أبطلوه لجهاد التتار وحرّموه لانعدام الأمن وعطله الصراع السياسي على الحرمين الشريفين.. تعرف على تاريخ توقف الحج

“في سنة ثلاثين وأربعمئة تعطل الحج من الأقاليم بأسرها؛ فلم يحج أحد لا من مصر، ولا من الشام، ولا من العراق، ولا من خراسان”. يذكرنا بهذا النص -الذي أورده الإمام السيوطي (ت 911هـ/1506م) في كتابه ‘حسن المحاضرة‘- ما شهده موسم الحج في العامين الماضي والحالي (1441-1442هـ/2020-2021م) من قصر للمشاركة فيه على “أعداد محدودة جدًّا” من الحجاج، مخافة انتشار جائحة فيروس كورونا (كوفيد 19) بين جموعهم.

وتمثل هذه السابقة فرصةً مُثلى لدراسة تاريخ تعطُّل الحج -كليا أو جزئيا- في مختلف عصور التاريخ الإسلامي؛ إذ يبدو من الاستقراء الواسع لهذا التاريخ أن أغلبية حالات هذا التعطُّل -الذي توقفت معه مرارا حركة الدوران حول الكعبة- كانت تتم لأسباب سياسية أو لظروف أمنية ترتبت عليها.

فقد ألقت تلك الظروف -على اختلاف طبيعتها- بظلالها على شعيرة الحج وتأثر أداؤها بالاشتباك المتكرر بين الدوافع السياسية والنوازع النُّسُكية في تلك الشعيرة، سعيا لتحقيق السيادة على الحرمين لإحراز شرعية دينية للسلطة في نفوس الجماهير، وهو ما زاد كثيرا -مع أسباب أخرى ظرفية- من حالات منع الحج وتعطل مواسمه عبر القرون. ويسعى هذا المقال للتوقف عند هذه الظاهرة راصدا لوقائعها وكاشفا لأسبابها وسياقاتها.

صراع العروش
لعل أول وأهم الأسباب التي أدت إلى تعطل شعيرة الحج -كليا أو جزئيا- هو وقوع الصراعات السياسية سواء بمنطقة الحجاز وفي قلبها مكة المكرمة أو بأقاليم العالم الإسلامي الأخرى، وما كان يصاحبها من اقتتال يمنع الحجاج من الوصول إلى منطقة مشاعر الحج.

وكان أول تلك الصراعات تاريخيا ما وقع بين الأمويين والزبيريين مطع سبعينيات القرن الأول الهجري؛ فبسبب هذا الصراع لم يستطع أهل مكة -بقيادة عبد الله بن الزبير (ت 73هـ/693م)- أن يحجوا عام 73هـ/693م، كما يقول الطبري (ت 310هـ/923م) في تاريخه: “وحَجَّ الحَجَّاج (الثقفي ت 95هـ/714م) بالناس في هذه السنة، وابن الزبير محصور.. [في] مكة..، ولم يحج ذلك العام ولا أصحابه لأنهم لم يقفوا بعرفة”.

وحين ثار العلويون -في الحجاز والبصرة- بقيادة محمد بن عبد الله بن الحسن المعروف بـ”النفس الزكية” (ت 145هـ/763م) وأخيه إبراهيم (ت 145هـ/763م)؛ بلغت ثورتهما مصر والشام وسائر آفاق العالم الإسلامي، فما كان من والي مصر العباسي يزيد بن حاتم المهلبي الأَزْدي (ت 170هـ/786م) إلا أن “مَنع الناسَ من الحج في سنة خمس وأربعين ومئة، فلم يحجّ في تلك السنة أحد من مصر ولا من الشام؛ لما كان بالحجاز من الاضطراب من أمر بني الحسن” في ثورتهم على العباسيين؛ كما يذكر ابن تَغْرْي بَرْدي (ت 874هـ/1470م) في ‘النجوم الزاهرة‘.

ويمدُّنا ابن الجوزي (ت 597هـ/1200م) -في تاريخه ‘المنتظم‘- بسلسلة من وقائع انقطاع الحج من جهة العراق وما وراءه من مناطق خراسان وآسيا الوسطى، تواصلت لأعوام عدة بسبب تردي الأوضاع بالعراق مركز الخلافة العباسية وسلطناتها البويهية ثم السلجوقية.

ففي سنة 401هـ/1011م “لم يحج.. أحد من العراق” لأمرين: الأول هو اضطراب الأوضاع الأمنية المتردية جراء الخروج على العباسيين من والي الموصل قرواش بن مقلد العقيلي (ت 444هـ/1053م) ومبايعته للخليفة الفاطمي الحاكم بأمر الله (ت 411هـ/1021م)، وهو ما عبّر عنه عفيف الدين اليافعي (ت 768هـ/1367م) -في ‘مرآة الجنان‘- بقوله: “لم يحج ركب العراق لفساد الوقت”.

والسبب الثاني وقوع فيضان كبير في نهر دجلة؛ حيث “تفجّرت البُثوق (= فتحات النهر) وغرقت القرى والحصون”؛ حسبما يذكره ابن الجوزي في ‘المنتظم‘، ويؤكده معاصره المؤرخ ابن الأثير (ت 630هـ/1233م) -في كتابه ‘الكامل‘- بقوله: “زدات دجلة إحدى وعشرين ذراعًا، وغرق كثيرٌ من بغداد والعراق، وتفجّرت البُثوق، ولم يحج هذه السنة من العراق أحد”.

واللافت أنه في 401هـ/1011م نفسه لم يستطع حُجَّاج مصر أداء فرائضهم بسبب الأوضاع الأمنية المتردية، والصراع الداخلي بين القوات الفاطمية وأمير فلسطين حسان بن الجراح (ت بعد 415هـ/1025م) الذي خلع طاعة الفاطميين، وبايع أشرافَ الحجاز الذين كانوا يراوحون في ولائهم السياسي بين العباسيين ببغداد والفاطميين بالقاهرة، “فلم يحج أحد من مصر في هذه السنة”؛ وفقا للمقريزي في ‘اتّعاظ الحنفا‘.

وفي عام 407هـ/1017م “لم يحج الناس.. من خراسان ولا العراق”، وكان ذلك -كما يبدو من كلام ابن الجوزي- بسبب صراع على العرش البويهي وقع “بين سلطان الدولة أبي شجاع (ت 415هـ/1025م) وأخيه [قوام الدولة] أبي الفوارس (ت 419هـ/1029م)”.

كما كان الصراع السلجوقي/الغزنوي للسيطرة على مناطق وسط آسيا وإيران -فضلا عن الاضطرابات الداخلية بمصر والشام جراء نزاع الوزراء على الإدارة الفاطمية- سببًا في انقطاع الحج 430هـ/1039م أيضًا، ولذلك يقول ابن الجوزي إنه “لم يحج الناس في هذه السنة من خراسان والعراق ومصر والشام”، وهذه هي الأقطار تمثل الأغلبية الساحقة من الحجيج آنذاك.

