مايكل سينغ
بعد عامين من التوترات المتزايدة باطراد، تواجه واشنطن وحلفاؤها أزمتَين في سياستهم تجاه إيران. تتمثّل الأولى، التي تحصل علانيةً، بأزمة الخليج العربي. أما الثانية، فهي أقل علانية ولكن يمكن اعتبارها أكثر خطورة، وهي إلغاء إيران بوتيرة بطيئة لـ «خطة العمل الشاملة المشتركة» لعام 2015. وفي الواقع، إن الأزمتان متشابهتان وتستوجبان رداً شاملاً من قبل إدارة ترامب.
التحوّل في الاستراتيجية الإيرانية
حتّى وقت قريب، بدت إيران راضية عن الانتظار [حتى انتهاء فترة ولاية] إدارة ترامب، والصمود أمام انقضاض العقوبات الاقتصادية التي تشمل استراتيجية “الضغط الأقصى” التي تعتمدها واشنطن. وحيث تقدّر طهران أنّ رئيس ديمقراطي، إذا ما انتُخب في عام 2020، سيقوم بإعادة الولايات المتحدة إلى الاتفاق النووي، فاجأت إيران المراقبين من خلال تقيّدها إلى حد كبير بحدود «خطة العمل الشاملة المشتركة» على الرغم من انسحاب الولايات المتحدة منها في العام الماضي.
وربما تكون إدارة ترامب قد اعتبرت ذلك أفضل ما في الوضعين – الالتزام إلى حد كبير ولو على مضض بالعقوبات الأمريكية، مما أدى إلى ركود اقتصادي عميق في إيران، ولكن النظام لم يوسّع برنامجه النووي أو يرد بطريقة أخرى. ولكن السياسة لم تأتِ بالنتيجة المرجوة، إذ لم تعد إيران إلى طاولة المفاوضات. وقد كان موقف طهران يعني أن الاتفاق النووي ظل قائماً بانتظار عودة رئيس مستقبلي للنظر فيه [ثانية]، وأن الدول الأخرى كانت أكثر تركيزاً على الحفاظ على الوضع الراهن بدلاً من الانضمام إلى الولايات المتحدة في معاقبة إيران.
وبالتالي، ضاعفت الولايات المتحدة الضغط الأقصى، معلنةً أنها لن تُصْدِر بعد الآن وثائق تنازل تسمح لدول أخرى بشراء النفط الإيراني. ورداً على ذلك، فإن طهران – التي شعرت على ما يبدو أن الانتظار [حتى انتهاء فترة ولاية] ترامب أصبح أكثر كلفة بكثير – قررت تغيير قواعد اللعبة. فاستعانت بأفضل مصدريْ نفوذ لها للضغط على الغرب كما ترى على الأرجح، وهما: برنامجها النووي واستعدادها للمخاطرة في المنطقة، اللذان يفوقان استعداد واشنطن وفقاً لحساباتها.
إن الهدف الرئيسي لإيران غير مؤكد. فهي ربما تحاول تعزيز نفوذها قبل المفاوضات المحتملة، أو ربما تسعى لتخويف الولايات المتحدة لكي تخفف من حدة العقوبات لكي تتمكن من العودة إلى إتباع سياسة الانتظار [حتى انتهاء فترة ولاية] ترامب. ويعلم مسؤولو النظام أن القادة الغربيين قلقون من نتيجتين في الخليج، هما: تطوير إيران لسلاح نووي أو حرب مع إيران. ومن خلال جعل أي من النتيجتين أو كلتيهما تبدوان أكثر ترجيحاً، تأمل إيران على ما يبدو إرغام القادة الأمريكيين والأوروبيين على إعادة النظر في سياساتهم والبحث عن مخرج للأزمة المتصاعدة. وربما هذا هو السبب الذي يدفع طهران إلى المشاركة في أعمال تبدو وكأنها هزيمة ذاتية للوهلة الأولى، مثل استهداف ناقلات نفط يابانية خلال زيارة رئيس الوزراء الياباني شينزو آبي لطهران، أو ملاحقة الشحن البريطاني بالرغم من اعتراض لندن على انسحاب واشنطن من «خطة العمل الشاملة المشتركة».
