تعد مدينة الموصل (شمالي العراق) من أولى المدن التي شملها الفتح الإسلامي بعد البعثة النبوية، وعلى عادة الفاتحين كان المسجد أول ما يشرع المسلمون في بنائه لأداء الصلوات، حيث تبنى حوله دار الإمارة والأسواق والبيوت.
المسجد الجامع في الموصل كان أول مسجد بالمدينة بعد الفتح الإسلامي، وعلى مدى 14 قرنا تعرض هذا الجامع للعديد من عمليات التوسعة والهدم والأضرار الناتجة عن الحروب والفوضى وغيرها.
بناؤه وموقعه
يقول الكاتب الموصلي سعيد الديوه جي في كتابه “جوامع الموصل في مختلف العصور” إن أول مسجد بني في الموصل هو المسجد الجامع الذي بناه عقبة بن فرقد السلمي سنة 16 للهجرة 638 للميلاد، حيث بنيت إلى جانبه دار الإمارة في المدينة.
ويقع المسجد في الجانب الغربي من الموصل القديمة، وتحديدا بمنطقة القليعات التي تضم قلعة باشطابيا الشهيرة في المدينة، ويبعد عن نهر دجلة قرابة 350 مترا.
ويتابع الديوه جي في كتابه أنه بعد أن ولى الخليفة الراشد عمر بن الخطاب ولاية الموصل لهرثمة بن عرفجة البارقي عام 22 للهجرة عمد الأخير لتوسيع المسجد الجامع وبنى حوله المساكن والأسواق، وذلك من أجل تحويل المدينة لأحد أمصار الدولة الإسلامية.
الجامع الأموي
ويضيف الديوه جي أن الموصل شهدت بعد ذلك توسعا سكانيا كبيرا، ونتيجة لذلك ضاق المسجد بالمصلين، ليعمد بعد ذلك حاكمها مروان بن محمد الأموي لهدمه وإعادة بنائه وتوسعته من جديد، وكان ذلك في بداية القرن الثاني للهجرة، وسمي الجامع بعد توسعته “الجامع الأموي”، وكان يتسع لما يزيد على 11 ألف مصل.
استمر الجامع على حاله حتى عام 167 للهجرة عندما أعاد الخليفة المهدي العباسي هدمه وتوسعته حتى صار يتسع لقرابة 20 ألف مصل، وهو ما يؤكده عالم الآثار الإسلامية الموصلي أحمد قاسم الجمعة.
وأضاف أن الموصل شهدت العديد من الفتن والاضطرابات الداخلية خلال حكم العقليين والسلاجقة في القرن الرابع الهجري، مما أدى لتقلص عمارتها وهجر الجامع الأموي بعد أن تعرضت أجزاء منه للانهيار، واستمر حال الموصل والمسجد الجامع (الأموي) على حاله حتى وطد الأتابكيون حكمهم في الموصل في منتصف القرن الخامس الهجري.
ويشير الجمعة للجزيرة نت إلى أن مدينة الموصل في عهد الأتابكيين صارت من أمهات مدن العالم الإسلامي، حيث أعادوا إعمار الجامع عام 543 للهجرة الموافق لـ1148 للميلاد على يد سيف الدين الأول بن عماد الدين زنكي.
وتذكر المراجع التاريخية أن الأتابكيين عمدوا بعد أن بنوا الجامع النوري الكبير إلى تسمية المسجد الجامع “الأموي” بـ”العتيق”، لتمييزه عن الجامع النوري الذي سمي في بعض مراحل الدولة الأتابكية “المسجد الجامع” كذلك.
تعرضه للدمار
رغم أن الجامع الأموي في الموصل تعرض للهدم والإهمال في القرن الرابع الهجري فإن ذلك لم يكن متعمدا بحسب عالم الآثار الموصلي أحمد قاسم الجمعة، حيث يشير إلى أن الجامع تعرض للتدمير والتخريب المتعمد على يد المغول عام (660 هـ/ 1261 م).
ويضيف الجمعة أنه في عامي 798 و804 للهجرة تعرض الجامع للتدمير الكامل على يد تيمورلنك، ونتيجة لذلك ظل الجامع على هذه الحالة لفترة طويلة، مؤكدا على أن الجامع الأموي كان يمثل خامس جامع بني في الإسلام بعد قباء والمسجد النبوي والبصرة والكوفة، ولذلك تعمد المغول طمس معالمه بعد احتلالهم الموصل، بحسبه.