لعبة متجددة
وحين تجدد نزاع أمراء البيت السلجوقي على العرش بعد وفاة السلطان ملكشاه سنة 485هـ/1093م؛ كان ذلك من أقوى الأسباب في امتناع رعاياهم عن الحج حينها، ومن حجّ من غيرهم كان ضحية لانفلات الأوضاع الأمنية واستطالة لصوص الأمراء وقُطّاع الطُّرق على المسافرين.

ففي سنة 486هـ/1094م الموالية “لم يحجّ ركب العراق، وحجّ ركب الشام فنهبهم صاحب مكة محمد بن أبي هاشم، ونهبتهم العُربان عشر مرات، وتوصّل مَن سَلِمَ [منهم] في حال عجيبة”؛ حسب الذهبي (ت 748هـ/1348م) في ‘العِـبَـر‘.

وكما أعاقت الصراعات بين الأنظمة السياسية رعاياها عن شهود مواسم الحج؛ كانت الفتن الطائفية السنية/الشيعية بالعراق سببًا إضافيًا في خوف الناس من الإقدام على أداء فريضة الحج، فابن كثير (ت 774هـ/1373م) يذكر -في ‘البداية والنهاية‘- أنه في 441هـ/1050م “اقتتل الروافض (= الشيعة) والسُّنة وجرت ببغداد فتنٌ يطُولُ ذكرها، ولم يحُجّ أحدٌ من أهل العراق”!

ونتيجة لتراخي قبضة العباسيين المركزية على العراق؛ استطاعت قبائل عربية الانفراد بحكم مناطق في شماله وجنوبه، مثل الإمارة المَزْيَدية (388-558هـ/998-1163م) التي كان أشهر أمرائها دُبَيْسُ بن علي الأسدي (ت 474هـ/1082) الذي يتهمه سبط ابن الجوزي (ت 654هـ/1256م) -في ‘مرآة الزمان‘- بموالاة الفاطميين لأنه “كان يرى رأي الباطنية”، وقد بلغت سطوته أنه في 447هـ/1046م “خرَّب أماكن وحرّق غيرها..، ولم يحُج أحد من أهل العراق فيها” بسبب مضايقاته للناس؛ وفقا لابن كثير.

وفي ظل الصراع الأيوبي/الفاطمي ومحاولات أسد الدين شيركوه (ت 564هـ/1169م) وابن أخيه صلاح الدين الأيوبي (ت 589هـ/1193م) السيطرة على مصر لصالح نور الدين زنكي (ت 569هـ/1173م)؛ لم يستطع المصريون أداء الحج لعامين متتاليين، ففي 562هـ/1167م “لم يبع التّجارُ في مكة شيئًا على عادتهم، لأن حاجّ مصر لم يأتوا لاشتغالهم بما حدث عندهم من القتال”؛ حسب عبد القادر الجَزَري (ت 977هـ/1570م) في ‘الدرر الفرائد المنظمة في أخبار الحاج وطريق مكة المعظمة‘.

وهو يقصد هنا المعارك التي وقعت بمصر بين الفاطميين والقوات الزنكية. وفي العام التالي تعطل الحج لاستمرار المعارك بين الجانبين؛ فالذهبي يخبرنا -في ‘تاريخ الإسلام‘- أنه في 563هـ/1170م “لم يحجّ المصريون لما فيه ملكهم من الويل والاشتغال بحرب أسد الدين” شيركوه.

وقد شهدت بلادُ الشام عدةَ أحداث كبرى مثل استيلاء الصليبيين على مناطق الساحل وفلسطين منذ عام 492هـ/1099م، ثم سيطرة الزنكيين والأيوبيين على الشام. وفي عصر الضعف الأيوبي بعد وفاة السلطان صلاح الدين وأخيه الملقب بالعادل (ت 615هـ/1219م)، وفي ظل دخول أبناء العادل في الصراع على السلطة بين سنتيْ 624-627هـ/1228-1231م؛ تعطل حج الشاميين لخوف الناس من الخروج إليه، يقول ابن كثير في حوادث سنة 627هـ/1231م: “ولم يحجّ أحدٌ من أهل الشام في هذه السنة، ولا في التي قبلها، وكذا فيما قبلها أيضًا؛ فهذه ثلاثُ سنين لم يَسِرْ من الشام أحد إلى الحج”!!

وحين لمع نجم المماليك في مصر بعد هزيمتهم للصليبيين في دمياط سنة 647هـ/1250م، وبدأ صراعهم -منذ عام 648هـ/1251م- مع أسيادهم الأيوبيين في الشام بقيادة الناصر الثاني الأيوبي؛ أثّر هذا الصراع المملوكي/الأيوبي على الأوضاع الأمنية بالشام ومصر وخاصة في 648هـ/1251م، فـ”لم يحجّ أحد من الشام ولا مصر في هذه السنة”؛ حسبما يؤكده ابن تَغْرِي بَرْدي في ‘النجوم الزاهرة‘.

وتتجلى الظاهرةُ عينُها في الحرب الأهلية المملوكية بين السلطان المخلوع الناصر محمـد بن قلاوون (ت 741هـ/1341م) والسلطان المظفر بيبرس الجاشنكير (ت 709هـ/1310م)، حين عزم الناصر على العودة من الشام مقرِّ منفاه إلى مصر وبدأ الصراع ضد المظفر في 709هـ/1310م فـ”لم يحجّ أحد من الشام لاضطراب الدولة”؛ وفقا لابن تَغْرِي بَرْدي.

شرعية متجاذبة
حين استتب الأمر للعباسيين في أرجاء العالم الإسلامي بعد قضائهم على دولة الأمويين سنة 132هـ/750م؛ صارت لهم تبعية الحرمين الشريفين تحت حكم وُلَاةٍ ينتمون غالبا إلى أسرة بني العباس نفسها، وحين اختلّ حكمهم المركزي أواخر القرن الثالث الهجري استغل أبناء عمهم العلويون ذلك فتولوا بانتظام -بدءا من مطلع القرن الرابع- إدارة مكة والمدينة دون خروج -في الغالب- على شرعية العباسيين، ثم تعززت إدارتهم أكثر مع سيطرة البويهيين -وهم أصلا شيعية زيدية- على عاصمة الخلافة بغداد سنة 334هـ/945م.

وقد عززت سيطرةُ البويهيين تلك نزعةَ الاستقلال عن بغداد لدى مصر الإخشيدية بقيادة كافور (ت 356هـ/967م) الوصيّ على أميرها أُنوجور الإخشيدي (ت 349هـ/960م)، والذي وصل به الأمر أنْ طمح لمنافسة بغداد في إمرة الحج؛ فابن خلدون (ت 808هـ/1406م) يقول -في تاريخه- إنه “جاء الحاجُّ (= الحُجّاج) إلى مكة سنة اثنتين وأربعين [وثلاثمئة] مع أمير من العراق وأمير من مصر، فوقعت الحرب بينهما على الخطبة لابن بويه ملك العراق، أو ابن الإخشيد صاحب مصر؛ فانهزم المصريون وخُطب لابن بويه، واتصل ورود الحاج من يومئذ”.

