“نثر حياة بين ضفتين” في حوارات وديع سعادة وإسكندر حبش: العالم غارق في هاوية ولن ينقذه الشعر

يتحدث الشاعر اللبناني المقيم في أستراليا وديع سعادة (المولود عام 1948) -أحد شعراء الحداثة العربية المعاصرين- إلى صديقه الشاعر والصحفي المترجم اللبناني إسكندر حبش، عن تجربة حياتية وإبداعية طويلة، تضاف إليها معايشة مع المكان (في لبنان: الطفولة والانطلاقة الشعرية، وأستراليا: آخر المنافي وثاني الأوطان)، كأهم محطتين في مسيرة شاعر عربي نال جوائز عالمية.

يوميات ومشاهد متشظية، تقاذفت فيها المدن والأسفار والمنافي الشاعر وديع سعادة، الذي استقر به المقام منذ عام 1988 في أستراليا، حاملًا راية الشعر في وجه الانفلات والقبح الإنساني، وضاق به المكان واتسعت لخياله أكوان الشعر وفضاءاته.

يقول سعادة، ملخصا الحديث عن علاقته بالمكان وتأثره وتعلقه به: ضاقت بي “شبطين” (القرية التي عاش فيها طفولته)، فغادرتها إلى بيروت، ثم ضاقت بي بيروت، فجلتُ بالأوتوستوب في فرنسا حتى الحدود الإسبانية، ثم أستراليا عام 1973، وما لبثت أن غادرتها بعد 9 أشهر، ثم لندن، ثم فرنسا ثانيةً، ثم أثينا، ثم نيقوسيا، ثم أستراليا عام 1988.

“بين ضفتين”
حمل الكتاب الصادر حديثا عن دار نشر “خطوط وظلال” في الأردن عنوان “وديع سعادة.. نثر حياة بين ضفّتين”، ويبدأ الكتاب بمقدمة يسرد فيها حبش البدايات الأولى لتواصله بسعادة وما تربطهما من صداقة ومراسلات تمتد لأكثر من 3 عقود، وفكرة إجراء حوار موسع، عبر فيسبوك، حول ذكريات الطفولة وقضايا ومواضيع شعرية وثقافية عدة.

تحت عنوان “محاولة للبحث عن وديع سعادة”، يكتب إسكندر حبش مقدمة يفتتح بها كتابه الحواريّ، وينوه فيها إلى أنه لا يمكن أن ينسى صوت وديع سعادة (في الهاتف) للمرّة الأولى عام 1985، في حين “الجمهورية السعيدة” (ويقصد: لبنان) -التي كانا يعيشان فيها- تغرق في القتل والدمار، كلّ واحد يعيش في منطقة مختلفة، حيث الطرق مقطوعة، ولا يمكن لأحد الوصول إلى الآخر.

ويضيف حبش “لم أكن قد التقيت وديع سعادة قبلًا. كلّ ما أعرفه عنه بعض القصائد، وبعض المقالات التي قرأتها، ولم يكن يعرفني حتمًا، كنتُ في بداية الكتابة، وكلّ ما نشرته كان عددًا قليلًا من القصائد والمقالات في صحيفتي “السفير” و”النهار”. عندها، كان سعادة قد نشر ديوانه الأول “ليس للمساء إخوة” بنفسه عام 1973، حيث كتبه بخط يده ووزّعه، قبل أن يُعاد نشره مطبوعًا بعد سنوات”.

“الشعر والطفولة”
يربط وديع سعادة بين الشعر والطفولة كعالمين متكاملين، إذ يعتقد أن الشعر شيء من الطفولة. وفي المقابل، يرى في الطفولة شيء من الشعر، “وعلينا أن نحافظ على هذه الطفولة، سواء كنا شعراء أو لا”.