ولكن ما يبدو واضحاً هو أن إيران لن تلين، إذ لديها الكثير من الأمور على المحك من الناحية الاقتصادية، ما يمنعها من التراجع ما لم تتغير الظروف الراهنة بشكل ملحوظ. ويُعد قرار النظام بتجاوز حدود الاتفاق النووي – وعلى وجه التحديد الحد الأقصى المفروض على مخزون إيران من اليورانيوم المنخفض التخصيب – المثال الأحدث والأكثر خطورة على ذلك. ولن تتسارع الأزمة إلا عندما يبدأ الجدول الزمني لتحقيق الاختراق النووي الإيراني في التقلص، أو إذا رأت طهران أنها تستطيع التصرف مع الإفلات من العقاب في الخليج.
التأثير على الاستراتيجية الأمريكية
لطالما اعتُبر الرد على الاستفزازات الإيرانية في الخليج والشرق الأوسط الأوسع تحدياً بالنسبة لواشنطن. فحتى بعد قيام وكلاء إيران بتفجير السفارة الأمريكية والثكنات التابعة للبحرية الأمريكية في بيروت عام 1983، تردد الرئيس ريغان ولم يفعل شيئاً في النهاية (رغم أنه استثنى أيضاً هذا الاتجاه، بترؤسه “عملية صلاة السرعوف” عام 1988). ويخشى صانعو السياسات عموماً من اتخاذ أي إجراء لأنه قد يجر الولايات المتحدة إلى حرب مع إيران كان كل رئيس أمريكي قد سعى إلى تجنبها منذ عام 1979.
وحتى لو لم ترد الولايات المتحدة بالقوة على أزمة الخليج الراهنة، فمن غير الواضح ما إذا كان سيتم ردع إيران بسهولة. فمنطق الردع بسيط، ويتمثل بـ : وجوب دفع الخصم إلى الاعتقاد بأن أي تحدٍ سيتم مواجهته بردّ شديد لدرجة تجعل الإجراء الأساسي باهظ التكلفة. ولكن في ظل ممارسة واشنطن “الضغط الأقصى” فعلاً على شكل عقوبات اقتصادية، ومع إشارة الرئيس ترامب بوضوح إلى أنه ليس لديه مصلحة في نزاع عسكري، فقد تشعر إيران بأنها لن تخسر الكثير.
وعندما يتعلق الأمر بانتهاكات الاتفاق النووي، يأمل المسؤولون الأمريكيون بلا شك – بغض النظر عن وجهة نظرهم بشأن الزوال المحتمل للاتفاق – أن تؤدي الإجراءات الإيرانية إلى إدانات من قبل الأطراف الأخرى الموقِعة على «خطة العمل الشاملة المشتركة» والشركاء ذوي الآراء المشابهة. ومع ذلك، ففي حين أن العديد من الدول أدانت حتى الآن الانتهاكات الإيرانية، إلا أنها أرجأت أي عقوبة بموجب «خطة العمل الشاملة المشتركة»، ناهيك عن بذل أي جهود للتخلي عن الاتفاق بذاته أو الرد بقسوة من خلال فرض عقوبات متعددة الأطراف. أما الخطر بالنسبة إلى إدارة ترامب فيتمثل بالتخفيف الفعلي من «خطة العمل الشاملة المشتركة»، بحيث لا تلتزم إيران تماماً ببنودها ولكن لا تتحمل أي عواقب غي العقوبات التي فرضتها واشنطن بالفعل. وقد يتمخض عن ذلك توريث الرئيس ترامب لخلفه “«خطة عمل شاملة مشتركة» ناقصة” أو وقتاً أقصر لتحقيق الاختراق النووي الإيراني عوضاً عن الاتفاق المحسّن الذي تعهد بالتوصل إليه.
الطريق نحو المستقبل
ستقوم ردة الفعل الفطرية للمسؤولين الأمريكيين على التمسك بموقفهم. ويمكن اعتبار الإجراءات الإيرانية دليلاً على اليأس وعلى نجاح السياسة الأمريكية. ووفقاً لبعض التقارير، اضطرت طهران إلى تقليص ميزانيات وكلائها، مثل «حزب الله»، ومع تراجع إيرادات النفط والاحتياطيات المالية بمرور الوقت، سيواجه النظام الإيراني صعوبات أكبر. ومن وجهة نظر واشنطن، تعلم إيران أيضاً أن الاندفاع لحيازة سلاح نووي أو استهداف المصالح الأمريكية مباشرةً سيولّد رداً مدمّراً.
