سَنَّ لنا الشاعر العظيم أبو تمام الطائي (ت 231هـ/846م) سُنَّةً حسنةً في لحظات الانتصار البهيجة، وهي أن نتذكر غزوة بدر الكبرى في تلك اللحظات التي تخفق فيها القلوب سرورا بـ”يوم الفرقان” بين الحق والباطل. ومواكبةً للفرحة العارمة التي دبت في العالم العربي والإسلامي مع أحداث معركة “سيف القدس” الأخيرة بفلسطين وانتصاراتها المدهشة؛ سعينا في هذا المقال لرصد عدد من المواقف الابتهاجية التي شهدها التاريخ الإسلامي، وتفاعل بها المسلمون مع لحظات انتصاراتهم على الأعداء.
ولئن كانت مظاهر الاحتفال -في سياق سياسي عسكري- غايةً نتوخّاها في هذا المقال؛ فإن القارئ لن يفوته أن يقف خلال ذلك على ملامح ثقافية ومعرفية رافقت وربما شكّلت تلك المظاهرَ والمواقف، وهي ملامح تنتظم في سلكها الفنونُ والآداب والفعاليات الشعبية والإبداعات الحضارية، التي تكشف جميعها الكثيرَ من أسرار المشاعر الإنسانية في محطات الفرح، وتخلّد الذوق الفني الإسلامي الكاشف عنها.
فالأهازيج الطربية التي كانت تستقبل الصحابةَ العائدين مع النبي الأمين ﷺ من الغزوات المظفَّرة، والتجمعات الشعبية التي كان الخلفاء الراشدون يدعون المسلمين إليها لسماع حكايات الفتوح وقصص جنود الإسلام المنتصرين؛ تظل هي الأساس التاريخي المؤصِّل لكل ما أعقب تلك الحقبة المبكرة من تاريخ الإسلام من احتفالات بالانتصارات.
أما أحد هؤلاء الخلفاء الراشدين -وهو الفاروق عمر بن الخطاب (ت 23هـ/644م)- فقد أسس لهذا المنحى البهيج في حياة المسلمين بسابقة جاءت على نحو عجيب؛ إذْ استعان بـ”الدراما” التمثيلية حين ألبس أحد الصحابة زِيَّ كسرى فارس وأمره أن يتقمَّص هيئته وأبّهته، وكأنه ذلك الإمبراطور المهزوم الذي طالما أرعب العرب ذكْرُه وخطَرُه!
ولعل الفاروق كان يقصد الاحتفال حقًّا، لكنه كان أيضا يريد رفع الروح المعنوية لدى جماهير المسلمين، وكسْر مهابة أنظمة زمانهم المتجبّرة في قلوبهم، وهو البُعد الذي نجده يتكرر لاحقا في الكثير من الاستعراضات العسكرية التي عرفها التاريخ الإسلامي، ومن ضمن ذلك مواكب استعراض غنائم -وأحيانا قادة وملوك- القوى المهزومة.
ومن اللافت أن تشريع فرح المسلمين بالانتصار لم يتوقف على امتلاكهم صنعه حصريا أو جزئيا؛ فقد فرحوا -وهم في مكة يعانون الاستضعاف والاستهداف- بما سمّاه القرآن الكريم “نصر الله” الذي كتبه للروم على فارس، وهو انتصار لم يشارك فيه المسلمون واقعا لكنهم فرحوا به لما مثّله من انتكاسة لقوة وثنية من قوى الاستكبار العالمي ساعتها.
لقد استمرت أهازيج النصر تترى وتتطور في حياة المسلمين بقدر ما وُجدت -أحيانا عديدة- أحزانُ الانكسار والهزيمة؛ وكان لكل عصر سمته ونمطه في تلك الاحتفالات، وكان الشعر -باعتباره ديوان العرب- نصيب وافر منها حتى إن قصائد النصر والفتوح تأبى الحصر، كما سُجِّل حضور لافت لتزيين المدن وإنارتها، وتجميل الشوارع والمنازل، وتنظيم الاستعراضات مواكب ومراكب.
بل إن هذه الاحتفالات امتدت إلى البحر بإسهام أساطيل البحرية الإسلامية في فعالياتها، خصوصا في عصر هذه الأساطيل الذهبي أيام المماليك والعثمانيين. وبقدر ما تعددت مظاهر الاحتفال تنوعت؛ توزعت ساحاته بين أقطار الإسلام آفاقا وأعراقا، وعلى نحو تسهل مقارنته بما نشاهده اليوم مع نكسة الاحتلال الصهيوني الغاشم أمام المقاومة الفلسطينية الجريئة والمبدعة؛ ففتح القسطنطينية اهتزّ له العالم الإسلامي بأجمعه فأنيرت شوارع القاهرة والشام وابتهجت مدن فارس والهند!!
سوابق تأصيلية
غرس القرآن الكريم في نفوس المسلمين -وهم أقلية مضطهدة في مكة- التطلعَ إلى الظَّفَر على الأعداء والفرح بنصر الله تعالى لهم ولأصحاب الديانات السماوية حين يصارعون جبهة الشِّرْك المتمحّض، ويتجلى ذلك في تخليد القرآن لفرح المسلمين بحادثة انتصار الروم المسيحيين على الفرس المجوس الوثنيين: ﴿غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ، لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ، وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ﴾.
وفي ذلك يقول الإمام الذهبي في ‘تاريخ الإسلام‘: “كانت بين الروم وبين فارس ملحمة مشهودة نصر الله فيها الروم، ففرح المسلمون بذلك لكون أهل الكتاب في الحملة نُصروا على المجوس”! والملحمة التي يشير إليها الذهبي هنا هي “معركة إيسوس” الهائلة التي جرت بين الإمبراطوريتين سنة 622م، وهي السنة نفسها التي وقعت فيها الهجرة النبوية من مكة إلى المدينة.
وبعد هجرتهم إلى المدينة وتأسيس دولة الإسلام على ثراها؛ كان أولَ ما قام به النبيُّ ﷺ -بعد نصر الله المبين له في غزوة بدر الكبرى سنة 2هـ/624م- أن أرسل إلى أهل المدينة من يبشرهم بالنصر المؤزَّر، وقد تجاوب أهل المدينة مع ذلك الخبر المبهج فنظموا استقبالات رسمية وشعبية، تهنئةً للنبي ﷺ وأصحابه البدريين بأول نصر حاسم في مسيرة الإسلام.
يخبرنا المؤرخ الكبير ابن جرير الطبري (ت 310هـ/922م) -في تاريخه- أن رسول الله ﷺ بعث “عند الفتح عبد الله بن رواحة (ت 8هـ/630م) بشيرا إلى أهل العالية (= ضواحي المدينة الجنوبية) بما فتح الله على رسوله ﷺ وعلى المسلمين، وبعث زيد بن حارثة (ت 8هـ/630م) إلى أهل السافلة (= ضواحي المدينة الشمالية)”.
وكان احتفال أهل المدينة حينئذ بهذا النصر العظيم جامعا بين المظاهر الرسمية التي قام بها وجوه أهل المدينة من استقباله ﷺ بالروحاء وتهنئته بالنصر، والتفاعل الشعبي العفوي مع الحدث الذي قامت به عامة الناس -بمن فيهم الصبيان والولائد- فأنشدوا الأناشيد وقرعوا الدفوف.
ونحن نجد هذه التفاصيل الاحتفالية عند المؤرخ الفقيه المقريزي (ت 845هـ/1441م) في كتابه ’إمتاع الأسماع‘؛ ففي مبحث بعنوان: “بشرى أهل المدينة بنصر رسول اللَّه”؛ نقل لنا هذا المؤرخ البصير أجواء دخول بشيرَيْ رسول الله ﷺ إلى المدينة النبوية، وتفاعل أهلها مع تلك البشرى العظيمة.
