أصبحت أنماط الموسيقى على غرار الراب وسيلة مفضلة بالنسبة للشباب التونسي، للتعبير عن احتجاجه وآماله. إلا أن إرث الأغاني الاحتجاجية التي تعود إلى العقود السابقة لا يزال حاضرا في العقل الجمعي لنشطاء اليسار الشباب في البلاد.
عام 2011 انتشرت أغنية “رئيس البلاد” -التي كانت أول عهد التونسيين بموسيقى الراب- بشكل واسع على مواقع التواصل، في الوقت الذي كانت فيه الاحتجاجات الشعبية تهز أركان النظام المخلوع، وكانت آنذاك أول عمل موسيقي يتعرض لفساد النظام.
ويعود الإقبال على هذه الأغاني خاصة من فئة الشباب -حيث يشاهدها الملايين على يوتيوب- إلى اقترابها من قضايا الشباب وملامسة همومهم كالبطالة وأحلام الهجرة وغيرها، إضافة إلى اشتباكها مع الوضع السياسي لتمثل صوت احتجاج عاليا في البلاد.
غناء احتجاجي
وتقول الكاتبة أليسيا كارنيفالي، في التقرير الذي نشره موقع “ذا كونفرزيشن “الأسترالي (The conversation)، إنه منذ منتصف السبعينيات وخلال ثمانينيات القرن الماضي، إبان نظام حكم الحبيب بورقيبة، تطورت الأغاني الاحتجاجية كثقافة مختلفة في المشهد الفني. وقد اتسمت تلك الفترة بالاضطراب الاقتصادي وتوالي الموجات الاحتجاجية والمشاكل السياسية.
وتضيف الكاتبة، الأكاديمية بجامعة سابينزا في روما، أن الأغاني الاحتجاجية تعتبر نتاجا للعمل الثقافي الذي قامت به الأحزاب والمنظمات اليسارية في تونس، في إطار الحركات الطلابية والمنظمات النقابية.
وترى أن أهمية هذا الفن الشعبي، بالنسبة لليسار في تونس، تكمن في أن النشطاء اليساريين وجدوا في هذا النوع من الغناء بشكل خاص أداة قوية، تصلح لنشر الوعي في صفوف الشباب، وشحذ همم النشطاء ونشر الأفكار الاشتراكية الثورية، آنذاك.
الفن والسياسة
تقول الكاتبة إن هذه الأغاني الاحتجاجية تسمى في اللغة العربية “الأغنية الملتزمة” تلك التي تركز على المضامين السياسية والاجتماعية، وتهدف لإيصال رسالة محددة.
وخلال السبعينيات والثمانينيات ظهر فنانون وفرق موسيقية تؤدي هذا النوع، ومن أبرز هؤلاء الفنان الملتزم الهادي قلة ومجموعة إيمازيغن. وكان هؤلاء يقيمون الحفلات في الجامعات ومقرات النقابات وفي الاجتماعات السياسية، ولكن نادرا ما كان يتم بث أغانيهم في محطات التلفزيون والراديو، رغم أنها كانت منتشرة على نطاق واسع بين الناس.
ثقافة شعبية جديدة
خلال تلك الفترة مثلت هذه الأغاني تعبيرا عن ثقافة معاكسة للأيديولوجيا التي كان نظام بورقيبة ينشرها. إذ أن الرئيس الراحل، الذي وصل للحكم عام 1956، شخص متعلم ينتمي للطبقة الوسطى ويميل إلى النموذج الغربي، وقد روج لأيديولوجيا تقدمية إصلاحية. ولكن خلال العقدين الأخيرين من حكمه خسر الكثير من شعبيته، لدى الشعب بشكل عام وفي صفوف النخب والفكرية والثقافية الجديدة بشكل خاص.
خلال تلك الفترة كان اليسار الراديكالي الجديد متأثرا بالفكر الماوي والقومية العربية. كما لم يغفل هؤلاء عن اعتبار أن الارتباط بالطبقة الكادحة سيكون مستحيلا دون مراعاة الهوية العربية الإسلامية للشعب التونسي.
خلال تلك السنوات كانت الأغاني أقوى أداة لإيصال الرسائل السياسية، وكان انتشارها سهلا مع ظهور تكنولوجيا جديدة ورخيصة متمثلة في جهاز مسجل الكاسيت. كما أن الحفلات كانت تقام بميزانية محدودة وتجتذب المئات من الناس.