ومع ذلك، يشعر الحلفاء بالقلق من استخفاف المسؤولين الأمريكيين بقدرة النظام على الصمود، كما كان عليه الحال سابقاً في العراق وأماكن أخرى. كما أنهم قلقون من أن سياسة حافة الهاوية التي تتبعها الولايات المتحدة وإيران ستؤدي حتماً إلى نشوب صراع، حتى لو لم يرغب أي من الطرفين باندلاعه، وأن مثل هذا الصراع سيتسبب بتعاظم الاضطرابات في الشرق الأوسط وجنوب آسيا.
لكن هؤلاء الحلفاء أنفسهم – سواء في المنطقة أو خارجها – يشاركون أهداف واشنطن إلى حد كبير. فجميعهم يقلقون من سلامة النقل البحري التجاري، إذ لا يريد أحد منهم أن تمتلك إيران سلاحاً نووياً أو تعامل دولاً مثل سوريا واليمن ولبنان كقواعد عمليات أمامية لقواتها الإرهابية وقوات الصواريخ الخاصة بها. ولا يريد أحداً أن يشهد حرباً بين الولايات المتحدة وإيران. وينتقد الكثيرون السياسة الأمريكية، لكنهم يدركون أن أهدافهم تتصادم في النهاية مع أهداف إيران وتلتقي مع أهداف واشنطن. وأكثر الأدلة وضوحاً على هذا الإدراك هو الاستيلاء البريطاني الأخير على ناقلة نفط إيرانية متجهة إلى سوريا، إذ وجهت لندن بذلك رسالة مفادها أنها ستعارض أنشطة إيران الإقليمية وستفرض عقوبات أوروبية على سوريا رغم التوترات بشأن الاتفاق النووي، ورغم خلافها المعلن مع واشنطن على خلفية الانسحاب من «خطة العمل الشاملة المشتركة».
بالإضافة إلى ذلك، تُحسِن إيران بتذكيرها العالم بأسباب عدم ثقة الولايات المتحدة بها. فقد تحدّى النظام الإيراني التدفق الحر للطاقة، الأمر الذي يشكل مصدر قلق رئيسي لمعظم الدول. فهو لم يخرق «خطة العمل الشاملة المشتركة» فحسب، بل عُثر أيضاً في حوزته على مواد نووية غير مصرح بها وفقاً لبعض التقارير، في انتهاك محتمل لالتزاماته الأوسع بموجب معاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية. أضِف إلى ذلك تدخلات النظام المستمرة في العراق واليمن، والأكثر تدميراً في سوريا، فضلاً عن المخططات الإرهابية التي اتُهم بإعدادها على الأراضي الأوروبية في العام الماضي. هذا ولم تَظهر طهران فعلياً بمظهر ودي مثير للتعاطف.
ويسلط ذلك الضوء على فرصة متاحة أمام الولايات المتحدة. ففي إعدادها لاستراتيجيتها تجاه إيران، استغلت إدارة ترامب مصدراً واحداً للنفوذ، وهو: القوة المالية الأمريكية الهائلة. ولكنها أهملت إلى حد كبير مصدر نفوذ آخر، وهو: القوة الدبلوماسية الأمريكية الهائلة أيضاً. فإيران وحيدة من الناحية الجغرافية – السياسية، ولكن دول أخرى ، حتى تلك غير الراضية عن سياسة الإدارة الأمريكية، لا تزال تتطلع إلى القيادة الأمريكية وإلى استراتيجية بإمكانها دعمها.
ومن خلال الاستفادة من هذه الأهداف المتقاربة، بإمكان واشنطن زيادة الضغط على إيران وحرمانها من فرص تفريق الولايات المتحدة عن حلفائها. بإمكانها أيضاً إضعاف آمال طهران بالإنتظار ببساطة [إلى حين انتهاء فترة ولاية] الرئيس ترامب، لأن الإدارة الأمريكية المستقبلية ستجد أنه من الأسهل بكثير التراجع عن الإجراءات الأمريكية الأحادية الجانب بدلاً من التخلي عن استراتيجية تحظى بدعم متعدد الأطراف.