يقول المقريزي: “قدم زيد بن حارثة وعبد اللَّه بن رواحة من الأُثَيِّل (= اليوم قرية الحسينية 130كم غرب المدينة) إلى المدينة، فجاء.. شَدَّ الضُّحى (= قُبيل الزوال) فنادى عبدُ اللَّه: يا معشر الأنصار، أبشروا بسلامة رسول اللَّه وقتْل المشركين وأسرهم! ثم اتّبع دورَ الأنصار فبشّرهم، وقدم زيد بن حارثة على ناقة رسول اللَّه ﷺ ‘القَصْواء‘ يبشر أهل المدينة؛ فلم يصدق المنافقون ذلك وشنّعوا”!!
ابتهاجات طيبة
وعن الاستقبال الشعبي البهيج المنظَّم للمنتصرين عند مدخل المدينة؛ يضيف المقريزي: “وتلقّى الناسُ رسولَ اللَّه ﷺ بالرَّوْحاء (= وادٍ بين مكة والمدينة) يهنئونه بفتح اللَّه، فقدِم المدينة ﷺ مؤيَّداً مظفَّرا منصورا، قد أعلى اللَّه كلمته ومكّن له وأعزّ نصره، ودخلها من ‘ثنية الوداع‘ في يوم الأربعاء الثاني والعشرين من رمضان (سنة 2هـ/624م)؛ فتلقاه الولائد بالدفوف وهنّ يقلن:
طلع البدر علينا ** من ثَنـيات الوداع
وجب الشكر علينا ** ما دعا للَّه داع”!
ويحدثنا المقريزي أن هذا المشهد الاحتفالي أيضا تكرر عند رجوع النبي ﷺ من آخر غزوة غزاها، وهي غزوة تَبُوك سنة 9هـ/631م؛ فإنه ﷺ لما “دنا من المدينة خرج الناس لتلقيه..، والصبيان والولائد يقلن” النشيد المتقدم.
والملمح المهم هنا هو أن وقوع هذا الاحتفال البهيج في آخر غزوة للنبي ﷺ -وهي تَبُوك- يؤكد أن الاحتفالات بالانتصارات انتظمت منذ غزوة بدر وحتى وفاته ﷺ، ثم تواصلت أجواؤها الاحتفالية رسميا وشعبيا مع الانتصارات الإسلامية الكبرى اللاحقة في عهد الفتوح وما بعهده، آخذةً مظاهرَ شتى ظلت تتطور وتتوسع طوال عصور الإسلام.
ففي عهد خليفة رسول الله ﷺ أبي بكر الصديق (ت 13هـ/635م) -رضي الله عنه- شهدت الاحتفالات بالنصر تطوراً بروتوكولياً، تمثَّل في تلقيه هو شخصيا -ومعه مستشاروه من كبار الصحابة- لحاملي البشارات بالفتح والنصر، ثم بجمعه الناسَ في المسجد النبوي -في غير أوقات الصلوات- لسماع رسائل الفتح النصر وما تحمله من تقارير ميدانية عن مستجدات المعارك الإسلامية؛ فربما ازدحموا لسماعها في المسجد كما تزدحم جماهير المهرجانات الشعبية اليوم!!
فالإمام ابن الجوزي (ت 597هـ/1201م) يخبرنا -في ’المنتظم‘- أن أول جيش بعثه الخليفة الصدّيق (ت 13هـ/635م) “كان هلال ربيع الآخر سنة إحدى عشر”، وكان بقيادة أسامة بن زيد (ت 54هـ/675م) رضي الله عنهما؛ فـ”سار إِلى أهل أُبْنَى (= قرب البَلقاء/الكرامة غربي الأردن)..، فشنَّ عليهم الغارة فقتل من أشرف (= خرج) له وسبى من قدر عليه.. ورجع إلى المدينة”. وفي رجوعه المظفّر هذا “خرج أبو بكر في المهاجرين وأهل المدينة يتلقونهم سرورًا بسلامتهم”.
ويفيدنا مؤرخ الفتوح الشامية العظيمة محمد بن عمر الواقدي (ت 207هـ/822م) -في كتابه ’فتوح الشام’- بأنه بلغه “أن أبا بكر الصديق كان يخرج كل يوم بعد صلاة الفجر” تشوُّفاً لأخبار المجاهدين في الشام، واستشرافا للرُّسُل القادمين إليه بأنباء الفتوحات الإسلامية.
تطلع للبشائر
ومن وقائع ذلك الاستطلاع؛ أن الخليفة الصدِّيق كان في إحدى خرجاته المباركة ذات صباح مع أصحابه “إذْ أقبل عبد الرحمن بن حميد (ت بعد 13هـ/635م)، فلما رآه تسابقت إليه أصحابه وقالوا له: من أين أقبلت؟ قال من الشام وإن الله قد نصر المسلمين، فسجد أبو بكر الصديق لله شكرا..، وقرأ الكتاب (= خطاب النصر) سِرًّا فلما فهِم ما فيه قرأه على المسلمين جهرا، فتزاحم الناس يسمعون قراءة الكتاب، فشاع الخبر في المدينة”!
وحين شاع الخبر في المدينة النبوية “هُرِعَت الناس من كل مكان فقرأه أبو بكر ثاني مرة” لهم، ولم تقتصر تلك الأخبار والتفاعل معها على سكان عاصمة الإسلام حينها المدينة المنورة، بل إنه “تسامع الناس من أهل مكة والحجاز واليمن بما فتح الله على أيدي المسلمين وما ملكوا من أموال الروم، فتسابقوا بالخروج إلى الشام ورغبوا في الثواب والأجر”.
وقد وردت هذه البشرى -التي انتظرها الصدّيق وأصحابه بلهفة وتزاحَم أهلُ المدينة لسماع أخبارها بشغف- بخبر انتصار المسلمين على الروم في معركة أجْنادين بفلسطين، بقيادة سيف الله المسلول خالد بن الوليد (ت 21هـ/642م)؛ وكانت وقعتها “ليلة ست خلت من جمادى الأولى سنة ثلاث عشرة من الهجرة النبوية (13هـ/635م)، وذلك قبل وفاة أبي بكر بثلاث وعشرين ليلة”؛ وفقا للواقدي.
ولئن كانت فترة خلافة الصديق لم تطل إذْ لم تتجاوز العامين إلا بأشهر؛ فإن خليفته الفاروق عمر بن الخطاب (ت 23هـ/644م) امتدت خلافته عقدا كاملا كثُرت فيها الانتصارات في الشام والعراق ومصر، حتى إنه لكثرتها كُني “أبا الفتوح”!!
وطوال هذا العقد الزاخر بالانتصارات؛ ترسخت مظاهر احتفالات النصر التي سنّها صاحباه، فقد اعتاد عمر أنه “في كل يوم -بعد ما يصلي الصبح- يقرأ ما تيسر [من القرآن]، ويركب ناقته ويتوجه نحو طريق العراق، ويرتقب ما يرد عليه من أخبار المسلمين”؛ حسب الواقدي في ’فتوح الشام’.
وكان من تلك الأخبار التي يترقبها الفاروق بحرقة خبرُ فتح ‘المدائن‘ عاصمة الدولة الفارسية بالعراق، وإنهاء الحكم الكسروي فيها سنة 16هـ/638م طبقا لما بشر به النبي ﷺ في حديث الهجرة؛ فينبئنا الواقدي أن قائد جيوش الإسلام على جبهة العراق سعد بن أبي وقاص (ت 55هـ/674م) “رأى رأيًا أن يُسَيِّر بشيراً يبشّر عمر بفتح المدائن وبقدوم الخُمس، وبما أنعم الله على المسلمين؛ ليكون أزيدَ هيبةً وبهجةً بالفتوح، فأرسل جيش بن ماجد الأسدي (ت بعد 16هـ/638م)”!!
إعلام جماهيري
ويفصّل لنا الواقدي وقائع لقاء الفاروق مع مبعوث سعد بن أبي وقاص وتلقيه منه للبشرى بفتح المدائن، وما ترتب على ذلك من احتفالات رسمية وشعبية؛ فيقول إن الفاروق خرج يوما “على حسب العادة وإذا هو بجيش قد أقبل على ناقته”، فخاطب مبعوثُ النصر الخليفةَ قائلا: “أبشر يا أمير المؤمنين بالفتح العميم، والسعد الجسيم، وإن الله سبحانه وتعالى قد هزم جند المشركين، وقطع دابر القوم المجرمين، وأخلى منهم ديارهم، وأخفى آثارهم”!!
