الرباط – كان يقف أمام اللوحات المعروضة أكثر من غيره، يتأملها بعمق واهتمام وكأنه يستمع لحوار شخوصها، ويسترجع شريط معيشهم اليومي منذ أكثر من 190 عاما.
وفي جولة بمعرض يعيد إحياء ذكريات رحلة الفنان الفرنسي أوجي دولاكروا للمغرب، الذي يفتح أبوابه لزواره طيلة صيف 2021 (من فاتح يوليو/تموز حتى التاسع من أكتوبر/تشرين الأول) قال الفنان التشكيلي عبد رحمان وردان -في حديث للجزيرة نت- إن لوحات دولاكروا تقدم العديد من التقنيات، وخصوصا موضوع الضوء.
ويعد دولاكروا (1798 – 1863) رائد المدرسة الرومانسية وأحد أكبر رسامي فرنسا القرن 19، وكان قد دخل المغرب في يناير/كانون الثاني 1832، ضمن بعثة دبلوماسية.
واعتبر وردان أن “اللوحات مبنية على مشاهدات دقيقة للفنان الفرنسي، وتقدم صورا متعددة لمغرب القرن 19، جعلتنا نستشعر أحاسيس المرحلة وخصائصها”.
لباس ونمط عيش
بالإضافة لما تتضمنه لوحات دولاكروا من تفاصيل لشخوص وأحداث المرحلة، قد احتفظ من رحلته بمقتنيات عينية من لباس وأوان وأسلحة وآلات موسيقية، شكلت فرصة للباحثين من زوار المعرض للتعرف عن قرب عن نمط العيش في القرن 19 بالمغرب، ومكنتهم من الوقوف على طبيعة المادة الخام والشكل الحقيقي بعيدا عن الوصف وحده.
يقول للجزيرة نت هشام الأحرش، باحث في التاريخ ومهتم بتاريخ اللباس والأكل كرافدين من الثقافة المغربية، إن مقتنيات دولاكروا المعروضة مكنته كباحث من التقرب أكثر من اللباس الذي كان سائدا في القرن 19، سواء من خلال اللوحات أو الألبسة، وخصوصا “اللبسة الكبيرة” المعروضة (قفطان ميز العرس اليهودي هذا القرن، وكانت تلبسه النساء في الحواضر) الذي بقي يحفظ تفاصيل دقيقة عن الشكل والتصميم والتطريز والحياكة والقماش وطريقة اللباس والألوان.
تفاصيل ثقافية من القرن 19 بمعرض “المؤسسة الوطنية للمتاحف” بالمغرب
ويضيف الأحرش أن اللباس المعروض نادر، يعود لما يقرب من قرنين، ويمكن اعتباره الأكثر ندرة أو الاقدم في المجال، بالإضافة للباس الفرسان وإكسسواراتهم (الشكارة، التامك أي البوط الجلدي، أغمدة السيوف، البنادق).
تأثير متبادل
يعتبر دولاكروا من رواد المدرسة الرومانسية الفرنسية، له العديد من اللوحات الفنية المحفوظة في متحف اللوفر وغيره. من أشهر لوحاته “الحرية تقود الشعب” التي رسمها عام 1830، “سلطان المغرب” التي رسمها عام 1845، “زفاف يهودي في المغرب” عام 1839.
جاءت رحلته ضمن بعثة دبلوماسية أمر الملك لويس فيليب الأول بإرسالها إلى السلطان مولاي عبد الرحمن نهاية سنة 1831، حيث جرت العادة آنذاك أن يرافق كتاب ورسامون البعثات الدبلوماسية لتوثيق الأحداث. وقد تركت الرحلة تأثيرها على مسيرة دولاكروا الفنية.
يقول عبد العزيز الإدريسي مدير متحف محمد السادس للفن الحديث والمعاصر بالرباط إن دولاكروا أثر في فنانين اقتفوا أثره، وكان له تأثير على العديد من الفنانين الذين ساروا على خطاه، بمن فيهم أوديلون ريدون وبنجامين كونستانت وألفريد ديودنك وهنري رينو وجورج كلاين في القرن العشرين، ولوسيان ليفي وتيوفيل جين ديلاي وأيضا شارل كاموان، وترك أثرا في المدرسة الانطباعية.