ومنذ سيطرة الفاطميين -وهم شيعة إسماعيلية- على مصر سنة 358هـ/969م -ثم بلاد الشام في العامين التاليين- بدأ الصراع العلني بين القاهرة وبغداد على الحرمين الشريفين، وذلك باعتبار أن السيادة عليهما هي العنوان الأكبر للشرعية الدينية لـ”خلافة” كل منهما في أعين المسلمين.

ومن هنا حرص العباسيون على دفع الفاطميين بكل قوة لمنع سيطرتهم على هذه البقاع المقدسة، بيد أن الفاطميين كانوا أقوى عسكريًا واقتصاديًا في تلك الحقبة التي ترنّح فيها حكم غرمائهم العباسيين، وأحكم البويهيون -المشتركون معهم في الاتجاه الشيعي العام- سيطرتَهم على مقاليد السلطة الحقيقية في العراق.

وبسبب هذا الصراع -الذي تحوّل إلى مواجهة عسكرية- كثيرا ما بطل الحج؛ وهو ما لاحظه الفاسي (ت 832هـ/1429م) -في ‘شفاء الغرام بأخبار البلد الحرام‘- بقوله إن العراقيين حجوا في 380هـ/991م رغم أنه “من سنة إحدى وسبعين (= 371هـ/982م) لم يحج أحد من العراق، بسبب الفتن والخُلْفِ (= الاختلاف) بين العراقيين والمصريين”، أي بين العباسيين والفاطميين.

ويبدو أن ذروة الصراع بين الدولتين بلغت قوتها في 401هـ/1011م حين انقطعت أفواج رِكاب الحج وخاصة من محاورها الرئيسية الثلاثة: المشرق والمغرب والشمال. وفي ذلك يقول ابن عذاري المراكشي (ت بعد 712هـ/1312م) -في ‘البيان المُغْرب‘- إنه “لم يحج أحد هذه السنة (= 401هـ/1011م) من الشام ولا العراق ولا خراسان ولا سائر الآفاق، إلا أهل اليمن ونفرٌ يسير ممن كان بمكة مجاورا”.

ويذكر ابن الجوزي -في ‘المنتظم‘- أنه في 411هـ/1021م “وقعـ[ـت] حرب بين السلاطين عند واسط [بجنوبي العراق] فاشتدت مجاعتهم..، وبطل الحج في هذه السنة”. ويرصد الإمام السيوطي -في ‘حسن المحاضرة‘- سبعة مواسم حج متوالية (بين سنتيْ 417-423هـ/1027-1033م) لم يحضر العراقيون ستة منها بسبب الأوضاع في بلادهم، وفي بعضها “لم يحج أحد من أهل المشرق ولا من أهل الديار المصرية أيضا”!

سعي للاستقلال
وفي سنة 430هـ/1040م تجدد الصراع الشرس بين العباسيين والفاطميين معرقلا أداء الناس لفريضة الحج من كافة بقاع العالم الإسلامي؛ فـ”في سنة ثلاثين وأربعمئة تعطل الحج من الأقاليم بأسرها، فلم يحج أحد لا من مصر ولا من الشام، ولا من العراق ولا من خراسان”؛ وفقا لتعبير السيوطي ذاكرا عدة مواسم حج “تفرد [فيها] بالحج أهلُ مصر” خلال سنوات 430-445هـ/1040-1054م.

وقد عمل حكام الحرمين الهاشميون على إعداد قوة عسكرية مسلحة لضمان استقرار ملكهم أمام هذه التقلبات السياسية المحتدمة بين الدولتين الكبيرتين، وكثيرا ما استغل هؤلاء لحظات الضعف للبحث عن مكاسبهم الخاصة، وكان لهذا الاستغلال آثاره على منع الحج وإلغائه.

فالجزري يفيدنا بأنه في 512هـ/1118م قام “أمير مكة قاسم بن أبي هاشم الحسني [فـ]ـعَمر مراكب حربية وشحنها بالمقاتلة، وسَيَّرهم إلى عَيْذاب (= ميناء مصري كان على البحر الأحمر) فنهبوا مراكب التجار وقتلوا منهم جماعة، فحضر مَن سَلِم منهم إلى باب الأفضل ابن أبي الجيوش (ت 515هـ/1121م) وزير الديار المصرية، وشكوا [إليه] ما أُخِذ منهم”.

لم يقف وزير الفاطميين الأفضل الجمالي أمام هجمات حكام مكة على أهم ميناء مصري، فأصدر قراره الانتقامي سنة 514هـ/1120م الذي “مَنَعَ.. الناسَ أن يحجّوا وقطع الميرة عن الحجاز”؛ وفقا للجزري.

وأمام منْع الوزير الأفضل للمصريين من الحج، الذي يبدو أنه شمل معهم أيضا رِكاب المغاربة والأفارقة وسواهم ممن كان يلحق بهم آنئذ؛ اضطر أشراف مكة إلى الرضوخ لطلبات القاهرة، فـ”كتب الشريف قاسم إلى الأفضل بعوْد ما أخذه من التجار إلى أربابه، ومن قـُـتِل من التجار ردّ له ماله لورثته، وأعاد الأموال في السنة التي بعدها”. ويخبرنا ابن الجوزي -في ‘المنتظم‘- أن الحجاج في 557هـ/1162م “وصلوا إلى مكة فلم يدخلـ[ـها] أكثرهم لفتن جرت، وإنما دخلت شرذمة يوم العيد فحجوا، ورجع الأكثرون إلى بلادهم ولم يحجوا”!

وفي مكة المكرمة نفسها؛ كان عقد خمسينيات القرن السابع حافلا بالصراع على إمارتها بين أشرافها وسلطان اليمن المظفر الرسولي (ت 694هـ/1295م)، فانعكس ذلك على مواسم الحج بالتعطيل مرات متعددة.

فمؤرخ مكة عبد الملك العصامي (ت 1111هـ/1700م) يسجل -في ‘سمط النجوم العوالي‘- أن عساكر هذين الطرفين في سنة 653هـ/1255م “تقاتلوا وسط مكة.. وسُفكت الدماء بالحرم الشريف، وامتلأت البلد منهم رُعباً بحيث لم يصلّ في الحرم أحد، ووقع بينهم في أيام الحج وبين أمير الحاج العراقي فتنة درأها الله تعالى بالصلح، فسلِم المسلمون”. ثم يضيف أنه في موسم حج 655هـ/1257م “لم يحج أحد من أهل الحجاز ولم تُرفع راية من رايات الملوك لأحد بمكة”!!

سوابق خطيرة
ظهر القرامطة الباطنية (278-398هـ/892-1008م) في الربع الأخير من القرن الثالث الهجري بجنوب العراق، وسرعان ما أسسوا لهم كيانا سياسيا جعلوا عاصمته بلدة هَجَر التي كانت بمنطقة الأحساء شرقيّ السعوديّة اليوم، ودأبوا على مهاجمة المناطق الخاضعة للعباسيين في جنوبي العراق وغيره.

وفي سنة 313هـ/926م أرادوا الاستيلاء على البصرة والأهواز، “فسار [جيشهم] مِن هَجَر يُريد [ركب] الحاجّ” القادم من ناحية الكوفة، واستطاع هزيمة القوات العباسية فـ”دخل المنهزمون بغداد…، وخاف أهل بغداد وانتقل الناسُ إلى الجانب الشرقي [منها]، ولم يحُجّ في هذه السنة من الناس أحد”؛ طبقا لابن الأثير في ‘الكامل‘.