وقد استبشر عمر الفاروق بما سمع وابتهج، وسار معه “حتى دخل المسجد، وتسامع الناس فأتوا حتى غصّ المسجد بالناس، وأقبل جيشٌ يحدثهم وهم يكْثرون الثناء على الله ويصلّون على النبي ﷺ”.
فكان من سُنن الفاروق التي سنَّها -بعد صاحبيْه- احتفالا بالانتصارات أنه جعل حمَلَة البشارات -الذين شاهدوا المعارك وعاشوا أجواء الفتح- يحدّثون أهلَ المدينة بما رأوه من شجاعة المسلمين وإقدامهم وجبن الأعداء وخَوَرهم، وهذا من عبقرية الفاروق وإلهامه لأنه “ما مَنْ رأى كمَنْ سمِع”!
وعلى جبهة الفتوح المصرية؛ يحدثنا الصحابي معاوية بن حُدَيْج (ت 52هـ/670م) أنه لما أرسله قائد عمرو بن العاص (ت 43هـ/664م) ببشرى “فتح الإسكندرية” سنة 20هـ/641م وصل المدينة المنورة، فقابله الخليفة عمر وتوجه به إلى المسجد النبوي “فقال للمؤذّن أذّن في الناس الصلاة جامعة، فاجتمع الناس، ثم قال لي: قم فأخبر أصحابك”! كما في ’فتوح مصر والمغرب’ للمؤرخ ابن عبد الحكم المصري (ت 257هـ/871م).
ويبدو من تتبع سيرة الفاروق أنه كان يجمع بين إقامة الخطباء ليحدّثوا المسلمين بأخبار الفتح والنصر، وبين قراءته هو شخصيا أو غيره -ممن يكلفهم- للكتب التي يرسلها القادة الفاتحون؛ فقد أورد الواقدي أنه قرأ على الناس فوق المنبر خبر فتح اليرموك بالشام سنة 15هـ/637م “فارتفعت أصوات المسلمين بالتهليل والتكبير والصلاة على البشير النذير”.
وقد تواصل هذا التقليد الاحتفالي مع الخليفة الراشد عثمان بن عفان (ت 35هـ/656م)، كما في خبر فتح تونس عند ابن عبد الحكم في ’فتوح مصر والمغرب’؛ فقد جاء فيه أن قائد جيش الفتح عبد الله بن سعد بن أبي سرح (ت 37هـ/656م) بعث عبد الله بن الزبير (ت 73هـ/692م) برسالة البشارة “بالفتح، فقدم على عثمان بن عفان فبدأ به قبل أن يأتي أباه الزبير بن العوّام (ت 36هـ/657م)، فخرج عثمان إلى المسجد -ومعه ابن الزبير- فحمد الله وأثنى عليه، ثم ذكر الذي أبلى الله المسلمين على يديْ عبد الله بن سعد، ثم قال: قم يا عبد الله بن الزبير فحدّث الناس بالذي شهدت” من وقائع الفتح!
استعراض غريب
ولو تعمقنا أكثر في تفاصيل احتفالات أهل المدينة -باعتبارها عاصمة الإسلام- أيام الصحابة بالانتصارات والفتوح؛ فسنلاحظ اهتمامهم بالاستعراض الكرنفالي للأشياء الغريبة على بيئتهم والتي يعود بها المجاهدون من أمصار الفتح الإسلامي.
فقد عثر المسلمون في الشام والعراق على حيوانات غريبة، وأنواع عجيبة من زينة الدنيا والأثاث والألبسة الفخمة التي لا عهد للعرب والمسلمين بها؛ فكان الخلفاء الراشدون يعرضون تلك الغرائب على الناس ليعتبروا ويكثروا من حمد الله وشكره وتسبيحه.
ومن ذلك أن غنائم فارس كانت تشمل الفيلة وهي من الحيوانات غير المألوفة في أرض العرب؛ فكان أهل المدينة يتجمهرون لرؤيتها اعتبارا واستغرابا حين غنمها المسلمون وقدموا بها إلى عاصمتهم. فالطبري يخبرنا أن خالد بن الوليد حين فتح مناطق بالعراق كان من غنائمه الفيل، فأرسل إلى الخليفة أبي بكر الصدِّيق “بالفتح وما بقي من الأخماس وبالفيل..، فطِيف به في المدينة ليراه الناس، [فـ]ـجعل ضعيفات النساء يقلن: أمِنْ خَلْق الله ما نرى؟! ورأينه مصنوعا”!!
ومن مشاهد الاحتفالات “الدرامية” الطريفة والاعتبارية اللطيفة؛ ما فعله الفاروق بزِيّ كسرى وحُليِّه؛ ذلك أنه “لما أُتِيَ بِحُليِّ كسرى وزيّه في المباهاة وزيّه في غير ذلك -وكانت له عدّة أزياء لكلّ حالة زيّ- قال [عمر]: عَلَيَّ بمُحَلِّم (= مُحَلِّم بن جثامة الليثي ت بعد 63هـ/684م) -وكان أجْسَمَ (= أضخم) عربيّ يومئذ بأرض المدينة- فأُلبِس تاج كسرى على عمودين من خشب، وصبّ عليه أوشحته وقلائده وثيابه، وأُجلِس للناس!
فنظر إليه عمر ونظر إليه الناس، فرأوْا أمرًا عظيمًا من أمر الدنيا وفتنتها! ثم قام عن ذلك فألبِس زِيّه الذي يليه، فنظروا إلى مثل ذلك في غير نوع، حتى أتى عليها كلها! ثم ألبسه سلاحه وقلّده سيفه، فنظروا إليه في ذلك، ثم وضعه؛ ثم قال: والله إنّ أقوامًا أدَّوْا هذا لَذَوُو أمانة”!!
أفراح متواصلة
باستحضار منزلة الشعر عند العرب باعتباره وسيلة إعلام واسعة التداول وبالغة التأثير، وآلة دعائية وتحريضية بنّاءة في الخير وفتّاكة في الشر، ولكونه ديوانا للمناقب والمثالب؛ لم يكن غريبا ذاك الكمّ الوافر من عيون القصيد التي نظمها الشعراء في الحروب والوقائع وصفا لها وتحريضا عليها.
ولذا نجد عند المؤرخين اعتناءً واسعا بإيراد أشعار الانتصار في حروب المسلمين الأولى، بدءا من مؤرخ المغازي النبوية ابن هشام الحميري (ت 218هـ/833م) الذي عقد -في كتابه ’السيرة النبوية’- فصولا بعنوان: “ما قيل من الشعر في يوم بدر”، و”ذكر ما قيل من الشعر يوم أحد”، وفي خيبر وفتح مكة.
وقد استمرت أهازيج النصر في معارك الفتوح الإسلامية الأولى مع الشاعريْن الفارسيْن عمرو بن مَعْدِيكَرِب (ت 21هـ/643م) وضِرار بن الأزْوَر (ت نحو 18هـ/640م)؛ حتى إذا وصلنا إلى الدولة العباسية وجدنا أن التقاليد الاحتفالية بالانتصارات تطورت جرّاءَ الثراءِ الثقافي والمادي الذي أحدثه التلاقح الحضاري في مناطق الفتوح.
وصار جلوس الخلفاء للشعراء المهنئين بالفتوح والانتصارات أمرا مألوفا لدى العباسيين، ومن أشهر القصص في ذلك تغني الشاعر أشجع السلمي (ت نحو 195هـ/811م) بأمجاد وانتصارات الخليفة العباسي القوي هارون الرشيد (ت 193هـ/809م)؛ فقد هنأه مثلا بقصيدة عصماء بعد انتصاره على الإمبراطور البيزنطي نقْفُور الأول (ت 195هـ/811م)، يقول منها كما لدى سبط ابن الجوزي (ت 654هـ/1256م) في ’مرآة الزمان‘:
برِقتْ سماؤُك في العدوّ وأمطرتْ ** هامًا لها ظِلُّ السيوفِ غَمَامُ
وعلا عدوَّكَ يا بن عمّ محمد ** رصَدَانِ: ضوءُ الصبح والإظلامُ
فإذا تنبّهَ رُعْتَهُ وإذا غَفَا ** سَلّتْ عليه سيوفَك الأحلامُ!
