيل مهمة، فإضافة إلى أحداثها التي كان الحاج البشير دقيقا في تسجيلها فإنه تعرض لذكر مختلف المسالك التي سلكها ركبه، واصفا تضاريسها ووعورتها وسهولتها ودرجات أمنها وخوفها، كما وصف المنازل التي حل بها والمزارات التي زارها والمشاهد التي عاينها، ووصف المشاق التي لاقاها الركب في صحراء تنزروفت وفي جبال الهروج الليبية وما بعدها قبل دخول مصر، ووصف دقائق المسلك الرابط بين مصر ومكة المكرمة وما عانوه في صحراء التيه.
كما وصف استقبال الحجيج من طرف سكان بعض المدن التي مروا بها، وتعرض لذكر المناهل والآبار والعيون التي مر بها الركب في طريقه وفصل فيها، خاصة في ما يتعلق بعذوبتها وملوحتها، فلم يترك بئرا ولا منهلا إلا ذكر طبيعة مياهه، وكان يصف بعض المياه بأنها غاية في الخبث، فيما يصف بعضها الآخر بأنها طيبة عذبة، ويذكر تأثيرها على شاربها.
كما وصف الغطاء النباتي، من حشائش ونباتات ترعاها إبل ودواب الركب، وكذلك الأشجار مثمرة كانت أو غير مثمرة، وكان يسمي تلك الحشائش والنباتات والأشجار بالأسماء التي يطلقها عليها أهل ولاتة، وربما عقد مقارنات بينها.
كيف نظر للمسلمين من مختلف البقاع التي زارها قبل مثل بنغازي ومصر؟
أفاض البرتلي في ذكر خصال أهل فزان وكرمهم واحتفائهم بالحجيج، وعاداتهم في استقبالهم، وخروج السلطان لاستقبال الأركاب، ووصف مراسم الاستقبال الذي خصهم به، وتحدث عن محبة أهل بنغازي الخاصة للحجاج الشناقطة، وحرصهم على مرافقتهم قائلا “إنهم قوم كرام يحبوننا غاية، ولنعم الركب هم”.
وفي مصر التقى بالعديد من العلماء، من أبرزهم الشيخ محمد بن عبد الرزاق الشهير بالمرتضى الزبيدي الحسيني الذي حصل على الإجازة في صحيح البخاري وكتاب “الشفا” للقاضي عياض من الشيخ منه، وقد كان البرتلي من آخر من أجازهم الزبيدي الذي توفي قبل رجوع البرتلي إلى بلده بقليل، والرحلة تبرز دور الحج إلى مكة والمدينة في نقل العلوم والمعارف والأفكار الجديدة بين أطراف أفريقيا وبين آسيا.
قمت بمجهود آخر حيث تتبعت آثار البرتلي بنفسك، كيف تصف هذا الأمر؟
سعيت لتتبع خطى البرتلي -رحمه الله- فزرت بلاد توات بالجزائر، وحرصت على زيارة حفرة الركب بعين صالح، ثم إنني أحرمت بالحج، لأعيش الأجواء التي كان يعيشها البرتلي وهو حاج، وزرت ما هو باق إلى اليوم من مزارات ذكرها في مكة والمدينة.
أما مرحلته في مصر فتتبعت خطاه في ما ذكر مما لا يزال ماثلا من معالم، كجامع أحمد بن طولون، والمزارات والمساجد التي زارها.
وأظن أن الواجب الآن على المحقق تتبع خطى الرحالة عبر نصوصهم ما استطاع إليه سبيلا، كتشجيع وبعث لواحد من أعرق ألوان الكتابة في ثقافتنا العربية من خلال الأعمال المحققة في أدب الرحلة، بما تحمله من شهادات وأفكار وأبحاث من الدارسين الحديثين حول نص الرحلة بوصفها رصد كل تلك الاختلافات بين سرد قديم وسرد حديث واستكشاف المختلف في العالم والنص.
المصدر: الجزيرة