ويتصدى سعادة لمن يقولون إننا نعيش اليوم “موت الشعر”، معتقدًا أن الشعر يموت حين تموت المشاعر الإنسانية، لكن ما زالت هناك مشاعر إنسانية، وبها يستمر الشعر، رغم كل المآسي والحروب واختلال القيم وشيوع الفساد والظلم والكراهية.

ويعبر عن انحيازه الكامل للحداثة الشعرية، التي يعد أحد أهم أصواتها المعاصرين، مؤكدًا أنه لا يبالي بأي نقاش يطرح -وإن بشكل خفيف عما سبق- بين أشكال الشعر العربي الكلاسيكي الموزون أو الشعر الحر أو قصيدة النثر، مبينًا أن نقاشًا كهذا قد عفا عليه الزمن.

القراءة والجوائز الأدبية
أما ما تعنيه جائزة “ماكس جاكوب” الفرنسية التي منح إياها عن مجموعته “نص الغياب وقصائد أخرى”، المترجمة إلى الفرنسية، والتي صدرت عن منشورات “أكت- سود”، فيقول إنه ينظر إلى الجائزة على أنها احتفاء بالشعر العربي الجديد عموما، وليس فقط بشعره تحديدا.

وفي ما يتعلق بجائزة الأركانة العالمية للشعر في المغرب، التي منحت له قبل نحو عامين، فيعبر عن تقديره لهذه الجائزة والقائمين عليها، “لأنها جائزة تكرم الشعر والشعراء”، بينما معظم الجوائز العربية الأخرى “تهمل الشعر كليا”، كما يقول.

ويقرأ وديع كل ما يمكنه الحصول عليه من شعر وغير شعر، كما يفيد، على أن “القراءة تجعل الوقت يمضي بوطأة أقلّ”. ومجيبا عن سؤال “التأثر/القراءات الأولى”، يقول سعادة إن قراءاته كانت متعددة، لأكثر من كاتب، وفي هذا السياق يشدد على أنه من المهم أن يكون للشاعر صوته الخاص”، قبل أن يستدرك قائلا لا أؤمن بالقطيعة الثقافية. كثيرون لا شك أثروا في.

ويكشف سعادة عن أنه -في بداياته الشعرية- بدأ بكتابة قصائد موزونة، لكن مصيرها كان أنه قام بتمزيقها بعد فترة وجيزة جدا من كتابتها، معللًا تصرفه هذا بأنه وجد أن القوافي والأوزان مجرد قيود شكلية لا حاجة للشعر بها ولا تضيف إلى جوهره شيئا.

ويستطرد في هذا السياق: قلت في نفسي إذا كان الشعر يعني الحرية، فلماذا يقيد نفسه بهذه القيود. أما كتابته الشعر الحر بعد ذلك فقد تمت ببساطة، إذ ترك الكتابة “تذهب على سجيتها بلا وزن ولا قافية”، كما يقول.

أسئلة بلا أجوبة
يعتقد سعادة أن من مهمات الشعر طرح أسئلة على العالم، وغالبا هي أسئلة بلا أجوبة. وفي المقابل، يظل العالم مستمرا بالشعر أو من دونه، لكن “إن استمرّ بشعر، يكون جميلا، وإن استمرّ بلا شعر، فسيكون ناقص الجمال”، على حد تعبيره.

وبين الشعر والسياسة، وهل بالضرورة أن يكون للشاعر اهتمام بالسياسة وتفاعل معها من عدمه، يرى سعادة أن “الشعر هو أيضا سياسة”، أو بمعنى آخر “سياسة غير مباشرة”، وليس بالمعنى المتداول لهذه الكلمة. فأية قضية يطرحها الشعر هي سياسة في أحد معانيها، سواء كانت قضية اجتماعية أو فردية أو غير ذلك.

