في خضم احتجاجات “حياة السود مهمة” التي اندلعت في الولايات المتحدة وتأثرت بها بلدان عديدة، سار الرئيس الأميركي دونالد ترامب يوم الاثنين 1 يونيو/حزيران 2020 مسافة قصيرة من البيت الأبيض إلى كنيسة سانت جون الأسقفية بواشنطن، ووقف في الخارج بينما رفع الكتاب المقدس عاليا.
وفي مقالها بصحيفة هآرتس الإسرائيلية ترى راشيل هافرلوك الأكاديمية المختصة بالدراسات الدينية في جامعة إلينوي الأميركية، أن هذا المشهد جعل الكتاب المقدس يبدو وكأنه أيقونة للقومية العسكرية في يد رجل لم يقرأه ولم يخدم في الجيش، بحسب تعبيرها.
وتتناول هافرلوك كيف أصبح الكتاب المقدس، وخاصة سفر يشوع في العهد القديم، كتيبا للقوميين اليهود والمسيحيين وعنف الدولة الذي يروجون له.
وتحذر في مقالها الولايات المتحدة من اتباع خطى دولة أخرى (إسرائيل)، حيث تم استخدام الكتاب المقدس لتبرير القومية المتشددة، وشن هجوم لا هوادة فيه على المجتمعات الواقعة تحت سيطرتها.
نص ديني أم عسكري؟
تقول الكاتبة إن الكتاب المقدس ليس نصا عسكريا بطبيعته، ويعتمد تفسيره كمذكرة سلام أو حرب على القارئ والتفسير الذي يضفيه الزعماء الدينيون والسياسيون، وعندما يروج القادة المسيحيون للإمبريالية أو يبحث المستوطنون عن غطاء إلهي لاستيلائهم على الأرض، غالبًا ما يستشهدون بسفر يشوع، رغم تجاهل اليهود -تاريخيا- هذا السفر بل قد أنكره بعضهم.
ويعود هذا السفر إلى مرحلة زمنية تمتد ثلاثة عقود منذ وفاة موسى عليه السلام وحتى وفاة يشوع (يوشع) بن نون، ورفض المترجمون من الحاخامات إلى حد كبير خيال الحرب المقدسة وحركات نهاية العالم اليهودية التي احتضنها هذا السفر وكانت عادة ما تنتهي بنهاية مريرة.
ويُقرأ القليل من الكتاب في القداس اليهودي أو يُستشهد به في الثقافة اليهودية، لكن وجدت فيه الحركة الصهيونية وقادة إسرائيل الأوائل إلهاما سياسيا للاستيلاء على الأرض الفلسطينية وتعيين حدودها، و”تطهيرها من الكنعانيين”.
ويستخدم السفر التوراتي للتدليل على أرض الميعاد وشعب الله المختار، واستخدمته الحركة الصهيونية في القرن 19 بكثافة لتبرير احتلالها للأرض الفلسطينية، وتقول هافرلوك إن الصهيونية استدعت السفر وقامت بقراءته لتبرير حروبها و”غذت مفردات سفر يشوع معجم القومية اليهودية”.
بن غوريون
كان مؤسس إسرائيل وأول رئيس وزراء لها، ديفيد بن غوريون (1886-1973) من المتحمسين لسفر يشوع على وجه الخصوص، وحرص على تدريسه في الجيش الإسرائيلي وعقد مجموعة دراسة منتظمة صنعت خلالها النخبة الشابة ثقافة مستوحاة من السفر تركز على ثقافة وطنية متخيلة جرى تخليقها من النص الديني.
وأراد بن غوريون توحيد السكان المهاجرين من زوايا الأرض من خلال ثقافة عسكرية وطنية مفعمة بالكتاب المقدس، وهي الفكرة التي استمرت لمدة عقدين تقريبا حتى احتلت إسرائيل الأراضي الفلسطينية في حرب عام 1967 وانطلق المستوطنون لمصادرة الأراضي الفلسطينية بينما كانوا يلوّحون بكتاب يشوع.
في كتابها “جيل يشوع: الاحتلال الإسرائيلي والكتاب المقدس” تعتبر هافرلوك أن تفسيرات النص التوراتي ترتبط بالحرب والواقع السياسي إذ يجري تأويلها وتطويعها لتبرير سياسات قومية معينة
قدّم المستوطنون ومؤيدوهم تفسيرا قوميا للغاية للكتاب المقدس، حيث أخذ الكثيرون وعد الله ليشوع بأن “كل بقعة تطؤها قدمك لكم” حرفيا. وأطلقوا على مستوطنات الضفة الغربية أسماء أماكن في سفر يشوع مثل جيلجال، جبعون، وعوفرا وغيرها.