الواحة والمنجم
من بين كل الأسماء التي عرفت بأداء الأغاني الاحتجاجية، تبرز مجموعتان، أولاهما فرقة البحث الموسيقي التي تنحدر من مدينة قابس جنوب البحر المتوسط، والتي تتميز بواحاتها، وأقيمت فيها منذ السبعينيات مجمعات صناعية كيميائية ضخمة. والثانية فرقة أولاد المناجم التي تنحدر من أم العرائس، البلدة التي تقع في ولاية قفصة بالحوض المنجمي.
هذه المجموعات التي لا تزال نشطة حتى اليوم، ولدت من رحم المناطق التي تعرضت لتأثيرات التحول الصناعي واستغلال الموارد الطبيعية في المناطق الريفية. وهذه القطاعات الصناعية أدت في النهاية لتفقير السكان المحليين وسببت لهم المعاناة.
وكان أعضاء فرقة البحث الموسيقي طلبة في الجامعة وناشطين ضمن الحركة الطلابية. أما أعضاء أولاد المناجم فقد كانوا عمالا يحسون بالمعاناة في بلدتهم.
وكانت كلتا المجموعتين تحظى بشعبية كبيرة لدى النشطاء اليساريين والنقابيين، بفضل أدائهما والرسالة الثورية القومية في أغانيهما.
مثل هذه الفرق الموسيقية صنعت ثقافة ثورية وفي نفس الوقت شعبية جديدة، وقد استمدت الإلهام من الشعر العربي الحديث، وبالتحديد من شعراء مثل محمود درويش في دفاعه عن القضية الفلسطينية. إلا أنهم اعتمدوا أيضا على الأنماط والمواضيع الرائجة في الفولكلور التونسي والشعر الشعبي. وهكذا تفاعلوا بطريقة مبتكرة مع الحاجة لصنع ثقافة اشتراكية جديدة للجماهير.
كما استفاد هؤلاء من تجارب عربية أخرى، على غرار المؤلف والمغني مارسيل خليفة، وفرقة ناس الغيوان المغربية، وبشكل خاص الثنائي المصري الشيخ إمام وأحمد فؤاد نجم.
وهكذا أنتجت فرقة البحث الموسيقي أغاني على غرار “هيلا هيلا يا مطر” وأغنية “نخلة وادي الباي” و”البسيسة” والتي جمعت بين الصورة الريفية من جهة، والشعارات الثورية والرموز القومية من جهة أخرى.
كما أن فرقة أولاد المناجم قدمت أغاني شهدت رواجا كبيرا تدور حول صعوبة الحياة في الحوض المنجمي، على غرار “يا داموس” وأغاني أخرى تدعو للوحدة العمالية والوحدة العربية ضد الإمبريالية، على غرار “نشيد الشعب”.
ميراث المقاومة
وتعود الكاتبة فتقول إن الأغاني الاحتجاجية الشعبية شهدت تراجعا مع صعود نظام دكتاتورية بن علي في التسعينيات، إلا أنها لم تختف تماما. وبعد ثورة 2011 التي أطاحت بنظام بن علي، التأم شمل الفرق الموسيقية القديمة واستعادت نشاطها في الفضاء الثقافي الديمقراطي الجديد.
واليوم تتخذ الأغاني الاحتجاجية أشكالا متعددة، من الراب إلى الإلكترو. ولكن الأغاني القديمة لا تزال تتردد بكثرة في الاجتماعات السياسية وفي المهرجانات والاحتفالات.
ورغم ندرة التوثيق والدراسات، فإن الأغنية الاحتجاجية التونسية في السبعينيات والثمانينيات لا تزال تشكل جزءا أساسيا من الذاكرة الجماعية المقاومة. وهي محملة بالمعاني السياسية والعاطفية بالنسبة لجيل كامل من النشطاء السياسيين والنقابيين.
وفي الختام أكدت الكاتبة أن دراسة هذه التجربة قد تقدم لنا رؤية جديدة للحياة السياسية والثقافية التونسية تحت نير الاستبداد. وهي تسلط الضوء على استمرار حضور المعارضة والثقافة الثورية التي مهدت الطريق للأحداث التي أطاحت عام 2011 بالنظام الدكتاتوري.