وبالعودة إلى سعيد الديوه جي، حيث يؤكد في كتابه أنه لم تتم إعادة إعمار الجامع حتى بدايات الدولة العثمانية بعد أن سيطرت على الموصل وأحكمت الأمن فيها، حيث عاد الناس لبناء دورهم وأسواقهم قرب الجامع الأموي، بحسبه.
لم تذكر المراجع التاريخية ما تعرض له الجامع خلال الفترات اللاحقة، إلا أن عالم الآثار الموصلي أحمد الجمعة يرى أن الجامع تعرض للإهمال مرة أخرى حتى القرن الـ13 للهجرة عندما شرع أحد المحسنين الموصليين -وهو محمد مصفي الذهب- بإعادة بنائه بالكامل عام (1225هـ/ 1810 م)، ليطلق على الجامع تسمية “جامع المُصَفِّي” الذي لا يزال يحمل هذه التسمية حتى الآن.
الفن المعماري
وعن الفن المعماري المستخدم في الجامع، يتابع الجمعة أنه على مر العصور كان يزخر بالعمارة الموصلية الإسلامية التي استخدمت المواد المحلية في بنائه والمتمثلة بالجص والحجر، فضلا عن تزيينه بالزخارف الإسلامية التي ظلت حاضرة طوال العصور حتى تعرضه للخراب بعد الحرب الأخيرة لاستعادة الموصل من تنظيم الدولة الإسلامية.
وعبر العصور تعرض الجامع للعديد من التجاوزات على حرمه، مما أدى إلى تقلص مساحته، ليشهد بعد ذلك إعادة ترميمه بالكامل من قبل مديرية الأوقاف العامة عام (1334هـ/ 1917م).
وعن آخر ما تعرض له الجامع، يذكر الجمعة أن حرب استرجاع الموصل من تنظيم الدولة عام 2017 شهدت تدمير الجامع مرة أخرى بفعل العمليات العسكرية، إذ إن الجامع يقع في الموصل القديمة التي كانت آخر معاقل مقاتلي التنظيم خلال الحرب.
أهمية الجامع
بدوره، يقول المفكر الإسلامي محمد الشماع للجزيرة نت إن أهمية الجامع الأموي تكمن في أنه من المساجد الأولى التي بنيت في العصر الإسلامي، وأول مسجد في الموصل.
ويتابع الشماع أن مساحة الجامع الفعلية كانت أضعاف ما هي عليه الآن، وكان محل اهتمام جميع الإمبراطوريات الإسلامية، مشيرا إلى أن الجامع يقع في منطقة تعد أصل مدينة الموصل الحديثة.
وعن تدمير الجامع خلال الحرب الأخيرة، يرى أنه رغم مرور قرابة 4 سنوات على استعادة الموصل من تنظيم الدولة فإن الجامع ظل مهملا دون أن يشرع ديوان الأوقاف أو حكومة محافظة نينوى في إعادة إعماره.
من جانبه، يرى الصحفي جمال البدراني أن الجامع الأموي في الموصل لم ينل نصيبه من الشهرة التي حظي بها الجامع الأموي في كل من حلب ودمشق، عازيا ذلك إلى الصراعات التي شهدتها الموصل عبر العصور والتي أدت لتضرره وهدمه مرات عديدة.
ويستغرب البدراني في حديثه للجزيرة نت أن يظل الجامع مهملا طوال السنوات التي أعقبت استعادة المدينة من تنظيم الدولة، لافتا إلى أن مسؤولية ذلك يتحملها ديوان الأوقاف في المدينة.
الوقف السني
من جهته، يقول مدير الوقف السني في الموصل أبو بكر كنعان إن عدم إعمار الجامع الأموي حتى الآن يرجع لعدم توفر موازنة مالية خلال السنوات السابقة، إضافة إلى خطورة المنطقة التي يوجد فيها الجامع بسبب مخلفات الحرب الأخيرة من الألغام والقنابل التي لم تنفجر، مشيرا إلى أن العام الحالي قد يشهد البدء بإعماره في حال توفرت الأموال اللازمة.
وبخلاف ذلك، يؤكد كنعان للجزيرة نت أنه في حال عدم تمكن الأوقاف من إعماره فإن الأوقاف قد تلجأ للمتبرعين الذين تقدم الكثير منهم بطلبات لإعماره، مشترطا أن يكون الإعمار بذات الطراز المعماري.