وينتقد سفر يشوع القبائل الإسرائيلية لفشلها في إبادة سكان الأرض المخصصة لهم، وتشريدهم بالكامل، وهكذا يؤكد تيار من فكر المستوطنين أن “تنفيذ” التهجير الفلسطيني الكامل، عن طريق النقل الجماعي “الترانسفير”، سيحقق الكتاب المقدس ويدرك الخلاص لكامل أرض إسرائيل، ووفق هذه الرؤية ينظر لليهود الذين يعارضون هذه الرؤية كأعداء داخليين للشعب والإرادة الإلهية.
وتؤكد الكاتبة أن هذه النصوص استلهمت لتبرير حروب إسرائيل ضد السكان الفلسطينيين وكذلك لسياسات الاحتلال والعسكرة والحصار والحرمان والقيود التي فرضت على الفلسطينيين، “والآن تسعى الحكومة اليمينية التي تدعمها الأحزاب السياسية الدينية في إسرائيل والجماعات الإنجيلية في أميركا، إلى تجسيد “حقها الإلهي” في الضفة الغربية، من خلال الضم”.
ولعقود طويلة اعتمد الدعم الأميركي للجانب الإسرائيلي على أسس جيو-إستراتيجية في الأساس، خاصة خلال فترة الحرب الباردة، لكن مع وصول دونالد ترامب للحكم أصبح أساس دعم إسرائيل عائدا لمبررات دينية توراتية وإنجيلية، بحسب تقرير سابق للجزيرة نت.
النصف الثاني من الكتاب والرواية
وتتابع الكاتبة دراستها لسفر يشوع وتقول إن أولئك الذين قرؤوا الكتاب المقدس بالفعل قد يصلون إلى النصف الثاني من سفر يشوع، حيث يتضح أن “السكان الأصليين” لم يتم القضاء عليهم، بل لا يزالون جيرانا لا يمكن تمييزهم إلى حد كبير عن “شعب إسرائيل”.
وفي المقابل يتلاشى جيش يشوع ويتحول إلى مجموعة من القبائل والعشائر والأسر التي تحتاج إلى سكان المدن المقسمة وتقاسم المياه.
وتعد هذه القصة رواية مضادة لأفكار العسكرة السابقة الواردة في النصف الأول من سفر يشوع، وتعتبر الكاتبة أن النصف الثاني من القصة “يفسد الغضب القومي دون قصد”.
وفي النصف الثاني من يشوع، يمكن العثور على مجموعة كاملة من الانتماءات -العائلية والقبلية والإقليمية والعالمية- التي وجهت الشعوب القديمة، ويعد هذا نقيضا بالنسبة لمن أرادوا تشكيل هذه الهويات في دولة وجيش واحد، فالفصل بين الإسرائيليين والكنعانيين لم يتحقق في النهاية ولا يبرره الواقع المعيشي أيضا.
وتختم الكاتبة بأن القراءة القومية لسفر يشوع من قبل “المسيحية المسيّسة والمسيئة للكتاب المقدس تؤدي إلى حرب ثقافية مدعومة بعنف الدولة”.
قراءة بديلة
وفي كتابها الصادر حديثا عن مطبعة جامعة برينستون بعنوان “جيل يشوع: الاحتلال الإسرائيلي والكتاب المقدس” تدرس هافرلوك “كيف أصبحت قصة الكتاب المقدس المثيرة للجدل عن الغزو والإبادة الجماعية قصة تأسيسية لإسرائيل الحديثة”.
ويشرح الكتاب مركزية نص “سفر يشوع” في السياسات الإسرائيلية الحديثة، والاحتلال المعاصر، ويكشف عن سبب تجاهل اليهود لزمن طويل للنص الذي جرى استدعاؤه بالتزامن مع حروب إسرائيل ونشأتها في القرن العشرين، بينما يرى منتقدو الاحتلال السفر محتفيا بالإبادة الجماعية.
وترى المؤلفة في كتابها “سفر يشوع” دليلا على وجود مجتمع لامركزي يتألف من القبائل والعشائر والأسر التي تديرها النساء، وترى أنه يناسب الوضع الراهن خاصة عندما يتشارك أشخاص متنوعون الموارد المتناقصة لأرض متناثرة.
ويكشف الكتاب أيضا كيف يستدعي قادة إسرائيل النص الديني لتعزيز التماسك الوطني، كونه يؤرخ لتوحيد السكان في ظل ملكية قوية، ويشرح كيف قام الجنرالات والسياسيون والأكاديميون الإسرائيليون بإعادة صياغة قصة تأسيس إسرائيل بلغة يشوع، عبر سرد حكاية غزو وحشية وحّدت المهاجرين من مختلف الأعراق والخلفيات!