وقد تصاعد -بعد ذلك- إعجاب الرشيد بأشعار السلمي المخلدة لانتصاراته، فلما فتح مدينة “هرقلة” البيزنطية (= محافظة قونية التركية حالية) جلس للشعراء للتهنئة بالنصر، فسبقهم أشجعُ السلميّ وأنشده من قصيدته التي أوردها الأديب ابن حمدون البغدادي (ت 562هـ/1167م) في ’التذكرة الحمدوية’:
لا زلتَ تنشر أيّاما وتطويها ** تمضي بها لك أيام وتمضيها
مستقبلا زينة الدنيا وبهجتها ** أيّامُها لك نظمٌ في لياليها
أمست هرقلة تهوي من جوانبها ** وناصرُ الدين والإسلام يرميها
كما يخبرنا ابن حمدون أن الخليفة العباسي المعتصم (ت 227هـ/842م) لما فتح “عمُّورية (= تقع أطلالها غربي تركيا اليوم) أكثرَ الشعراءُ ذكر هذا الفتح، وهو من أعظم فتوح الإسلام”!!
إلا أن أذن الزمان الواعية لم تعِ من تلك القصائد الوافرة ما وعته من قصيدة أبي تمام (ت 231هـ/846م) في تخليد هذه الموقعة الهائلة؛ ولذا كانت أشهر وأبرع ما قيل في تخليد المعارك الحاسمة وتسجيل الانتصارات والفتوح المبينة، فهو يقول فيها جاعلا غزوة بدر رمزا للانتصارات المفصلية ورابطا بينها وبين فتح عمّورية الباهر:
السيفُ أصدقُ إنْباءً من الكُتُبِ ** في حَدِّه الحَدُّ بين الجِدِّ واللّعبِ
فتْحُ الفتوحِ تعالَى أن يُحيط به ** نظمٌ من الشّعر أو نثرٌ من الخُطَبِ
فتْحُ تفتّحُ أبوابُ السماء له ** وتبْرُزُ الأرض في أثوابها القُشُبِ (= الجُدد)
يا يوم وقعة عمّوريّة انصرفتْ ** عنكَ المُنَى حُفَّلاً مَعْسُولةَ الحَلَب
أبقيتَ جَدّ بني الإسلام في صُعُد ** والمشركين ودارَ الشِّرْك في صَبَب (= انحدار)
إن كان بين صروف الدهر من رَحِمٍ ** موْصُولة أو ذِمام غير مُنْقَضِب (= مقطوع)
فبين أيامِكَ اللائي نُصرتَ بها ** وبين أيام بدر أقربُ النَّسَبِ!
أنشودة معيارية
ومن مفاخر قصيدة عمورية هذه أنها صارت نموذجا قياسيا يحتذيه الشعراء -حتى عصرنا الحالي- بالمعارضة، كلما طمح أحدهم إلى تمجيد فتح مبين أو تهنئة سلطان أو شعب بانتصار مؤزَّر. ولعل من أوائل من عارضها الشاعر الشامي المُجيد شرف الدين القَيْسَراني (ت 548هـ/1153م).
فالمؤرخ أبو شامة المقدسي يحدثنا أنه على إثر فتْح السلطان نور الدين زنكي (ت 569هـ/1173م) لـ”حصن حارِم” المنيع، بعد هزيمته تحالفا صليبيا كبيرا سنة 544هـ/1149م؛ استقبل زنكي المهنئين بالفتح فـ”أكثر الشعراء مدح نور الدين وتهنئته بهذا الفتح”، وكان مما جاء في قصيدة للقَيْسَراني خلّد فيها هذا الإنجاز:
هذي العزائمُ ما لا تدّعي القُضُبُ ** وذي المكارمُ لا ما قالت الكُتُبُ
وهذه الهِممُ اللاتي متى خَطبتْ ** تعثَّرتْ خلفَها الأشعارُ والخُطَبُ
أغرْتْ سيوفُكَ بالإفرنج راجفةً ** فؤادُ روميةَ الكبرى لها يَجِبُ (= يضطرب)
غضبتَ للدين حتى لم يَفُتْكَ رضا ** وكان دينُ الهدى مرضاتُه الغضبُ
طهّرتَ أرضَ الأعادي من دمائهم ** طهارةً كلُّ سيفٍ عندها جُنُبُ
فانهض إلى المسجد الأقصى بذي لَجَبٍ ** يوليك أقصى المُنَى فالقدسُ مُرْتقبُ!
وقد حقق السلطان صلاح الدين ما دعا إليه هذا الشاعر بلهفة من استنقاذ للمسجد لأقصى والقدس الشريف من براثن الصليبيين، فكان على يديه فتحه العظيم سنة 583هـ/1187م؛ وهو ما أشاد به الشعراء كثيرا على غرار الشاعر المصري هبة الله ابن سَناء الملك (ت 608هـ/1211م) الذي يقول في قصيدة له بهذه المناسبة مخاطبا صلاح الدين:
لستُ أَدري بأَيِّ فتحٍ تُهنَّا ** يا مُنيلَ الإِسلام ما قد تمنَّى؟!
كلُّ فتحٍ يقول إِنِّيَ أَولى ** وهْوَ أَولى لأَنَّه كان أَهْنا!
قد ملكتَ الجِنان قصراً فقَصْرا ** إِذ فتحتَ الشآمَ حِصناً فحِصْنا
لك مدحٌ فوق السموات يُنشا ** ومحلٌّ فوق الأَسِنَّة يُبنى
وتهادَتْ عرائِسُ المُدْنِ تُجْلَى ** وثِمَارُ الأَمْوالِ مِنْهُنَّ تُجْنَى
لا تَخُصُّ الشآمَ فيكَ التَّهاني ** كلُّ صُقْعٍ وكُلُّ قُطْرٍ مُهَنَّا!
وحاشا للأدب والبطولات أن نغلق قوس أشعار الانتصار وأهازيج الفتح البهيج قبل أن نشير إلى “سَيْفيات” أبي الطيب المتنبي (ت 354هـ/965م)، التي خلد فيها معارك الأمير سيف الدولة الحمداني (ت 356هـ/967م) مع الروم البيزنطيين، ووصفها أبلغ الوصف وأبقاه! ومن خوالد القصائد في ذلك ميميته السيارة في انتصار هذا الأمير في معركة “قلعة الحَدَث”، والتي منها كما في ديوانه:
عَلى قَدرِ أَهلِ العَزمِ تَأتي العَزائِمُ ** وَتَأتي عَلى قَدرِ الكِرامِ المَكارِمُ
وَمَن طَلَبَ الفَتحَ الجَليلَ فَإِنَّما ** مَفاتيحُهُ البيضُ الخِفافُ الصَوارِمُ
وَلَستَ مَليكاً هازِماً لِنَظيرِهِ ** وَلَكِنَّكَ التَوحيدُ لِلشِركِ هازِمُ
تَشَرَّفُ عَدنانٌ به لا رَبيعَةٌ ** وَتَفتَخِرُ الدُنيا به لا العَواصِمُ
وفي عهود الأندلس المكلَّلة بتيجان أمجاد الفتوح؛ ازدهر الاحتفال الشعري بالانتصارات ازدهارا كبيرا، نكتفي في الدلالة عليه بالإشارة إلى ما ذكره لنا المَقّري التلمساني (ت 1041هـ/1631م) -في ’نفح الطيب’- عن انتصار سلطان الدولة الموحدية يعقوب المنصور (ت 595هـ/1199م) سنة 591هـ/1195م على ملك قشتالة ألفونسو الثامن (ت 611هـ/1214م) في “وقعة الأَرْك” التاريخية.
