الكاتب الجزائري عبد الرزاق بوكبة ورحلة البحث لتحقيق نبوءة شيخ القبيلة

يقول بعض النقّاد إن الثقافة العربية المعاصرة تكافح لتعويض غياب الجانب الحميمي في علاقة الكتّاب بكتاباتهم وعادات الكتابة وفضاءاتها وأدواتها ومواطن الإلهام وكتل الأحلام والمشاعر التي تجتاح الجسد لحظة الكتابة والتفكير.

وبالمقارنة مع الثقافة الغربية التي تحضر فيها هذه العوامل البرانية عن نشوء فعل الكتابة، تحاول اللقاءات والحوارات الاحتفاء بما يسمى بـ”المخطوطات الأولى” الموجودة في مختلف مؤسسات العالم ومتاحفه.

ولأن أغلب هذه الكتب الأولى لم تكن بريئة لحظة الكتابة بما يطبعها من ألم ومخاض في أثناء الولادة، فإن ذكراها تنحفر بعمق في مروج الذاكرة ويستيقظ معها شعور الكاتب/الفنان/الروائي/الشاعر بالبدايات والرعشات الأولى في عالم الكتابة والنشر، فيجد الكاتب نفسه “مكشوفا” أمام أعين القارئ، وهو يلتهم فصوصا من سيرته الذاتية وأوهامها وعلاقتها بسير الآخرين الأحياء منهم والأموات.

وفي هذه الزاوية “فسحة نوستالجية جديدة” التي تفتحها الجزيرة نت يبوح عدد من الكتّاب العرب بمختلف ألوانهم وأجيالهم وحساسياتهم ومشاربهم الإبداعية والفكرية بالأحلام الوردية التي غزت مخيلتهم على مشارف نشر الكتاب الأول، ويُساءلون عن الأسباب التي تقف وراء فتنة النشر وطريقته، والأحلام التي راودتهم وهم ينتظرون رأي الناشر، وعن الذي حدث بعد صدور الكتاب، وهل أصبح الناس يتعاملون معهم على أساس أنهم كتّاب؟ ثم ما الذي تغير في حياتهم؟ وهل هم نادمون على تحرير كتابهم الأول؟

ضيف اليوم الكاتب والإعلامي الجزائري عبد الرزاق بوكبة (44 عاما)، واحد من الوجوه الأدبية التي اجتاحت بتنوعها وغناها الأدب الجزائري المعاصر، بخاصة أن بوكبة من الكتّاب العرب الذين زاوجوا في كتاباتهم بين الزجل والقصة والرواية والنقد والرحلة والمسرح، بطريقة تكاد تكون هستيرية على مستوى التعلق بالكتابة، بوصفها مدخلا جديدا إلى الوجود. فكتاباته يغلب عليها البعد اليومي والعلائق الاجتماعية في نسج وشائج علاقة مع النص، ما يجعلها امتدادا عميقا للعمل الثقافي الذي يقوم به بوكبة داخل مدن جزائرية.

صدر لعبد الرزاق بوكبة عدد من الكتب الأدبية مثل “من دسّ خفّ سيبويه في الرمل”، “أجنحة لمزاج الذئب الأبيض”، “جلدة الظل”، “عطش الساقية، “يدان لثلاث بنات”، “رماد يذروه السكون”، “مسافر في البيت”، وهنا شهادته عن الأسئلة التي طرحتها عليه الجزيرة نت.

نبوءة الشيخ
صدر في شهر سبتمبر/أيلول من عام 2004 في طبعة مشتركة عن المكتبة الوطنية الجزائرية ودار البرزخ، وكان عنوانه “من دسّ خُفَّ سيبويه في الرّمل؟”، وهو مجموعة نصوص قصيرة اختلط فيها الشعر بالسّرد بطريقة يصعب معها تصنيف التجربة، فكتب عنها البعض بصفتها قصة قصيرة جدًّا وصنفها البعض في خانة الشعر الحديث، حتى إن أكاديميا جزائريا هو محمد عروس أصدر كتابا حمل عنوان “التجريب في الشعر الجزائري المعاصر: من دسّ خفّ سيبويه في الرّمل؟ لعبد الرزاق بوكبة.. مدونة تطبيقية”.