ويحكي الذهبي -في ‘العِـبَـر‘- أنه في 314هـ/927م “لم يحجّ أحد من العراق خوفا من القرامطة، [بل] ونزح أهل مكة عنها خوفا منهم”. وأما تقي الدين الفاسي فيؤكد -في ‘شفاء الغرام‘- أن ذلك المنع امتد في السنتين اللاحقتين؛ فـ”لم يحج إلى مكة أحد من العراق.. هذه الثلاث سنين للخوف من القرمطي”.

أما في سنة 317هـ/930م؛ فقد تمكن القرامطة -بقيادة أبي طاهر الجنّابي (ت 332هـ/944م)- من مهاجمة مكة المكرمة ذاتها فأحدثوا بها واحدة من أبشع مجازر الحرم في تاريخ الإسلام، حتى إن الذهبي يروي -في ‘العِـبَـر‘- أن جيشهم “قتل بفِجاج مكة وظاهرها زهاء ثلاثين ألفا، وسبى من النساء والصبيان”!!

وعن ذلك يقول المسعودي (ت 346هـ/957م) في ‘التنبيه والإشراف‘: “ومنها أن الحج بطل فلم يُحج في 317هـ/930م لدخول أبي طاهر.. الجنّابي القرمطي.. مكةَ، وكان دخوله إياها يوم الاثنين لسبع خلون من ذي الحجة، ولم يبطل الحجُّ -منذ كان الإسلامُ- غير تلك السنة”!!

ثم استكمل القرامطة جرائمهم في الحرم باقتلاع باب الكعبة والحجر الأسود الذي أخذوه معهم إلى هَجَر، ولم يردوه إليها إلا في 339هـ/950م بتدخل من الفاطميين في تونس، وقد كانت العلاقة المذهبية تجمع الطرفين حينها قبل انفصامها إثر انتقال الدولة الفاطمية إلى مصر؛ يقول ابن خلدون -في تاريخه- إنه في 317هـ/930م “تعطل الحاج بسبب القرامطة، وردّوا الحجر الأسود سنة تسع وثلاثين [وثلاثمئة] بأمر [الخليفة الفاطمي] المنصور العلوي (ت 341هـ/953م) صاحب أفريقية، وخطابه في ذلك لأميرهم أحمد بن أبي سعيد (ت 359هـ/970م)”.

وكان لجرائم القرامطة المروعة في الحرم الشريف أكبر الأثر في انقطاع الحج أعواما كثيرة طوال القرن الرابع الهجري؛ فها هو سبط ابن الجوزي يقول: “الظاهر أنه لم يحجّ أحد [من] سنة سبع عشرة وثلاثمئة إلى سنة ستّ وعشرين وثلاثمئة خوفا من القرمطي”.

بل إن ابن تَغْرِي بَرْدي يؤكد لنا -في ‘النجوم الزاهرة‘- أن الخطر القرمطي ظل قائما حتى نهاية العقد الرابع من هذا القرن؛ فيذكر أنه في 335هـ “لم يحجّ أحد من العراق خوفا من القرامطة”، وفي 338هـ “تحرّكت القرامطة ولم يحجّ أحد في هذه السنة من العراق”.

ويفهم من كلام ابن خلدون أن القرامطة لم يتخلَّوا عن منع الحج مطلقا إلا بوساطة ثانية، ومقابل اتخاذهم خطوة أخرى غير مسبوقة تاريخيا كأفعالهم السابقة، وهي أخذ رسوم على الحجاج ليسمحوا لهم بالعبور.

فقد قال ابن خلدون -في تاريخه- إن نقيب العلويين بالكوفة أبا علي عمر بن يحيى (ت 350هـ/864م) راسل سنة 327هـ/939م زعيمَ القرامطة أبا طاهر الجنّابي، مقترحا عليه “أن يُطلق السبيل للحجاج على مَكْسٍ (= ضريبة) يأخذه منهم، وكان أبو طاهر يعظمه لدينه ويؤمِّله، فأجابه إلى ذلك وأخذ المَكْس من الحجاج، ولم يُعهد مثله في الإسلام”!!

لكننا نجد خطر منعهم الحج يعود مجددا في نهاية القرن؛ ففي 384هـ/995م “رجع الحاجّ إلى بغداد ولم يحجّ أحد من العراق خوفًا من القرامطة”؛ وفقا لابن تَغْرْي بَرْدي في ‘النجوم الزاهرة‘.

أولوية للمقاومة
وكما كان الصراع السياسي الدامي -من حول منطقة الحرمين وعليها- سببا في تعطيل الحج طوال القرون؛ فإن الاجتياحات الأجنبية للمنطقة كان لها من ذلك نصيب وافر. ففي سنة 615هـ/1218م بدأ خروج المغول من بلادهم بمنغوليا وشمال الصين للقضاء على الدولة الخوارزمية المتاخمة لهم في تركستان ووسط آسيا، تمهيدا لاحتلالهم كافة مناطق إيران وهجومهم على مركز الخلافة العباسية بالعراق.

وكان ذلك الخروج سببًا جوهريًا لانقطاع ركب الحاج القادم من مناطق خراسان وما وراءها سنين عددًا؛ ففي 617هـ/1220م بدأت نتائج هذا الغزو في الظهور تباعًا، حتى إنه -كما يقول أبو شامة المقدسي (ت 665هـ/1277م) في ‘الذيل على الروضتين‘- في تلك السنة “لم يحج أحد من العجم بسبب التتار”.

وفي موسم الحج التالي سنة 618هـ/1221م “لم يحج أحدٌ من بلاد الأعاجم ولا من همَذان ولا من أصبهان، لخوف الطريق من انتشار الكفرة في البلاد وما يليها”؛ حسبما أورده الجزري. وطوال الأعوام التالية (615–628هـ/1218-1231م) ظل الحج مستعصيًا على ملايين الناس في تلك المناطق؛ بل إن الإمام ابن كثير يحدثنا بأنه “لم يحجّ الناس بعد هذه السنة (= 628هـ/1231م) أيضًا لكثرة الحروب، والخوف من التتار والفرنج”!

ثم كانت سنة 630هـ/1233م وما تلاها هي بداية هجمات التتار المدمرة على العراق، الأمر الذي اضطرت معه السلطات إلى منع العراقيين من الخروج للحج، ولذلك “لم يحُجَّ ركبُ العراق في هذه السنين للاهتمام بأمر التتار”؛ طبقا للذهبي في ‘تاريخ الإسلام‘.

ويقول الفاسي إنه في 634هـ/1237م “لم يحج.. ركب العراق، ولم يحج أيضا العراقيون خمس سنين متوالية بعد هذه السنة، من سنة خمس وثلاثين إلى سنة أربعين [وستمئة]”. وهو ما يؤكده الذهبي بقوله إنه “لم يحجَّ أحدٌ أيضا في [هذا] العام (= 635هـ/1238م) من العراق بسبب كَسرة التتارِ لعسكرِ الخليفَة، وأَخْذِ إربل في السنة الماضية”.