وإثر انتصار المنصور هذا جلس للتهنئة بإنجازه العظيم فـ”ورد عليه الشعراء من كل قُطْر يهنئونه، فلم يمكن لكثرتهم أن ينشد كل إنسان قصيدته، بل كان يختص منها بالإنشاد البيتين أو الثلاثة المختارة”!! وربما بالغ المؤرخون في عدد القصائد المهنئة حتى قالوا إنه “انتهت رقاع القصائد وغيرها إلى أن حالت بينه وبين من كان أمامه لكثرتها”!!
وللنثر نصيب
لم تقتصر التهنئات بالنصر والفتوح على الشعر، بل أخذ النثر الفني منها أوفر نصيب؛ فرسائل الفتح وخُطبه إما “نظمٌ من الشّعر أو نثرٌ من الخُطَبِ”، حسبما حدّده ببراعة الشاعر أبو تمام وحسبك به خبيرا بصيرا بهذا الفن الواسع من ضروب الفصاحة والبيان!
وقد عقدت الموسوعات الأدبية الكبرى في تراثنا فصولا ضمَّنتها “ما قيل في التهاني بالفتوحات وهزيمة جيوش الأعداء”؛ كما نجد عند النويري (ت 733هـ/1333م) في ’نهاية الأرب‘. وقبله بقرنين خصّص ابن حمدون -في ’التذكرة الحمدونية’- الفصلَ الأول من “باب التهاني” لأشعار التهنئة بـ”الفتوح”.
وقد اختار هذان الأديبان -وغيرهما من مؤرخي الأدب العربي- غُرَراً من رسائل النثر البديع في التهاني بالنصر والفتوح؛ وكذلك فعل الأديب الأندلسي ابن بسّام الشنتريني (ت 542هـ/1147م) في كتابه ‘الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة (= الأندلس)‘؛ فقد ضمن كتابه طائفة من “رسائل الفتوح” الواقعة في بلاده وجوارها المغربي.
وقد ازدهر هذا اللون الأدبي أيام الدولة الزنكية أيام سلطانها نور الدين محمود زنكي، وخليفتها الأيوبية في عهد مؤسسها صلاح الدين الأيوبي (ت 589هـ/1193م). وقد اشتهر به خصوصا الكاتب القاضي الفاضل البيساني (ت 596هـ/1200م)، ورفيقه في المهنة الوظيفية والمكانة الأدبية الكاتب عماد الدين الأصفهاني (ت 597هـ/1201م).
وقد أكثر منه القاضي الفاضل في تهاني السلطان العظيم صلاح الدين الأيوبي بانتصاراته المتوالية؛ مثل قوله مهنئا بالنصر في أحدها: “ليهن المولى أنّ الله قد أقام به الدين القيّم..، وأنّه قد أسبغ عليه النعمتيْن: الباطنة والظاهرة، وأورثه المُلْكَيْن: مُلْك الدنيا ومُلْك الآخرة”!! طبقا لأبي شامة المقدسي (ت 665هـ/1267م) في كتاب ’الروضتين في أخبار الدولتين النورية والصلاحية’.
كما احتفظ لنا أبو شامة المقدسي بنسخة مكتملة من خطاب البشارة بطائفة من الانتصارات تحققت لصلاح الدين على الصليبيين، وقد بعث به سنة 586هـ/1190م -ضمن أدب البشارة الدبلوماسية بالانتصارات- إلى نظيره سلطان المغرب المنصور الموحدي مستنجدا إياه للمساعدة في فتح مدينة عكّا بأسطول الموحدين البحري الضخم والضارب، وكانت حدود الدولة الموحدية حينها تمتد من الأندلس وشواطئ الأطلسي غربا حتى تلامس شرقا مصر الأيوبية من جهة ليبيا اليوم.
فكان مما جاء في خطاب الاستنجاد ذاك التهنئة “بفتح البيت المقدس وسكون الإسلام منه إلى المقيل والمعرس، وما فتح الله للإسلام من الثغور وما شرح لأهله من الصدور وما أنزله عليهم من النور..، ليتمّ الله ما بدأ من فضله وليفتح بقية ما لم ينقطع بتقطع يد الشرك من حبله، والمُفْتَتَحُ.. من الشام مدنٌ وأمصار وبلاد كبار وصغار، وثغور وقلاع كانت للشرك معاقل وللإسلام معاقر، ولبني الكفر مصانع ولبني الإسلام مصارع، والباقي بيد الكفر منها ثغرَا طرابلس وصور ومدينة أنطاكية؛ يسر الله أمرها وفك من يد الكفر أسرها”!!
أطوار جديدة
بعد اندفاعة الفتوح التي رأيناها في أيام الخلفاء الراشدين، وما تلاها من انتصارات أيام الأمويين وصدْرَ دولة العباسيين؛ تجزّأ العالم الإسلامي بتنازع حكامه مما أدى إلى اقتسامه، فاستطاع الصليبيون -بدءا من سنة 490هـ/1097م- أن يحتلوا مناطق واسعة من ساحل الشام وصولا إلى سقوط بيت المقدس في أيديهم سنة 492هـ/1099م.
وكانت مدة استلاء الصليبيين على القدس واستباحتهم الشام غمًّا وهمًّا في نفوس المسلمين، فكانوا يحتفلون بكل بارقة انتصار يحرزونها عليهم مظهرين البهجة بنصرهم وانكسار أعدائهم.
ومن أوائل تلك الانتصارات أن السلطان نور الدين زنكي أغار على الصليبيين سنة 552هـ/1157م -في إحدى معاركه الخاطفة معهم- قرب طبرية بفلسطين، فـ”وقع القتل والأسر في الكفرة..، وفرح المسلمون بهذا النصر العزيز، وجيء بالرؤوس والأسرى إلى دمشق، والخيالة على الجمال والمقدَّمون (= القادة) على الخيل بالزَّرْدِيات (= الدروع) والخُوذ (= جمع خوذة)، وفي أيديهم أعلامهم. وضَجّ الخلق بالدعاء لنور الدين”؛ وفقا للذهبي في ‘تاريخ الإسلام‘.
ومع الانتصارات الجزئية المتقطعة؛ استمر غمُّ الاحتلال الصليبي مخيما على المسلمين حتى تحقق انتصار حطّين -الواقعة شمالي فلسطين- على الصليبيين يوم السبت 25 ربيع الثاني 583هـ/4 يوليو 1187م؛ فأعادت هذه الوقعة إلى الشام بهجة ذكريات فتوح الصحابة في ربوعه، كما يفيدنا الإمام الذهبي (ت 748هـ/1347م) بقوله -في ’تاريخ الإسلام’- معلقا على هذا الحدث ومبينا مكانته العظيمة: “ولا عهد للإسلام بالشام بمثل هذه الوقعة من زمن الصحابة..، وهي من أعظم [وقائع] الفتح في الإسلام”!!
وقبل موقعة حطين بأعوام كان صلاح الدين الأيوبي يبث البشارات والأمل في العالم الإسلامي، ويستنهض همم شعوبه بأخبار فتوحه وانتصاراته. ومن ذلك ما يخبرنا به الذهبي -في ’تاريخ الإسلام’- من أنه في صفر سنة 575هـ/1179م كانت “وقعة مرج العيون” التي انتصر فيها المسلمون على الصليبيين، فـ”وصل إلى بغداد ثلاثة عشر نجّابا (= رُسُل البريد الحكومي)، نفّذهم (= أرسلهم) صلاح الدين يبشرون بكَسْرة الفرنج، فضُربت الطبول..، وأخبروا أن صلاح الدين حارب الفرنج ونُصر عليهم وأسَرَ أعيانهم”.
ومن المظاهر البديعة للاحتفالات البحرية بالانتصارات أيام حروب المصريين مع الصليبيين في حملتهم السابعة ما وقع بعد “موقعة المنصورة” عام 648هـ/1250م التي هُزم فيه الصليبيون، وكانت “يوما لم يشاهد المسلمون ولا سمعوا بمثله”!! طبقا للذهبي في ’تاريخ الإسلام’.