صدرت الطبعة الأولى لنصوص “من دسّ خف سيبوية في الرمل” عام 2004 وراوحت بين الشعر والقص
وقد شارك شهرا بعد صدوره في المعرض الدولي للكتاب، فأدهشني أنّه كان ضمن العناوين الجديدة التي لفتت الانتباه إليها، حتى الروائي رشيد بوجدرة لم يكف عن التصريح بأن الكتاب يمثّل عتبة جديدة ومختلفة في المدونة الشعرية الجزائرية. وكنت أتعثر بهذه الآراء المشيدة وأشعر بالرعب من عجزي المحتمل عن تجاوز باكورتي التي قد تصبح عائقا أمام الدخول في تجارب أخرى.

وهو ما يفسر كوني لم أصدر كتابي الثاني “أجنحة لمزاج الذئب الأبيض” الفائز في مسابقة “بيروت 39” إلا بعد 4 سنوات، كما يفسر انتظامي في الكتابة في أجناس أدبية كثيرة من رواية وقصة وقصة قصيرة جدا ورحلة ومسرح وسيرة ومقال ثقافي.

كنت أتحرر بذلك من طوق الكتاب الأول الذي حمله أبي وراح يطوف به على حوانيت القرية وتجمّعاتها قائلا إن ولده أصدر كتابا وهو بهذا -يقول أبي- حقق نبوءة الولي الصالح الذي قال قبل ولادتي عام 1977 إنه سيولد له ولد سيكتب كتبا يقرؤها الناس. وأصل الحكاية أن أبي تزوج عام 1964، فتأخر إنجابه من أمي التي أصبحت في مهب التطليق بسبب ذلك، ضغطا من أسرته، فعرض عليهم أن يزوروا وليا صالحا حيا لا يُقضى أمر في القرية من دون استشارته، فقال لهم لا تطلقوهما، فسيولد لهما ولد سموه كذا وسيكتب كتبا يقرؤها الناس. أنا في الحقيقة جئت إلى الكتابة من زاوية تشرّبي لنبوءة الشيخ منذ صغري، فكتبت حتى لا أجعل أبي وأمي يخيبان في نبوءة شيخهما، ثم أعجبتني اللعبة، فصارت خيارا شخصيا في حياتي لا يخضع لأي دافع عدا دافع العشق.

إحراق مخطوط “أنثى الغيم”
كنت شغوفا بأن يكون لي اسم منذ صغري، فقررت عام 2002 أن أهاجر إلى الجزائر العاصمة، حيث لا مجد خارجها للطامحين إلى المجد في المدن البعيدة، فوجدت نفسي مباشرة بعد دخولها في ذمة التشرد إذ لم أكن أعرف أحدا فيها. وكانت خارجة حديثا من تجربة العنف والإرهاب، فكانت أبوابها المختلفة مغلقة، بما وضعني تحت رحمة شوارعها شهورا عدة، حيث عشت تجارب إنسانية كنت بحاجة إليها لأتخلص من الأحكام السابقة التي كانت تشكل وعيي، من ذلك علاقتي باللغة التي وجدت نفسي عفويا مطالبا بربطها بالمعيش لا بالمقروء، فأحرقت مخطوطي الشعري الذي كتبته في السياقات السابقة وكان عنوانه “أنثى الغيم”، كمؤشر على قطيعة رمزية ونفسية وفلسفية ولغوية مع تلك المرحلة.

من هنا طلعت لغة الكتاب الأوّل صادمة وثائرة ورافضة لكثير من بنيات النحو والصرف العربيين بصفتهما تصورا للوجود. وهذا ما يفسر معنى عنوان الكتاب “من دسّ خفّ سيبويه في الرّمل؟”، إذ كان لا بد أن أدس مقعد النحو في الرمل حتى تستطيع بلاغتي الخاصة أن تثبت نفسها، حيث صارت الكتابة عندي في هذه التجربة فعلا مضادا للسائد والنمطي والجاهز والمقولب والمؤدلج والخادم لغير الذات في محاولتها أن تكون هي بؤرة الفعل الإبداعي والإنساني.

لذة الكتابة
الحق أقول إنني لم أكن أفكر في فعل النشر في أثناء ممارستي فعل الكتابة، فقد كنت أمارسه بصفته حاجة ذاتية تعفيني من آثار الصدمة والخيبة المعجونتين بالتفاؤل بغد جزائري أفضل، فكان تفكيري في الانسحاب من المشهد إن لم أقل من الحياة نفسها يصارع في داخلي إصراري على المضي قدما في التشبّث بالحياة وقيمها النّبيلة والجميلة.