لقد كان قرار الخليفة العباسي المستنصر بالله (ت 640هـ/1243م) أمام هجمات المغول هو وضع أولوية جهادية للمقاومة، تستلزم مشاركة الجميع في الدفاع عن العراق والعاصمة بغداد، حتى ولو كان النفير للجهاد على حساب النفرة إلى الحج. ومن هنا فإنه في “سنة أربع وثلاثين وست مئة لم يحج [الركب] العراقي بسبب أن التتر دخل بغداد، فجمع [الخليفة] المستنصر العلماء وسألهم ترك الحج للجهاد، فأفتوه بذلك”؛ حسبما أورده الجزري في ‘الدرر الفرائد‘.

ورغم وفاة المستنصر سنة 640هـ/1243م فقد تواصل تعطيل حج العراقيين حتى عام 650هـ/1252م، وفقا لما يذكره سبط ابن الجوزي المعاصر لتلك الأحداث، وذلك بقوله إنه في 650هـ/1252م “حجَّ النَّاسُ من بغداد بعد عشر سنين بَطَلَ الحج فيها؛ منذ مات المستنصر وإلى هذه السنة”!

وافد جديد
وفي نهاية المطاف أسقط المغول الخلافة العباسية في بدايات عام 656هـ/1258م، فسيطروا على بقية العراق ثم الشام في العام التالي، وحاولوا التمدد غربا فردهم المماليك -القادمون من مصر- على أعقابهم إلى العراق. وفي تلك الأثناء ظل ركب العراق مُعطّلا عن أداء شعيرة الحج بسبب احتلال المغول لقُطرهم مدة عشر سنوات كاملة؛ ففي “سنة ست وست [وستمئة] حجَّ [الركب] العراقي من بغداد، وهي أول حجّة حَجُّوا فيها بعد غلبة التتار على بغداد” سنة 656هـ/1258م؛ كما يذكر الجزري.

ورغم استيلاء المغول على مستقر الخلافة العباسية مؤسسين الدولة الإيلخانية المغولية، واعتناقهم للإسلام منذ بدايات القرن الثامن الهجري؛ فإن صراع أمرائهم على العرش بعد وفاة السلطان أبي سعيد خُدَبَنْدا (أو خَرْبَنْدا) سنة 736هـ/1336م أدى مجددا إلى إبطال تنظيم رحلات الركب العراقي إلى الحج، وهو ما يسجله الفاسي بقوله إنه في “سنة ست وثلاثين وسبعمئة لم يحج الركب العراقي..، لموت السلطان أبي سعيد بن خَرْبَنْدا ملك العراقيين واختلاف الكلمة بعده، ودام انقطاع الحج من العراقيين سنين كثيرة”.

ومن رحم الإيلخانيين خرج التيموريون المغول -في وسط آسيا وعاصمتهم سمرقند- بزعامة القائد الأوزبكي تيمورلنك (ت 807هـ/1405م)، ذلك السفاح الأعرج الذي اجتاح الشام سنة 802هـ/1399م والعراق 803هـ/1400م ثم غزا الأناضول 805هـ/1402م؛ فدمّر كثيرا من العمران وارتكب أكبر المذابح في ذلك الوقت.

وكانت أشهر تلك المجازر مذبحة وحريق دمشق؛ فـ”في سنة ثلاث وثمانمئة لم يحُج من الشام أحد على الطريق المعتادة، وسبب ذلك أن تيمورلنك قصد البلاد الشامية في هذه السنة واستولى عليها وأخربها؛ وكان ما حصل من الخراب بدمشق أكثر من غيرها من البلاد الشامية بسبب إحراق التترية لها لمّا استولوا عليها”؛ حسبما يذكره الفاسي.

وفي تلك السنوات نفسها؛ يخبرنا المقريزي (ت 845هـ/1441م) -في كتابه ‘السلوك‘- أنه في 804هـ/1401م “لم يحج في هذه السنة أحد من الشام ولا العراق ولا اليمن”، دون أن يحدد سببا لذلك، فربما كان مرتبطا بحروب وهجمات التيموريين التي استمرت فيما بعدُ، بحيث اضطُر العراقيون إلى إبطال حجهم في بعض السنين، فـ”لم يحج العراقيون من بغداد في سنة إحدى وعشرين وثمانمئة، ولعل سبب ذلك ما قيل من أن الملك شاه رُخ بن تيمورلنك (ت 851هـ/1447م) أخذ [مدينة] تبريز من قرا سنقر [التركماني] والد صاحب بغداد”؛ وفقا للفاسي.

واستمر تهديد شاه رُخ سنوات بعد ذلك؛ ففي 824هـ/1421م “لم يحج من العراق ولا اليمن أحد”؛ كما يقول ابن فهد المكي (ت 885هـ/1480م) في ‘إتحاف الورى بأخبار أم القرى‘. كما تواصل الانقطاع الجزئي في موسم الحج بعد ذلك بقرنين؛ فهذا العصامي المكي يحدثنا عن مشاهداته في موسم حج سنة 1078هـ/1668م، فيقول إنه في 5 ذي الحجة دخل مكةَ “المَحْمَلُ المصري (= وفد الحجاج الرسمي) وكان الحجاج في هذا العام قليلين..، وفي اليوم الثامن دخل الحاج الشامي واليماني والمدني..، وأما أهل العراق وأهل نجد وأهل الحجاز وسائر العرب [فـ]ـلم يحجوا، لما حصل لهم من التعب والجوع والخوف المذهب للهجوع (= النوم)”!!

إتاوات جائرة
لم تقتصر عوامل تعويق الحج -كليا أو جزئيا- على الظروف الأمنية الخطيرة التي ولّدتها صراعات لعبة النفوذ الكبرى بين أصحاب الجيوش والعروش؛ بل كثيرا ما رافقها أو نازعها عامل أمني اجتماعي آخر وإن كان أقل شأنا، ألا وهو الاختلال المزمن في أمن الطريق بظهور العربان الطامعين في أموال الحُجّاج في أوقات تراخي قبضة السلطات في العواصم المركزية.

ولذا كان هؤلاء اللصوص من أبرز عوامل انقطاع الحج، سواء للقادمين من وسط آسيا إلى بغداد للانضمام للركب العراقي، أو الآتين من الأناضول وما حولها للالتحاق للركب الشامي، أو أولئك الوافدين من الأندلس والمغرب والبلاد الأفريقية لمرافقة الركب المصري، بل وحتى القادمين من محور الجنوب حيث اليمن.

ولشدة ما عانى الحجيج من قطع العربان لدروبهم واعتدائهم على أرواحهم وممتلكاتهم؛ كان نجاح الحكومات في مواجهة هؤلاء القُطّاع أحدَ أسباب ترسخ الرضا عنها بين الرعية.