وقد غنموا “ما لا يوصف واستغنى خلق، وأُنزِل الفرنسيس (= ملك فرنسا لويس التاسع ت 669هـ/1270م) في حرّاقة (= سفينة حربية)، وأحدقت به مراكب المسلمين تضرب فيها الكوسات (= آلات نحاسية تقرع قرعا خاصا) والطبول، وفي البر الشرقي أطْلاب (= كتائب) العساكر سائرة منصورة، والبَرّ الغربي فيه العربان والعوام في لهو وسرور بهذا الفتح العظيم، والأسرى تقاد في الحبال”.
وافد مخيف
وكما كانت حطين بداية النهاية للاحتلال الصليبي في الشام؛ فإن معركة عين جالوت -التي وقعت بين بيسان ونابلس بفلسطين- كانت المحطة الفاصلة في وقف المد الجارف للمغول للهيمنة على المنطقة، بعد إسقاطهم عاصمة الخلافة العباسية بغداد سنة 656هـ/1258م وإخضاعهم مركز الشام دمشق سنة 658هـ/1260م.
وقد استمر زحف المغول مظفَّرا وهم “عازمون على الدخول إلى ديار مصر بعد تمهيد ملكهم بالشام”؛ حسب ابن كثير (ت 774هـ/1372م) -في ‘البداية والنهاية‘- حتى واجههم المسلمون في عين جالوت يوم 25 رمضان 658هـ/3 سبتمبر 1260م، “فاقتتلوا قتالا عظيما، فكانت النصرة ولله الحمد للإسلام وأهله، فهزمهم المسلمون هزيمة هائلة وقُتِل أمير المغول”.
ويرسم لنا ابن كثير بقلمه صورة احتفاء المسلمين بانتصارهم المدوي هذا بقيادة أمراء دولة المماليك، الذين اكتسبوا شرعيتهم السياسية من بلائهم الكبير في هذه المعركة الفاصلة؛ فيقول إنه “جاءت بذلك البشارة، ولله الحمد على جبْره إياهم بلطفه، فجاوبها دَقُّ البشائر (= طبول تقرع للأخبار السارّة) من القلعة وفرح المؤمنون بنصر الله فرحا شديدا، وأيَّد الله الإسلام وأهله تأييدا”!!
ومن أبرز مظاهر الاحتفالات الرسمية والشعبية بالنصر والفتح -في تاريخنا الحضاري- تزيينُ المدن شوارعَ وبيوتاً إظهارا للفرح والبهجة، وخاصة في الحقبة التي شهدت دوران رحى الصراع بين المسلمين والأوروبيين، لاسيما خلال الحروب الصليبية في الشام ومصر (490هـ-690هـ/1097-1291م).
وربما كانت عادة تزيين المدن إثر الانتصارات إحدى عوائد الفاطميين الاحتفالية التي أكثروا من استحداثها حين نقلوا مركز دولتهم من تونس إلى مصر، ومن نماذجهم المبكرة في ذلك ما أورده المقريزي -في ’اتّعاظ الحنفا’- قائلا إنه في جمادى الأولى سنة 384هـ/995م “وصل غزاة البحر إلى القاهرة بمئة أسير، فزُينت القاهرة ومصر أعظم زينة وركب [الخليفة] العزيز (بن المُعِزّ ت 386هـ/997م) وابنه منصور (= الحاكم بأمر الله ت 411هـ/1021م) وشقَّا الشوارع..؛ فكان يوما عظيما لم يُرَ بمصر مثله، وقال فيه الشعراء” قصائدهم!!
ولعل من أوائل نماذج تزيين المدن اللاحقة في حقبة الحروب الصليبية ما ذكره ابن كثير في ’البداية والنهاية’ ضمن أحداث سنة 499هـ/1106م، من أن قائد جيش دمشق السلجوقي أبو منصور طُغْتِكِين البُوري (ت 522هـ/1128م) “كَسَر.. الفرنجَ وعاد مؤيَّدا منصورا إلى دمشق، وزُينت البلد زينة عجيبة مليحة سرورا بكسره الفرنج”؛ فقد كان هذا أول انتصار ذي بال -وإن لم يكن حاسما- على الصليبيين في المنطقة.
تقليد ذائع
ثم شاع تقليد تزيين المدن في الاحتفال بانتصارات المعارك، وترسَّخ أكثر في أيام حكم نور الدين زنكي ووريثه في مقاومة الصليبيين صلاح الدين الأيوبي. ولدى الذهبي وابن كثير أن دمشق في أيام مصاولاتها مع الصليبيين كانت تتزين عند كل نصر وفتح، وربما كان الاستثناء في ذلك تلك اللحظات النحسة التي تحالف فيها أمراء مسلمون بائسون مع الغزاة الصليبيين ضد إخوانهم المسلمين!!
ومن ذلك أنه في سنة 642هـ/1244م تحالف ملوك دمشق وحمص والكرك الأيوبيون مع الصليبيين ضد ابن عمهم سلطان مصر نجم الدين أيوب بن السلطان الكامل الأيوبي (ت 647هـ/1249م)، فساروا بقيادة المنصور إبراهيم بن أسد الدين شِيرْكُوه الأيوبي (ت 644هـ/1246م) “تحت أعلام الفرنج وعلى رؤوسهم الصُّلْبان”! حسب تعبير الإمام سبط ابن الجوزي في ‘مرآة الزمان‘.
وفي مثل هذه اللحظة الفاصلة والغريبة؛ كان لغزّة هاشم موقفها الشجاع والمدهش كعادتها في محطات كثيرة من تاريخنا، لاسيما مع الغزاة حلفائهم الداخليين من الطابور الخامس. فقد دارت بالقرب من مدينة غزة رحى هذه الوقعة التي عُرفت لدى الدارسين بـ”معركة غزة”، وسماها بعضهم “حطين الثانية” لما كان لها من أثر كبير في حماية غزة لمصر ومنع سقوطها في أيدي الصليبيين، بل وتوحيد الشام معها مجددا تمهيدا للنصر الكاسح عليهم في “معركة المنصورة” بعد خمس سنوات فقط.
ولندع الإمام الذهبي يحدثنا عن هذه الوقعة الفاصلة وتداعياتها الهائلة والبهيجة؛ وذلك بقوله في ’تاريخ الإسلام’: “فوقع المصافُّ (= المواجهة) بظاهر غزة، فانكسر المنصور [إبراهيم] شَرَّ كَسرة واسْتَحَرَّ (= اشتدّ) القتلُ بالفرنج..، وأخذَتْ سيوفُ المسلمين الفرنجَ فأفنوهم قتلا وأسراً ولم يفلت منهم إلا الشارد..، ووصلت عساكر دمشق.. [المتحالفة مع الفرنج] في أسوأ حال؛ وأما بمصر فزُيِّنت زينةً لم تُزَّين مثلها، وضُرِبت البشائر، ودخلت أسارى الفرنج والأمراء، وكان يوما مشهودا بالقاهرة”!!
وفي سياق الأحداث نفسها؛ ينبئنا ابن الوردي (ت 749هـ/1348م) -في تاريخه- أنه قد “زُينت القاهرة ومصر لفتح بعلبك” على الجبهة الشامية الشمالية الغربية!! وقد تستمر زينة المدن واحتفالاتها أسبوعا كاملا، كما حصل عندما أخذ المسلمون سنة 499هـ/1106م حصناً بناه الصليبيون بين طبرية والبَثَنِيّة “وزينت دمشق أسبوعا”؛ وفقا للذهبي في ‘تاريخ الإسلام‘.
ومن زينة دمشق لمدة أسبوع ما وقع سنة 691هـ/1292م حين سار الوزير المملوكي شمس الدين ابن السَّلَعُوسي (ت 693هـ/1294م) “إلى قلعة الروم فافتتحها بالسيف قهرا..، وجاءت البشارة بذلك إلى دمشق وزُينت البلد سبعة أيام، وبارك الله لجيش المسلمين في سعيهم..، وكان الفتح بعد حصار عظيم جدا مدة ثلاثين يوما”!