كتابة “ليل”
وبشأن عادات الكتابة وأفضل الأوقات لديه، يكشف سعادة عن أنه يكتب عادةً في الليل، وليس في غرفة بل في حديقة المنزل، معتقدا أن “الذي يدخل في عالمه الداخلي” منشغلا بالكتابة لا يكون قد خرج من العالم الخارجي، ضمن قطيعة حرفية، إنما -الأرجح- أنه سيرى العالم الخارجي حينذاك بشكل أوضح.

وهل يكتب سعادة على الورق أم على الكمبيوتر؟ هنا يفيد بأنه يكتب على الورق، إذ يشعر بأن في حفيف القلم عليه حياة لا يشعر بها على الكمبيوتر. أما الشطب والتصحيح، فهو غير وارد لديه؛ “نادرا ما أصحح، وإن رأيت خللا في القصيدة، فغالبا أمزقها”.

وفيما إذا كان يفكر في القارئ ويعمل على إرضائه أثناء عملية الكتابة، يعترف سعادة بأنه حين أكتب لا أفكر في رأي القارئ أو إرضائه، لكن هذا لا يعني تغييبا للقارئ، “بل إن إرضاء القارئ لا يتم -في اعتقادي- إلا بإرضاء الشاعر ذاته”.

رحيل الوالد
وكيف جاء “وديع سعادة” إلى الكتابة، يجيب صراحة أنه “لا يعرف بالضبط كيف جاء إليها”، غير أنه يعتقد أن موت والده احتراقا، هو ما دفعه للكتابة، أو “ربما الحقول التي ركضت فيها، والفلاحون الذين عشت معهم، وربما الاقتلاع من المكان، والظلم اللاحق”.

ومتذكرا بداياته الأولى، في بيتهم القروي، يفيد سعادة بأن “اكتشاف القراءة” لديه لا يعدو عن “كتب مدرسية فحسب”، وسماع أصدقاء والده يلقون ما قال عنه “نثرات مشوهة من قصة الزير”. أما أول الكتب التي قرأها -بعد ذلك- فهي لكل من: بودلير، ورامبو، وألبير كامو، وسارتر، وغيرهم، شعراء وغير شعراء.

في الضيعة، كانت المدرسة التي درس فيها وديع الابتدائية عبارة عن غرفة واحدة ومعلم واحد، يذهب إليها كل صباح، مشيا لمدة نصف ساعة، عابرا “دربا طويلا من الأحراج، في البرد وتحت المطر”.

ويستمر النبش في الذاكرة، تحت إلحاح أسئلة إسكندر حبش، عندما تحدث سعادة عن مآسي الطفولة وذكرياتها، لا سيما مشهد لا تنساه الذاكرة “موت أبيه احتراقا”، عندما كان عائدا من مدينة “البترون” التي درس فيها التكميلية، إلى قريته “شبطين”، “وحين صعدت، رأيته على الكنبة هيكلا عظميا أسود، يسند ركبتيه بيديه”.

وفي “البترون”، يتذكر وديع تشجيع معلم العربي -ذي الميول الأدبية- له على كتابة الشعر. ووفقا لوديع، فإن البوادر الأدبية تتأسس لدى الشاعر منذ الصغر، ثم تنمو مع العمر والتجارب التي يمر بها، والقراءات، وغير ذلك.

مجلة “شعر”
ويتذكر وديع “مجلة شعر”، التي كانت مصدر أولى قراءاته، بعد انتقاله إلى بيروت عام 1968، “كانت المفتاح لتعرفي إلى الشعر الجديد”. ومن خلالها ارتبط بعلاقات مع: يوسف الخال، وشوقي أبي شقرا، وعصام محفوظ، وسركون بولص.

وبعدها علاقته بالشاعر أنسي الحاج “الميال إلى العزلة”. أما الشاعر العراقي سركون بولص، فيقول سعادة إنه كان الأقرب إليه، وكان يرى شبها بين حياتيهما. وبعد مجلة “شعر”، يقول وديع إنه لفتت انتباهه أيضا مجلتا “مواقف” و”الآداب” آنذاك.