ومن نماذج ذلك ما حكاه الإمام ابن عساكر (ت 571هـ/1175م) -في ‘تاريخ دمشق‘- من أنه في 272هـ/886م أسند أميرُ مصر خُمَارَويه ابن طولون (ت 282هـ/896م) إلى القائد التركي سعد الأعسر (ت 273هـ/887م) ولاية دمشق، فكان من أعظم إنجازاته أنه “فتح طريق الشام للحاج لأن الأعراب كانوا قد تغلبوا على الطريق قبل ولاية سعد، وكان قد بطل الحج من طريق الشام ثلاث سنين، فخرج سعد إلى الأعراب وواقعهم وقتل منهم خلقا عظيما، وفتح الطريق للحاج.. فأحبه أهل دمشق” لأجل ذلك، حتى وصفه الذهبي -في ‘تاريخ الإسلام‘- بأنه “كان جليلا عادلا محببا إلى أهل دمشق”!

ورغم محاولات السلطات المركزية التي تتبعها منطقة الحجاز -سواء كانت في العراق أو مصر أو غيرهما- القضاءَ بالقوة العسكرية على عبث العربان بركاب الحجيج؛ فإن ذلك لم يردع المعتدين من قطاع الطرق وغيرهم، سواء داخل الجزيرة العربية أو في الطريق قبل الوصول إليها. فابن الجوزي يقول إنه في 361هـ/972م “وردت كتب الحاج بأن بني هلال اعترضوهم فقتلوا خلقا كثيرا فتعطل الحج، ولم يسلم إلا من مضى مع الشريف أبي أحمد الموسوي (ت 400هـ/1010م) على طريق المدينة وتمّ حجهم”.

ويفيدنا المقريزي -في ‘اتعاظ الحنفا‘- بأنه في ذي القعدة 415هـ/1025م وصل الركب المغربي كعادته إلى مصر، ثم “خرج حاج المغاربة إلى مكة فلم يصحبهم أحد من أهل مصر؛ وعندما عدَّوْا بركة الجُب [شمال القاهرة] خرج عليهم طائفة من [عساكر] القيصرية والعبيد وكانت بينهم وقعة…، [ثم] عاد مَن خرج مِن حاجّ المغاربة بعدما نُهبوا وجُرحوا وسُلبوا، فلم يحج أحد في هذه السنة من مصر”. ويقول ابن الجوزي -في ذكره لأحداث سنة 422هـ/1032م- إنه “لم يحج الناس في هذه السنة من خُراسان والعراق لانقطاع الطرق وزيادة الاضطراب”!

ولم يجد العباسيون وغيرهم أمام هذه المصائب السنوية المتكررة إلا الرضوخ لمطالب قطاع الطريق؛ فكانوا يعطونهم أموالا معلومة على سبيل الإتاوة لتأمين طريق الحجاج بدلا من الاعتداء والسرقة والقتل، إلا أن تأخر أو تلف هذه الأموال -قبل وصولها إلى قادة هؤلاء القُطّاع- كان من الذرائع الكبرى التي بها يمنعون الحج. ومن مشاهير قادة العربان الأُصَيْفِرُ المُنْتَفِقي (ت 410هـ/1020م) أو الأُصَيْفِر/الأصفر الأعرابي، الذي يصفه ابن الأثير المؤرخ بأنه “كان يؤذي الحاج في طريقهم”!

ويذكر هذا المؤرخ أنه في 384هـ/995م “عاد الحُجّاج من الثّعلبية (= بدع خضراء الواقعة اليوم بمنطقة حائل شمالي السعودية) ولم يحُجّ من العراق والشام أحدٌ، وسبب عودهم أن الأُصَيْفِر أمير العرب اعترضهم، وقال: إن الدراهم التي أرسلها السلطان عامَ أولَ كانت نُقْرة (= سبيكة) مَطْليّة (= مغشوشة)، وأُريد العوض، فطالت المخاطبة (= المفاوضات) والمراسلة، وضاق الوقتُ على الحُجّاج فرَجعوا” إلى بلادهم ولم يحجوا!!

وفي السنة الموالية، وحتى يتجنب العراقيون منعهم من الحج؛ اضطر أحد نبلاء الأمراء إلى تحمل ما فرضه عليهم هذا الأعرابي من مكوس جائرة؛ فقد ذكر ابن بن تَغْرْي بَرْدي أنه في سنة 385هـ/996م “حج بالناس أحمد بن محمد بن عبد الله العلوي (ت 389هـ/1000م) من العراق، وبعث بدر بن حَسْنَوَيْهِ الكردي (ت 405هـ/1015م) خمسة آلاف دينار (= اليوم 840 ألف دولار أميركي تقريبا) إلى الأصفر الأعرابي -الذي كان يقطع الطريق على الحاج- عوضاً عما كان يأخذه من الحاج، وجعل ذلك رسماً عليه (= الكردي) في كل سنة من ماله؛ رحمه الله”!!

لصوصية “نبيلة”
ولئن كان إيذاء الحجاج هو العادة المألوفة لهذا الأمير الأعرابي؛ فقد سجل له التاريخ موقفا “نبيلا” مع الحجاج العراقيين في أحد المواسم بعد أن وجدت عاطفته الدينية ما يستثيرها.

فقد روى ابن الجوزي -في ‘المنتظم‘- أنه في 394هـ/1004م “كان في جملة الحاج [قارئان شابان هما] أبو الحسين بن الرفاء وأبو عبد الله بن الزجاجي، وكانا من أحسن الناس قراءة [للقرآن]؛ فاعترض [طريقَ] الحاجِّ الأُصَيْفِرُ المُنْتَفِقي وحاصرهم.. وعوَّل على نهبهم، فقالوا: من يمضي إليه ويقرر معه شيئا نعطيه [إياه]؟ فندبوا (= اختاروا) أبا الحسين [بن] الرفاء وأبا عبد الله الزجاجي، فدخلا إليه وقرآ [القرآن] بين يديه؛ فقال [لهما]: كيف عيشكما ببغداد؟ فقالا: نعم العيش..! فقال: هل وهبوا لكما ألف ألف دينار في صُرَّة؟ فقالا: لا، ولا ألف دينار في موضع [واحد]! فقال: قد وهبتُ لكما الحاجَّ وأموالَهم، [فـ]ـذلك يزيد على ألف ألف دينار (= اليوم 167 مليون دولار أميركي تقريبا)؛ فشكروه وانصرفوا، ووَفَى للحاج بذلك”!!

وكان زعيم العربان في بادية شمال الجزيرة العربية ومناطق فلسطين والأردن مفرج بن دغفل بن الجراح الطائي (ت 404هـ/1014م) من أشهر المتمردين في أواخر القرن الرابع الهجري؛ فكان يقطع الطرق ويساوم الجميع على المال وإلا فالقتل بلا رحمة. فمما يرويه ابن الجوزي -في ‘المنتظم‘- أنه في 379هـ/990م “ورد الخبر في المحرّم بأن ابن الجراح الطائي خرج على الحاج بين سُمَيراء وفَيْد (تقعان اليوم في حائل السعودية) ونازلَهم، ثم صالحهم على ثلاثمئة ألف درهم وشيء من الثياب المصرية والأمتعة اليمنية، فأخذه وانصرف”!!