مؤازرة واسعة
كما كانت -أحيانا عديدة- تتزين أقطار الإسلام الأخرى متجاوبةً مع نصر في أي قُطْر منها لاسيما في الأحداث الكبرى؛ فالأمير الأيوبي المؤرخ عماد الدين أبو الفداء (ت 732هـ/1332م) يخبرنا -في ’المختصَر في تاريخ البشر’- عن موقعة حمص سنة 680هـ/1281م، فيقول إنه كان فيها “المصافُّ العظيم بين المسلمين وبين التتر (= التتار)..، فنصر الله تعالى فيه المسلمين بعد ما كانوا قد أيقنوا بالبوار (= الهلاك)”!!
ويصف ابن تَغْرِي بَرْدِي الظاهري (ت 874هـ/1469م) -في ‘النجوم الزاهرة‘- هذه المعركة بما يوحي بأنها كانت أعظم من سابقتها عين جالوت؛ فيقول إنها “كانت وقعة عظيمة لم يُشهَد مثلها في هذه الأزمان ولا من سنين كثيرة”!! ثم إن قائد الجيوش الإسلامية المنتصرة السلطان المملوكي المنصور قلاوون الصالحي (ت 689هـ/1290م) “كتب بهذا الفتح العظيم إلى سائر البلاد الاسلامية فزُيِّنتْ لذلك”!!
ويورد محمد بن عمر المظفَّر الأيوبي (ت 617هـ/1217م) -في ’مضمار الحقائق وسر الخلائق’- العديد من مظاهر الاحتفالات الرسمية والشعبية في دولة ذويه الأيوبيين؛ فيقول مثلا إنه “لما فتح السُّلْطَان [صلاح الدين] مَيّافارِقين (سنة 581هـ/1185م) واستولى على ممالكها أرسل نجَّابين (= رُسُل البريد الحكومي) بكتابه إِلَى وَالِدي الْملك المظفَّر (= عمر بن شاهِنْشاه ت 587هـ/1191م) -وَكَانَ حِينَئِذٍ صَاحبَ مصر والمستولي على ممالكها- يخبرنا بِمَا من الله تَعَالَى عَلَيْهِ من فتح ميافارِقين، فشرعنا حِينَئِذٍ بتزيين البلدين: الْقَاهِرَة ومصر، وَأَرْسَلْنَا رُسُلنَا إِلَى جَمِيع الْبِلَاد المصرية بذلك، وضُربت البشائر فِي جَمِيع الْأَمَاكِن”!!
ومن طرائف التضامن مع الحلفاء قديما ما يشبه صنيع الدول اليوم حين تتعاطف إحداها مع الأخرى، فتعمد إلى تزيين الأبراج والأبنية الشاهقة فيها بأعلام الدولة المتعاطَف معها. ومن ذلك أن ملك حماة تقي الدين المظفّر محمود بن المنصور الأيوبي (ت 642هـ/1244م) كان “يرجو ظهور (= انتصار) الصالح نجم الدين لينتقم به من أعدائه، وكان محبا فيه حريصا بكل ممكن على قيام ملكه، فلما تملك [الصالحُ] الديارَ المصرية خطب له بحماة، وحصل عنده (= تقي الدين المظفّر) من السرور شيء عظيم، وزُينت قلعة حماة زينةً عظيمة حتى عمت الزينة جميع أبراجها، ونثرت الدنانير والدراهم وقت الخطبة”؛ كما في ’تاريخ الإسلام’ للذهبي.
وقريب من تزيين الأبراج عمل مجسمات للقلاع وتسيير مواكبها في الشوارع ابتهاجا بالنصر العسكري على الأعداء، وهو ما قام به السلطان المملوكي المنصور قلاوون الصالحي؛ فإنه لما انتصر على التتار في معركة حمص الهائلة -المتقدمة الذكْر- أمَرَ فـ”كُتبت البشائر بهذا النصر العظيم إلى سائر البلاد، وحصل للناس السرور الذي لا مزيد عليه، وعُمِلت القلاعُ وزُينت المدن”!!
تصفية صليبية
وتكرر منه ذلك أيضا بعد سنوات حين فتَح طرابلس الشام وافتكّها من الصليبيين سنة 688هـ/1289م بعد سيطرتهم عليها سنة 185/804م؛ إذْ “كُتبت البشائر إلى الآفاق بهذا النصر العظيم، ودُقّت البشائر والتهاني، وزُينت المدن وعُملت القلاع في الشوارع، وسُرّ الناس بهذا النصر غاية السّرور، وأنشأ.. القاضي تاج الدين ابن الأثير (ت 691هـ/1292م) كتابا إلى صاحب اليمن بأمر الملك المنصور يعرّفه بهذا الفتح العظيم وبالبشارة به”، طبقا لابن تَغْرِي بَرْدِي في ’النجوم الزاهرة‘.
وفي سنة 690هـ/1261م تمّت استعادة عكّا الحصينة من الصليبيين على يد السلطان الأشرف خليل بن قلاوون (ت 691هـ/1292م)، “فاستوْسق (= اجتمع) الساحل للمسلمين وتنظَّف من الكافرين..، ثم إن السلطان الملك الأشرف خليل بن المنصور قلاوون سار من عكا قاصدا دمشق في أبهة الملك وحرمة وافرة، وفي صحبته.. الجيوش المنصورة”!!
لكن قبل عودته إليها “جاءت البطاقة (= رسالة بخبر النصر محمولة بالحمام الزاجل) إلى دمشق بذلك [النصر العظيم]، ففرح المسلمون ودُقَّت البشائر في سائر الحصون، وزُينت البلاد ليتنزه فيها الناظرون والمتفرجون”!! وفقا لابن كثير -في ‘البداية والنهاية‘- الذي يصف لنا الدعم المعنوي الكبير الذي قدمه الناس لقيادتهم وجيوشهم، حتى إنه “اجتمع الناس بالجامع [الأموي] لقراءة ‘صحيح البخاري‘..، وحضر القضاة والفضلاء والأعيان”.
وكان من القصائد المخلِّدة لهذا الفتح المبين قصيدة شهاب الدين محمود بن سلمان الحلبي (ت 725هـ/1325م)، التي يقول فيها مستفتحا بتثمين اللُّحْمة بين أعراق الأمة التي حققت هذا الإنجاز الخالد:
الحمد لله ذلَّتْ دولةُ الصُّــــــلُبِ ** وعَزَّ بالتُّركِ دينُ المصطفى العربي
يا يومَ عكّا لقد أنسيتَ ما سبقتْ ** به الفتـــــوحُ وما قد خُطَّ في الكُتُبِ!
ولعل قصيدة الشهاب الحلبي هذه هي التي ألهمت -بحراً وقافيةً وفكرةً وغرضاً- أميرَ الشعراء أحمد شوقي (ت 1351هـ/1932م) قصيدتَه الذائعة، والتي خاطب فيها “الغازي” مصطفى كمال أتاتورك (ت 1358هـ/1938م) مشيدا بانتصاراته على الأوروبيين قبل انقلابه على الخلافة العثمانية، وفيها يقول:
الله أكبر! كم في الفتح من عَجَبِ ** يا خالدَ التُّركِ جدِّدْ خالدَ العربِ
تحية أيها الغــــــــازي وتهـــنئة ** بآية الفـــتح تبقى آية الحِــــقَبِ!!
أيام كرنفالية
ومن الاحتفالات المهيبة بالنصر التي احتفظت لنا كتب التاريخ بتفاصيلها؛ ما قام به السلطان المملوكي سيف الدين برِسْباي (ت 841هـ/1437م) بعد فتح قبرص سنة 829هـ/1426م، فقد كان هذا السلطان مهتما بفتح قبرص اهتماما كبيرا لما كانت تمثله من معقل إستراتيجي للصليبيين يهددون منه بلاد الإسلام، وحين علم بحصوله “دقّت البشائر بالقلعة (= مقر السلطان بالقاهرة) لهذا الفتح ثلاثة أيام”!! وفقا لابن تَغْرِي بَرْدِي في ‘النجوم الزاهرة‘.