محتويات عدد من مجلة شعر شمل قصائد ليوسف الخال وأنسي الحاج وموضوعات لبدر شاكر السياب ونازك الملائكة
انتقل وديع إلى بيروت وعمره 20 عاما، وهناك درّس عامين صفوفا ابتدائية، وعمل موزعا للأفلام في شركة كوداك، ودخل الصحافة كاتبا حرا. وبيروت الستينات مدينة الحداثة المتسارعة، وهي التي أصابت وديع بـ”صدمة الحداثة وعشق بيروت”، كما يتذكر.

ورغم الحنين لقريته “شبطين”، التي قال إنه يفتقدها هي وأهلها، يكشف سعادة عن أنه يفضل البقاء في أستراليا بجانب العائلة. أما ما تبقى في الذاكرة من “شبطين” فهو “مكان حائر”، حيث لم تعد “شبطين” قريةً ولا أصبحت مدينة. وفي المجمل، يرى وديع أن “الأرض كلها صارت منفى”.

يقول سعادة “أولادي لا يعرفون لبنان إلا من خلال الأخبار المتفرقة”، مؤكدا أنهم نشأوا وكبروا في أستراليا، ويتمتعون بحقوق المواطنة كافة، لهذا فهم “يشعرون بالانتماء لأستراليا”. ورغم زيارتهم للبنان، مرتين، في الطفولة فـ”شعورهم بأنه بلد لا يعرفونه”. وإجمالا، يتحسر وديع على لبنان: “كان ولن يعود”، متحدثا عن “أكذوبة جميلة كان اسمها لبنان”، تنهشها الطائفية والفساد وضياع حقوق الناس، وتبخرت الأحلام بـ”دولة علمانية”.

الترجمة
ترجم وديع سعادة 3 كتب لكل من: الياباني كنزبورو أوي، والألباني إسماعيل كاداريه، والنيجيري تشينوا أتشيبي، لكن مشروع الترجمة، توقف عند هؤلاء، ولم يكمل وديع المشوار “ترجمتي لبعض الكتب كانت من أجل كسب لقمة العيش، وليتعرف القارئ العربي على هذه الكتب”. ثم بعد الهجرة إلى أستراليا، انشغل وديع عن الترجمة بأمور أخرى، فلم يعد له جَلَد على أعمال تتطلب جهدا ومن بينها الترجمة، كما يقول.

ويكشف وديع سعادة عن طفولة “بائسة” في بيت فقير لا ألعاب فيه ولا مكتبة، عدا لعبة من إطار السيارة (أدحرجه وأجري وراءه حول البيت أو أستخدمه كمقود سيارة”، ولعبة أخرى “كنت أثقب علبة سردين فارغة، أربطها بخيط، أضع فيها أحجارا صغيرة، وأجرّها”. على أن أبعد شيء في ذاكرة سعادة انعدام الطفولة، والموت، والعجز.

وباستعادة أول مجموعة شعرية لوديع “ليس للمساء إخوة”، يقول إنه لم يكن لديه مال لطباعتها وإصدارها عن دار نشر، فأصدرها بخط يده، وباعها بيده أيضا في الشارع. أما الكلمة الختامية للحوار فيقول فيها سعادة “هذا العالم غارق في هاوية، ولن ينقذه شيء، لا الشعر ولا سواه”.

ويقسم إسكندر حبش كتابه الحواري مع وديع سعادة إلى: مقدمة، وأسئلة أخذت الحيز الأكبر، لا سيما أسئلة الشعر، ومختارات من شعر وديع (10 قصائد)، وملحق صور (17 صورة)، على أن مشروع الحوارات سيستمر، وهنالك حوارات ستصدر لحبش قريبا عن “خطوط وظلال” نفسها، مع الشاعر الكردي العراقي المقيم في المملكة المتحدة صلاح فائق.

المصدر : الجزيرة