وقد تكررت اعتداءات الطائي هذا الذي أصبح مجرد ذكر اسمه لقوافل الحجيج القادمة من العرق والشام ومصر يمثل رُعبًا لهم لفترة طويلة؛ ففي سنة 397هـ/1007م “هبّت على الحُجّاج ريحٌ سوداء بالثعلبية أظلمت لها الأرضُ ولم يرَ الناسُ بعضهم بعضا، وأصابهم عطشٌ شديد، ومنعهم ابن الجراح الطائي من المسير ليأخذ منهم مالاً، فضاق الوقتُ عليهم فعادوا ولم يحجوا”؛ وفقا لابن الأثير.

وفي سنة 409هـ/1019م خرج حجيج العراق “فاعترضتهم العرب (= الأعراب) فيما بين القصر والحاجر (= اليوم بلدة البعائث بحائل السعودية)، والتمسوا منهم زيادة على رسومهم، فرجعوا من القصر وبطل الحج في هذه السنة”؛ حسبما يذكره الفاسي في ‘شفاء الغرام‘. وينقل الذهبي -في ‘تاريخ الإسلام‘- أنه في 424هـ/1034م “لم يحجّ العراقيّون ولا المصريّون أيضًا خوفًا من [أعراب] البادية، وحج أهلُ البصرة -مع من يخفرهم (= يحرسهم)- فغدروا بهم ونهبوهم”!!

وهكذا ظل هجوم بعض أمراء العرب على قوافل الحجيج أكبر هاجس -منذ بداية العصور الإسلامية الوسيطة وحتى أوائل العصر الحديث- يؤرق الحجيج ويقض مضاجعهم، وكان عاملا أساسيًا في إبطال الشعيرة لركاب حجاجِ بلدانٍ عديدة.

وكان من اللافت اشتراك عدد من أمراء مدن الحجاز -مثل ينبع ومكة- في الاعتداء على الحجيج ونهب قوافلهم، وخاصة في لحظات ضعف السلطات المركزية في بغداد أو دمشق أو القاهرة؛ فقد سبق ذكرُنا لما وقع في أوْج الخلافات الفاطمية/العباسية من انتهاب أمير مكّة محمد بن أبي هاشم لركب الحج الشامي سنة 486هـ/1093م.

وحسب ما يورده الجزري فإن اعتراض أمراء العرب لقوافل الحجيج تكرر سنة 631هـ/1234م، حيث “رجع حج العراق وأميرهم شمس الدين أصلان تكين (ت بعد 638هـ/1241م) من منزلة لِينة -بكسر اللام- لعدم الماء، وقاسَوْا مشقة عظيمة؛ فإن العرب الأجاودة طَمُّوا (= غَطَّوْا) الآبار.. في طريق الحجاز، وتحاوروا هم وإياهم على البذل (= دفع الإتاوة) إلى أن ضاق الوقت وعادوا” إلى العراق. وفي ظل ضعف قبضة سلاطين مصر المماليك على الحجاز؛ يذكر ابن شاهين المَلَطي (ت 920هـ/1515م) -في ‘نيل الأمل‘- أنه انقضت سنة 828هـ/1425م فـ”لم يحجّ من العراق أحد، وأخبِروا أن سبب تعويقهم [كان] خوفا على أنفسهم من مُقبل أمير الينبع، فإنه كان تحوّل إلى طريق الحاجّ لفساد يفعله”!

كروب الدروب
ظلت ندرة المياه في طريق الحج من أبرز أسباب إلغاء أدائه طوال قرون تفاقمت في معظمها أزمات العطش، ولا سيما في صحاري جزيرة العرب. وفي خبر ذي دلالة كبيرة هنا نظرا لوقوعه في أوْج ازدهار وقوة الدولة العباسية؛ يروي ابن سعد (ت 230هـ/845م) -في ‘الطبقات الكبرى‘- أنه في 168هــ/785م “خرج [الخليفة العباسي] المهدي (ت 169هـ/786م) يريدُ الحج… فكان الماء في الطريق قليلا، فخشي المهدي على من معه العطش، فرجع من الطريق ولم يحُجّ تلك السنة”!!

ويحدث هذا مع أن المؤرخ ابن الأثير يخبرنا بأنه كان للخلفاء آنذاك موظف يسمى “متولي المنازل”، ويوضح الفاسي طبيعة وظيفته بقوله إنه “كانت الخلفاء يُبنى لهم -في كل منزلة ينزلونها بطريق مكة- دار، ويُعدّ لهم فيها سائر ما يُحتاج إليه من الستور والفُرُش والأواني وغير ذلك”، فكانت مسؤولية “متولي المنازل” هي الإشراف على هذه الاستراحات، وحمايتها فـ”كان لا يدخل المنازلَ أحدٌ من الناس” العاديين!!

وعن أثر ندرة المياه على إكمال الحجاج العاديين رحلتهم المقدسة؛ يفيدنا الذهبي -في ‘العِـبـَر‘- بأنه في 363هـ/974م “لم يحجّ ركب العراق لأنهم وصلوا إلى سُمَيراء، فرأوا هلال ذي الحجة وعلموا أن لا ماء في الطريق فعدلوا إلى مدينة النبي صلى الله عليه وسلم” ولم يحجوا.

ويذكر الذهبي أيضا -في ‘تاريخ الإسلام‘- أنه في 406هـ/1016م “وردَ الخبر إلى بغداد -بعد تأخّره- بهلاك الكثير من الحاجّ، وكانوا عشرين ألفا فسَلِم منهم ستة آلاف، وأن الأمر اشتد بهم والعطش حتى شربوا أبوال الجِمال، ولم يحجّ أحد في هذه السنة”. وفي سنة 504هـ/1110م “وصل إلى بغداد حاجّ خراسان، ثم رحلوا إلى الكوفة فقيل لهم: إن الطريق ليس بها ماء، فعادوا ولم يحج منهم أحد”؛ طبقا لابن الجوزي في ‘المنتظم‘.

وفي بعض السنين اجتمع على الحجاج الموتُ عطشاً والقتلُ معًا؛ فالإمام الذهبي يعرض -في ‘تاريخ الإسلام‘- لأخبار موسم حج سنة 357هـ/968م قائلا: “كان الحجّ في العام صعبًا إلى الغاية لِما لَحِقهم من العطش والقتل، مات من حُجّاج خراسان فوق الخمسة آلاف.. بالعطش، فلما حصلوا بمكة خرج عليهم الطلحيّون والبكريّون [من القرشيين] فوضعوا في الحجيج السيف، وأخذوا الرَّكْبَ بما حوى، ولم يحجّ من مصر ولا الشام أحد! وكان حُجّاج المغرب خلقًا فرجع معهم خلق من التُّجّار فأُخِذوا، فيُقال: إنّه أُخِذ لتاجرٍ فيها متاع بنحو مئتيْ ألف دينار (= اليوم 33 مليون دولار أميركي تقريبا)؛ فإنّا لله وإنا إليه راجعون”!!

لقد ظلت ظروف درب الحجيج شرقًا وغربًا مأساة بالغة تتناقلها الأجيال والركبان؛ فها هو الجزري يتحدث -في ‘الدرر الفرائد المنظّمة في أخبار الحاج وطريق مكة المعظّمة‘- عن معاناة ركب الحج المصري والركاب الأفريقية اللاحقة به سنة 966هـ/1559م، فيقول إنهم حين خرجوا من القاهرة “هبّت عليهم [رِيحٌ] سَمومٌ حارة، وكان الماء بالأبيار قليلاً ومتغيرًا، فأوجب [ذلك] موتَ جماعات من الفقراء والمُشاة، ومن أثّر فيه ذلك”!

