عندما وصل الشاب المغربي علي إلى لووك، المدينة البلجيكية الباردة التي كان يغطي سماءها دخان مناجم الفحم القريبة، كانت نقوده قد نفدت تقريبا، بعد أن دفع مبلغا كبيرا لسيارة الأجرة التي أقلّته من محطة القطار لتوصله إلى “القصاب محمد”، ابن بلده الذي سبقه للعمل في بلجيكا.
لن يمكث علي طويلا في بلجيكا، بل سيأخذه طموحه الكبير إلى هولندا التي سيصل إليها عام 1964، وقبل سنوات من بداية الهجرة المنظمة لعمال مغاربة إلى البلد الأوروبي، التي أشرفت عليها الحكومة الهولندية، للعمل في المصانع، وفي مشاريع إعادة بناء هولندا التي دمرت الحرب العالمية الثانية كثيرا من مدنها.
يروي حفيد علي، الكاتب الهولندي خالد موريغ، قصص جده الراحل التي صدرت حديثا في كتاب باللغة الهولندية بعنوان “الضيف من جبال الريف”.
وكان الكاتب الذي يبلغ من العمر 39 عاما قد سجل على مدار سنوات ذكريات الجد على شرائط صوتية، واحتفظ بها حتى وفاة الجد قبل أعوام، ليعود إليها ويستلهم منها كتابه الحميمي الجديد.
الريف المغربي
لا يبدأ الكتاب بوصول علي إلى القارة الأوروبية، بل يصف في البدء الحياة في منطقة الجبال الريفية في المغرب، التي كانت تطبعها القسوة وقلة الموارد، فالقرية التي ولد فيها علي لم تكن فيها مدرسة، وفرص العمل شحيحة جدا، وحلم كثير من شباب المنطقة هو الهجرة إلى المدن والبلدان القريبة أو البعيدة للعمل هناك لمساعدة عائلاتهم في القرية.
لم يرض علي بالظروف المحيطة، وبدأ بعمر مبكر كثيرا التفكير في الخروج من القرية، وسيسافر إلى الجزائر القريبة من أجل العمل، قبل أن يتم إبعاده منها، وسيخدم في نهاية عقد الخمسينيات من القرن الماضي في الجيش الإسباني الذي كان يوظف جنودا من المغرب حينئذ.
وعلى الرغم من بلوغه 28 وزواجه وولادة طفلين له في قريته، فإن علي يقرر أن يبدأ رحلة جديدة للحصول على العمل ستأخذه هذه المرة إلى قلب أوروبا وستنتهي به في هولندا التي استقر بها وجلب عائلته إليها.
الكاتب خالد موريغ حاصل على الدكتوراه في اللغة العامية الأمازيغية والعربية للهولنديين من أصل مغربي وترجم كتبا عن الثقافة والتاريخ المغربي
أعمال شاقة واستغلال
لم تكن أوروبا في مطلع الستينيات من القرن الماضي تشبه أوروبا المعاصرة اليوم، إذ كانت حينئذ في طور التعافي من جروح الحرب العالمية الثانية، ولم تكن فرص العمل متاحة للجميع، والعوز كان ينهش الطبقات الفقيرة فيها.
يصف الكتاب تنقل علي بين الأعمال اليدوية الشاقة التي قام بها في سنوات حياته الأولى في أوروبا، فهو مثل الكثير من المهاجرين المغاربة لم يتحملوا قسوة العمل في مناجم الفحم التي كانت منتشرة في أوروبا في ذلك الحين، وتركوها للبحث عن أعمال أخرى.
ولم تكن ظروف العمل وحدها ما كان يرهق عمالًا مثل علي، ذلك أنهم عانوا الاستغلال، إذ انتهز بعض أصحاب المصانع وقتئذ عدم معرفتهم باللغات الأوروبية، ودفعوا لهم أجورا هي أقل من أجور زملائهم من أبناء البلد، أو الأوروبيين المهاجرين من جنوب أوروبا، فمن من المعروف أن الدول الأوروبية الغنية شهدت هجرات واسعة في بداية عقد الستينيات من دول أوروبية أقل غنى مثل إيطاليا وإسبانيا.
ويصف الكتاب حياة العمال اليومية في ذلك الزمان، وكيف عانوا الوحدة والغربة الشديدة، فأغلبهم لم يتكلموا اللغات المحلية في أوروبا، ولم تكن وسائط الاتصال متاحة مثلما هي اليوم، والأوطان الأصلية كانت بعيدة كثيرا، ويتطلب الوصول إليها دفع مبالغ كبيرة.
ستتحسن ظروف علي تدريجيا، وسيكسب حب رؤسائه في العمل، وسيساعده أحد المعامل التي عمل فيها على تسهيل دعوة زوجته وأولاده للعيش في هولندا، وهذا كان أمرا غير شائع كثيرا في هولندا، إذ كان ينتظر من العمال المهاجرين العودة إلى بلادهم بعد سنوات من عملهم، حتى إن بعض المصانع كانت تحجز ثمن تذكرة العودة من رواتب العمال، من أجل دفعها في حال لم يتمكن أحدهم من دفع الأجرة بنفسه.
قراءة للظروف التاريخية
يضع الكاتب خالد موريغ قصة جده الخاصة في سياقات تاريخية واجتماعية، فهو يستعرض ويستعيد أحداثا تاريخية في المغرب وإسبانيا وبلجيكا وهولندا، فيتذكر مثلا ظروف العمل في المصانع العملاقة التي كانت قائمة في هولندا، واختفت تقريبا اليوم.
وكذلك يستعيد علاقة الدولة الهولندية بالمهاجرين، التي تستحوذ منذ سنوات على اهتمام كبير من السياسيين الهولنديين.
وعلى الرغم من أن علي قد سافر بجهده الخاص إلى هولندا، فإنه سيكون جزءا من الجالية المغربية في الستينيات، التي وصمتها أحيانا الأحكام النمطية، ولم يكن من استثمار في تحسين ظروف حياتها في ذلك الوقت.
تعب الآباء وجدل الأبناء
وتوجه مقدمة كتاب “الضيف من جبال الريف” الانتباه إلى ضرورة فهم التاريخ وقراءته مجددا لغرض فهم الحاضر، وبالخصوص في قضية أبناء المهاجرين المغاربة وأحفادهم في هولندا، الذين يشكلون اليوم إحدى الجاليات الضخمة في البلد الأوروبي، ومصدرا دائما للجدل في السنوات الـ20 الأخيرة.
ويستغرب الكاتب ندرة الكتب والدراسات التي تركز على قصص المهاجرين المغاربة الأوائل إلى هولندا، وأهمية هذه الدراسات لفهم وتثمين الدور الذي اضطلع به هؤلاء المغاربة في النهضة الاقتصادية التي تشهدها هولندا اليوم، وكذلك لإعادة الاعتبار لشخصية مثل علي، الشاب الذي عمل بجهد حياته كلها، وأنشأ أسرة كبيرة في هولندا.
ويعمل خالد موريغ أستاذا للسانيات في جامعة ليدن بهولندا، وحاصل على الدكتوراه في اللغة العامية الأمازيغية والعربية للهولنديين من أصل مغربي، كذلك ألف وأسهم في تأليف كتب عن قواعد اللغة الأمازيغية.