ويضيف -في حديث مع الجزيرة نت- أن دولاكروا بقي متأثرا بمشاهداته من المغرب، وله أعمال رسمها آخر سنة قبل مماته، وبقي المغرب حاضرا معه بعد 30 سنة أيضا من خلال مقتنيات تراثية مغربية رافقته.
ويعتبر الإدريسي أن استرجاع ذكريات رحلة دولاكروا سيمكن الشباب من التعرف على نمط العيش، وتصحيح مجموعة من المعلومات عبر استنباط التاريخ من الأعمال التي أنجزت خارج الرغبة في التأريخ.
ويفيد المسؤول عن المتحف الذي يحتضن معرض “دولاكروا: ذكريات رحلة إلى المغرب” أن استقراء الأعمال سيمكن من التعرف على خصوصيات المرحلة، موضحا أن حضور دولاكروا حفل بيعة السلطان، شخصه في واحدة من أشهر أعماله. وحضوره زفاف بن شيمول مكنه من نقل سمة التعايش التي طبعت المجتمع المغربي (لوحة زفاف يهودي) ولباس وأدوات موسيقية تصحح حقائق حول تطور الأدوات الموسيقية بالمغرب قبل المؤثرات الشرقية.
وقال الإدريسي إن مثل هذه الأعمال تسهم في إعادة قراءة التاريخ.
أوان وخزفيات من القرن 19 بمعرض نظم بالشراكة مع متحف دولاكروا التابع لإدارة متحف اللوفر بباريس
تأريخ عبر الفن
من مقولات دولاكروا الشهيرة عن شمال افريقيا “عند كل خطوة، هناك لوحات جاهزة للرسم” وقد رسم في رحلته للمغرب العديد من الرسوم، معظمها بالقلم الفحمي، وسجل بنهم منقطع النظير مشاهداته سواء على شكل خطاطات أو مائيات أو انطباعات وأوصاف دونها في دفاتره، وغدت من أكبر المراجع في التأريخ للمرحلة ومميزاتها الثقافية، رغم كونه فنانا وليس مؤرخا.
يقول الإدريسي، ضمن حواره مع الجزيرة نت، إن معرض دولاكروا الذي يساهم في دمقرطة الفن عبر تقريبه وتسهيل الولوج لأعمال الرواد، حاول رصد رحلة دولاكروا والمسار الذي خطاه في اتجاه عاصمة المغرب آنذاك مكناس، والمحطات التي مر منها، ومقامه بطنجة، حيث التقى الناس وتأثر بهم وكيف أعجب بنمط العيش في المغرب بالقرن 19 الذي كان مصبوغا بشكل كبير بالصدق وبجانب كبير من غياب مؤثرات غربية آنذاك.
ويفيد أن مجيء دولاكروا للمغرب غير نظرته التي كان قد كونها عبر ما قدمه مستشرقون آنذاك، وكان له قصب السبق في تغيير مفهوم الشرق عند الفنانين، وغير محور اهتمامهم من اتجاه شرق البحر الأبيض المتوسط، إلى غربه.
وقال الإدريسي إن دولاكروا لم يأت من أجل الرسم لكن إعجابه بالشخوص وهيئة الأشخاص، وطابع الفروسية وطريقة ركوب وحمل السلاح، جعل من أعماله مصدرا لفنانين أخرين ومفتاحا لقراءة وفهم فترة معينة من تاريخ المغرب.
وعاد الأحرش ليقول إن دولاكروا قدم وجه المغرب من خلال الألوان والشخوص، مشيرا إلى أن المعرض فكرة متميزة خصوصا بوجود المقتنيات، حيث كتب الرحالة الذين زاروا المغرب أدب الرحلة المكتوب، في حين قدم دولاكروا هذا البلد من خلال لوحات عرفت عنه الغرب آنذاك، وتعرف المغاربة اليوم على ماضيهم، مما يعطي للمتخصصين فرصة للاطلاع عن قرب على روافد نمط العيش القديم.
وبين لوحة ومخطوطة وتحفة، يختم التشكيلي وردان قائلا “معرض دولاكروا ينمي ثقافة ومعرفة جيل من المغاربة، ويستعرض كيف كان الفنان الأجنبي يرى بلادنا”.