ومن أثر تلك المعاناة أنه كثيرا ما ضُرب المَثل بقذارة مياه “درب الحج” التي لا يجد الحجاج مندوحة عن شربها؛ فها هو أبو إسحق الوطواط (ت 718هـ/1319م) يورد -في ‘غرر الخصائص الواضحة‘- قول أحد الشعراء “يَذمّ صديقا له نمّاماً”، مشبها حاجته إلى صحبته -رغم صفاته الذميمة- بماء طريق الحج:
وصاحبِ سُوءٍ وجْهُه ليَ أوْجُـــــهٌ ** وفي فمه طبلٌ بسِرّيَ يــــضربُ
كماء بـ‘درب الحاج‘ في كل مَنْهَلٍ ** يُــذَمُّ على ما كان منه ويُــشربُ!

وإننا لنرى استمرار تلك المأساة في أزمنة لاحقة ووصف الأدباء لها، حتى إن الرحالة المغربي أبا سالم العياشي (ت 1090هـ/1679م) كان مع ركب حجاج المغاربة المرافق للركب المصري سنة 1064هـ/1654م، فصادفوا يوما معتدلا وماء عذبًا في أثناء سيرهم بمنطقة سيناء، ولم يفوت العياشي تسجيل انطباعه عن ذلك فكتب متندرا في رحلته ‘ماء الموائد‘: “وكان الهواء باردًا، والماء عذبًا، والناس ماشون على مَهَل، منبسطون غاية البسط، وكنتُ أقول لأصحابنا ممازحًا: مَن عدّ هذا اليوم من أيام الدرب فقد ظلمه؛ لأنه خالفَ الدربَ في سائر أوصافه، فإن طريق الدرب معروفة بالماء القبيح والحرّ والخوف، وهذا اليوم بخلاف ذلك”!

ضرورات معطِّلة
كانت مُنغّصاتُ الطريق -من اشتداد عطشٍ واضطرابِ أمنٍ وطولِ مسافاتٍ وزمنٍ- وأثرها على الحجاج القادمين من فجاج الأرض، وخاصة من أقاصي العالم الإسلامي شرقًا وغربًا حيث يسود المذهب الحنفي في الأولى والمالكي في الثانية؛ من أهم الأسباب التي جعلت الفقهاء -وخاصة من هذين المذهبين- يتطرقون لمسألة “أمن الطريق” وضرورته لأداء الفريضة.

فقد رأى الحنفية -على الصحيح من أقوالهم حسب الإمام الكاساني (ت 587هـ/1191م) في ‘بدائع الصنائع‘- أن “أمن الطريق من شرائط الوجوب.. [فهو] بمنزلة الزاد والرّاحلة..، لأن الله تعالى شرط الاستطاعة [لوجوب الحج]، ولا استطاعة بدون أمن الطريق كما لا استطاعة بدون الزّاد والرّاحلة”.

وأما أهل المغرب والأندلس فإن بُعد الطريق ووعورته في البر والبحر المتوسط، وكثرة حوادث فقدان الحجيج وموتهم في الطريق والصحاري، إما عطشا أو جوعًا وإما لوجود قُطاع الطرق؛ دفع علماءهم من المالكية إلى إصدار فتاوى عدة تتناول مسألة “إسقاط الحج” عن المغاربة.

ومن ذلك فتوى شهيرة للشيخ زروق الفاسي المالكي (ت 899هـ/1495م) نقلها الحطاب الرُّعيني (ت 954هـ/1548م) في ‘مواهب الجليل‘، ويقول فيها: “إن أمن الطريق الذي هو من أحكام الاستطاعة مفقود..، [ونقل] عن المازِري (ت 536هـ/1141م) أن الشيخ أبا الوليد (ابن رشد الجَدّ ت 520هـ/1126م) أفتى بسقوط الحج عن أهل الأندلس، وأن الطُّرطوشي (ت 520هـ/1126م) أفتى بأنه حرام على أهل المغرب..، [وبعضهم] قال: لقيتُ في الطريق ما اعتقدتُ أن الحجّ معه ساقطٌ عن أهل المغرب، بل حرام”!!

ولعل رحلات المغاربة والأندلسيين -التي بين أيدينا اليوم- تبين جسامة ما كانوا يلقونه في المسالك والممالك أثناء رحلتهم إلى الحرمين؛ فقد دأبوا على الالتقاء في مدينة قوص بصعيد مصر باعتبارها -كما يقول ابن جبير الأندلسي (ت 588هـ/1193م) في رحلته- هي “ملتقى الحجاج المغاربة والمصريين والإسكندريين ومن يتصل بهم، ومنها يفوّزون (= يدخلون المَفازة) بصحراء عَيْذاب، وإليها انقلابهم في صَدَرِهم (= عودتهم) من الحج”.

ويضيف هذا الرحالة الفقيه أنه “ربما كان من الحجاج من يتعسف تلك المجهلَة (= الصحراء) على قدميه فيضلّ ويهلك عطشا، والذي يَسْلَم منهم يصل إلى عَيْذاب كأنه مُنْشَرٌ مِن كَفَن، شاهدنا منهم مدة مقامنا أقواما قد وصلوا على هذه الصفة”!

ولقد ظلت مسألة “أمن الطريق” تؤرِّق الحجيج والفقهاء على السواء حتى مطلع القرن العشرين، فكانت تتمّ استثارتها بين الحين والآخر؛ فبسبب قيام الحرب العالمية الأولى (1914-1918م)، وظهور أمراض وطواعين وما قد يلحقه ذلك من ضرر بالحُجاج؛ ورد سؤال من وزارة الداخلية المصرية -بتاريخ 29/06/1915- إلى مفتي مصر آنذاك الشيخ محمـد بخيت المطيعي (ت 1354هـ/1935م)، جاء فيه: “نحيط علم فضيلتكم أنه لما قامت الحرب الأوروبية في العام الماضي صار السفر إلى الحجاز صعبًا وطريقه غير مأمون للأسباب الآتية”، وذكرت الرسالة تلك الصعوبات مثل عدم توفر البواخر، وعدم قدرة الحكومة على توفير الرعاية الصحية والمالية وغيرها.

فكان جواب الشيخ المطيعي -وفقا للفتوى المسجلة بدار الإفتاء المصرية بـ”الرقم المسلسل: 276” والمنشورة على موقعها الإلكتروني بعنوان: “الحج مع وجود خطر على الحجاج”- أنه “يجوز للحكومة والحالة هذه إعطاء النصائح الكافية للحجاج المصريين بتأجيل حجهم للعام المقبل مثلًا، حتى تزول الأخطار ويتوفر أمن الطريق الذي لا بد منه في وجوب الحج”، وقد اتّكأ المطيعي في فتواه تلك على ما سبق لنا ذكره من اشتراط مذهب الحنفية توفر “أمن الطريق وقت خروج أهل البلد” إلى الحج.