وينقل لنا هذا المؤرخ المولع بالتفاصيل أجواء تلقي السلطان لهذا الفتح العظيم الذي كان أحد شهوده؛ فيقول إنه لما بلغه الخبر “كاد أن يطير فرحا، ولقد رأيته وهو يبكي من شدّة الفرح، وبكى الناس لبكائه، وصار يكثر من الحمد والشكر لله”! ثم أمر السلطان بدق “البشائر بقلعة الجبل وبسائر مدن الإسلام لما بلغهم ذلك، وارتجّت القاهرة وماجت الناس من كثرة السرور الذي هجم عليهم، وقرئ الكتاب الوارد بهذا النصر على الناس بالمدرسة الأشرفية.. بالقاهرة، حتى سمعه كلّ من قصد سماعه، وقالت الشعراء في هذا الفتح عدّة قصائد”!!
ولم يكتف السلطان المملوكي باحتفالاته عند سماع الخبر؛ فقد ادَّخر لقادة الفتح وجنوده -الذين “أراحوا أبدانهم سبعة أيام” في قبرص “وهم يقيمون فيها شعائر الإسلام من الأذان والصلاة والتسبيح”- ضروبا أخرى من الاحتفالات، اجتمع لرؤيتها “خلائق لا يعلم عِدّتَهم إلا الله تعالى، حتى أتت أهل القرى والبلدان من الأرياف للفرجة”!!
وتضمن هذا الاحتفالُ المهيبُ مسيرةً حافلة جابت شوارع القاهرة، واحتشد الناس والنساء في شوارعها لرؤية الغزاة وغنائمهم، فقد “ركبت الأمراء من الميدان ومعهم غالب الغزاة..، وشقُّوا القاهرة إلى باب زويلة..، والخلق في طول هذه المواضع تزدحم بحيث إن الرجل لا يسمع كلام رفيقه، من كثرة زغاريد النّساء -التي صُفّت على حوانيت القاهرة بالشوارع من غير أن يندبهن أحد لذلك- والإعلان بالتكبير والتهليل، ومن عِظَم التهاني! هذا مع تخليق (= تطييب) الزعفران والزينة المخترعة بسائر شوارع القاهرة حتى في الأزقة”!!
ولم تكن هذه المسيرة العسكرية الحاشدة عشوائية فقد كان الغزاة منظمين بدقة في استعراضهم، بحيث إن “ترتيب مشيهم [كان] يذهب العقل” بجماله وتناسقه؛ فقد “قدّموا أوّلا الفرسان من الغزاة أمام الجميع، ومن خلف الفرسان طوائف الرّجّالة (= المشاة) من المطّوّعة (= المتطوعون للقتال)..، ومن خلف هؤلاء الجميع الغنائمُ محمولة على رؤوس الحمّالين، وعلى ظهور الجمال والخيول والبغال والحمير، والتي كانت على الرؤوس فيها تاج الملك [الفرنجي] وأعلامه منكَّسة، وخيله تقاد من وراء الغنائم، ثم من بعدهم الأسرى من رجال الفرنج، ثم من بعدهم السبي من النساء والصّغار”!!
ويضيف المؤرخ المملوكي أنه من وراء جميع الأصناف المتقدمة وُضع “جينوس (ت 835هـ/1432م) ملك قبرس (= قبرص) وهو راكب على بغلٍ بقيدِ حديدٍ” في غاية الإذلال والمهانة!! ثم ساروا “على هذه الصِّفة حتى طلعوا إلى القلعة (= مقر السلطان بالقاهرة)؛ فأنزِل جينوس عن البغل وكُشف رأسه..، وقد صُفّت العساكر الإسلامية من باب المدرّج إلى داخل الحوش السلطاني”!!
فتح الفتوح
ويضيف ابنُ تَغْرِي بَرْدِي أنه لما انتهت المسيرة إلى القلعة “أمر السلطان بإحضار متملّك قبرس فتقدّم ومشى وهو بقيوده ورأسه مكشوفة، وبعد أن مشى خطوات أمر فقبّل الأرض، ثم قام، ثم قبّل الأرض ثانيا بعد خطوات، وأخذ يعفّر وجهه في التّراب، ثم قام فلم يتمالك نفسه -وقد أذهله ما رأى من هيبة الملك وعزّ الإسلام- فسقط ثانيا مغشيا عليه، ثم أفاق من غشوته وقبّل الأرض، وأوقف ساعة بالقرب من السلطان بحيث إنه يتحقّق شكله..، هذا مع ما الناس فيه من التّهليل والتّكبير بزُقاقات القلعة، وأطباق (= ثُكنات) المماليك السلطانية وغيرها”!!
ويختم مؤرخ المماليك مشاهد هذه الاحتفالات وآثارها التي تواصلت مدة طويلة؛ فيقول: “كان هذا اليوم يوما عظيما جليلا لم يقع مثله في سالف الأعصار، أعزّ الله تعالى فيه دين الإسلام وأيّده وخذل فيه الكفر وبدّده!! ثم انفضّ الموكب ونزل كلّ واحد إلى داره، وقد كثرت التهاني بحارات القاهرة وظواهرها لقدوم المجاهدين، حتى إن الرّجل كان لا يجتاز بدرب ولا حارة إلا وَجد فيها التخليقَ (= الطيب) بالزّعفران والتهاني، ثم أمر السلطان بهدم الزينة فهُدمت، وكان لها مدّة طويلة”!!
وفي عهد الدولة العثمانية التي آل إليها الميراث الجهادي العظيم والمتراكم منذ الدولة الزنكية والأيوبية وانتهاء بالمملوكية؛ كثرت الفتوح وتعددت الانتصارات ومعها تنوعت الاحتفالات وتعاظم نطاقها. وهنا نختم تطوافنا التاريخي هذا بالإشارة إلى الاحتفالات الإسلامية بفتح القسطنطينية/إسطنبول، ذلك الفتح الذي بشّر به النبي ﷺ فجاء في الحديث الذي رواه الإمام أحمد (ت 241هـ/855م) -في ‘المُسْنَد‘- والحاكم (ت 405هـ/1015م) في ‘المُستدرَك‘: «لتُفتحَنَّ القسطنطينيةُ؛ فلنعم الأمير أميرها ولنعم الجيش ذلك الجيش»!! فكان بحق خاتمة الفتوح العظيمة في تاريخ الإسلام.
وقد عمّت العالمَ الإسلامي احتفالات عارمة بهذا الفتح المبين، وترددت أصداؤه البهيجة في كل قُطر وإقليم؛ فكان في ذلك تجسيد لمبدأ الوحدة الشعورية للأمة الإسلامية مهما باعدت بينها الديار والأقطار، وبسببه تجدد بين سلاطينها تقليد دبلوماسي عريق هو أدب رسائل البشارة بالفتوح والتهنئة السياسية بالانتصارات.
فحسبما أورده المؤرخ التركي يلماز أوزتونا (ت 1434هـ/2012م) -في كتابه ‘تاريخ الدولة العثمانية‘- فإنه “كان سرور العالم الإسلامي بالفتح كبيرا؛ [فقد] أنيرت القاهرة أياما طويلة وأقيمت فيها احتفالات كبيرة..، [كما] أرسل السلطان المملوكي (= الأشرف إينال العلائي ت 865هـ/1461م) وسلطان الهند الجنوبية البَهْمَني (= علاء الدين أحمد شاه الثاني البهمني ت 862هـ/1458م) وحكام مسلمون عديدون سفراءَ خاصين، لتهنئة السلطان محمد الفاتح (ت 886هـ/1481م)” بهذا الفتح العظيم!!
وفي تفاصيل احتفالات مصر المملوكية -التي ألمح إليها المؤرخ يلماز- بهذا الانتصار التاريخي الذي يمثل “نهاية القرون الوسطى وبداية القرون الحديثة”؛ نورد هنا طرفا من شهادة مؤرخ شاهد عليها هو ابن تَغْرِي بَرْدِي، الذي يفيدنا بأنه قد “سُرّ السلطان والناس قاطبة بهذا الفتح العظيم سرورا زائدا، ودقّت البشائر لذلك، وزُيّنت القاهرة بسبب ذلك أياما…، وقد احتفلت الناس بزينة الحوانيت والأماكن، وأمعنوا في ذلك إلى الغاية، وعمل السلطان الخدمة (= حفل الاستقبال) بالحوش السلطاني من قلعة الجبل”!!
المصدر : الجزيرة