وهو في الحقيقة المقام نفسه الذي كان يطبع الحياة الجزائريّة العامّة. وكنت أنتصر لفعل البقاء بفعل الكتابة في ذاته، ولكن بعد أن أنهيت التّجربة كتابةً وعرضتها على بعض الأصدقاء الذين رأوا فيها اختلافا يجعلها جديرة بالنشر، بدأت أتقبل نشرها، فكان أن كنت مستشارا للمكتبة الوطنية الجزائرية التي كان يديرها الروائي أمين الزاوي، فدفعها إلى النشر في طبعة مشتركة مع دار البرزخ التي كانت حتى ذلك الموسم متخصصة في نشر الكتاب المكتوب باللغة الفرنسية.

الكتابة.. ثم النسيان
لم يحدث أن انتظرت رأي الناشر في ما أكتب، فقد كانت كتبي كلها تجد طريقها إلى النشر إما قبل أن تكتب أصلا أو مباشرة بعد كتابتها. ثم إنني أنسى التجربة بمجرد أن أكتبها، حتى إنني أملك الاستعداد التام لأن أحرقها وأتخلص منها تماما. وأنا أتوفر اليوم على تجارب متنوعة مرّت عليها سنوات من غير أن أفكر في نشرها وهذا نوع آخر من الاستعداد لحرق ما أكتب.

لقد اكتسبت هذا الاستعداد من حرقي لتجربتي الشعرية الأولى، ومن التطهر بممارسة فعل الكتابة لذاتها الذي ورثته عن كتابي الأول. أتدري؟ لو سجنت وقيل لي إننا سنمنحك أوراقا وقلما لتكتب كتابا لكننا سنحرقه مباشرة بعد أن تنتهي منه لوافقت.

تملّك الكتاب جسدا وروحا
هنا أكذب عليك وعلى نفسي إذا قلت لك إنني لم أبالِ بذلك، لقد حملته وتشممته تماما كما تفعل الأم مع وليدها. كان أنيقا جدا على غير ما كان سائدا في مشهد النشر في الجزائر بالنظر إلى أن دار البرزخ كانت متأثرة بجماليات الورق والغلاف الفرنسي، فكانت تصدر كتبا على المنوال الفرنسي.

ولم أنتبه في لحظات ما، فرحت أتحدث إليه كما لو كان كائنا حيا. قلت له إنني أحببته وإنني أشكره على أنه حررني من عقد ومكبوتات ومخاوف كثيرة، لكنني لن ألبث حتى أتجاوزه بتجارب أخرى قد تنسفه نسفا. في الحقيقة كنت أتحدى خوفي من عجزي عن ذلك من خلال تحديه.

كتاب “ظلك في ليل الغابة شجرة” يضم نصوصا زجلية باللغة المحكية تبرز جماليات العامية
التحرر من تقاليد الكتابة المألوفة
لم تمر أسابيع قليلة حتى شرعت في خوض تجارب جديدة في الكتابة والحياة. ولئن ساعدني كتابي الأول “من دسّ خفّ سيبويه في الرّمل؟” على التحرر من هيمنة الأحكام الجاهزة في اللغة والفكر والدين، فقد ساعدني كتابي الثاني “أجنحة لمزاج الذئب الأبيض” على التحرر من الأحكام الجاهزة في الحياة.

لقد شرعت في كتابته عام 2005 ولم أدفعه إلى النشر إلا بعد 3 سنوات، فكأنني كنت أتداوى بكتابته وتنقيحه وإعادة النظر فيه من حين إلى آخر. ثم توالت تجاربي الإبداعية، إلى اليوم، إذ بلغت 15 كتابا في أجناس أدبية مختلفة، كانت آخرها رواية “رقصة اليعسوب” التّي ستصدر قريبا عن دار “ضمّة” في الجزائر وعن دار عربية أخرى، وهي التجربة الروائية الأولى التي أرضى عنها رضا جعلني أدفعها للنشر بضمير إبداعي مرتاح، ولست مستعدا لأن أحرقها أو أدفنها في رفوفي.

والسبب أنني كتبتها في ضوء استفادتي من خبرة ربع قرن من الكتابة، فطلعت ثرية بالابتكارات السردية والوعي بالأفعال الروائية التي تمنح للرواية مصداقيتها الجمالية والإنسانية والفلسفية.

صدر الكتاب عام 2004، وأعدت نشره في طبعة ثانية عام 2011، وسأنشره ثالثة قريبا، وهذا دليل على عدم ندمي على كتابته ونشره. لقد كان منصتي الأولى للانطلاق نحو فعل الكتابة الذي يظل أرقى أفعالي في الحياة، ولولاه لما استوى إيماني بالحياة على ساقه. وإنني أتساءل كثيرا: هل كنت أستسيغ حياتي لولا فعل الكتابة؟