وتتمثل الخطوة الأولى من هذه الاستراتيجية في إعداد مجموعة من الخيارات الانتقامية التي يمكن للرئيس ترامب الإختيار من بينها عندما تستهدف إيران المصالح الأمريكية أو مصالح الحلفاء في المرة القادمة. ويمكن لواشنطن آنذاك أن تعرض هذه الخطط على الحلفاء وتسعى للحصول على دعمهم المسبق إذا ما اضطرت الولايات المتحدة إلى تنفيذها. ولحشد هذا الدعم، يجب على الإدارة الأمريكية تعديل الخيارات الانتقامية بدقة بحيث تكون مؤلمة بل متبادلة وغير تصعيدية. وحتى الآن، لم يصدر فعلاً رد على الاستفزازات الإيرانية. وفي حين أن الرئيس ترامب محق في رغبته في تجنب الحرب، إلّا أن هناك الكثير من الخيارات المتاحة ما بين الحرب والتقاعس.
ثانياً، على الولايات المتحدة وحلفائها أن يحرصوا على عدم توفر أهداف سهلة لإيران. وأفضل طريقة لتفادي التصعيد هي إحباط الجهود الإيرانية الرامية إلى شن هجمات في المقام الأول. ويعني ذلك اتخاذ أي خطوات إضافية متاحة لتدعيم البنى التحتية الأساسية للمنطقة والشحن التجاري والمنشآت العسكرية والمدنية الخاصة بالحلفاء. وتُعدّ الجهود الأمريكية والأوروبية المبذولة مؤخراً لتعزيز دوريات الأمن البحري في الخليج بداية جيدة، ولكن لا بد من تضافر هذه الجهود. فعندما استولت إيران على ناقلة نفط بريطانية في 19 تموز/يوليو، كانت تثأر من الاستيلاء البريطاني على سفينة تجارية إيرانية سعت إلى الالتفاف على الحظر المفروض على مبيعات النفط لنظام الأسد، كما ذُكر سابقاً. وبما أن واشنطن تريد من حلفائها أن يضغطوا على إيران بهذه الطريقة، فسيكون من الحكمة دعمهم عندما ترد طهران على ذلك.
وفي غضون ذلك، على الولايات المتحدة أن تكثف استطلاعاتها ومراقبتها في المنطقة بحيث يصبح احتمال القبض على إيران بالجرم المشهود إذا شنت ضربات أخرى، أكثر ترجيحاً. ولا يزال العديد من الحلفاء يشككون في [فعالية] الاستخبارات الأمريكية نظراً للإرث التاريخي الناجم عن حرب العراق، لذلك ينبغي حثهم على القيام بعمليات استخباراتية خاصة بهم أيضاً. كما يجب على المسؤولين الأمريكيين أن يخففوا بصورة مؤقتة من القيود المفروضة على تبادل المعلومات الاستخباراتية مع دول مثل فرنسا وألمانيا.
ثالثاً، على الولايات المتحدة أن تذهب إلى أبعد من العرض الشامل الذي قدمه الرئيس ترامب للاجتماع بالقادة الإيرانيين من خلال التشديد على أنها تقدم مخرجاً من الأزمة إذا كانت طهران ترغب في ذلك. وتحقيقاً لهذه الغاية، يجب على واشنطن ألا تمنع الاتحاد الأوروبي من عرض مبادرات رمزية على إيران، كإطلاق ما يُعرف بـ “كيان الأغراض الخاصة”، طالما كانت هذه الآلية الاقتصادية شفافة ومحصورة بالتجارة ذات الأغراض الإنسانية.
بالإضافة إلى ذلك، على الولايات المتحدة أن تقترح عقد اجتماع عمل متعدد الأطراف لمناقشة الأزمة، على أن تكون المطالب الأمريكية الإثني عشر التي ذكرها وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو وأي قضايا قد تطرحها إيران عند دعوتها، كنقطة انطلاق للمناقشة. ولكن لا بد من أن يتضمن العرض سياسة العصا والجزرة، إذ على الولايات المتحدة أن تصر، كشرط مسبق حتى لتنظيم الاجتماع، على التزام الاتحاد الأوروبي والأطراف الأخرى بفرض عقوبات على إيران إذا استمرت في انتهاك الاتفاق النووي. ينبغي على واشنطن أن تشير إلى استعدادها لتخفيف الضغوط إذا أظهرت إيران استعدادها لتغيير مسارها. وحتى إذا رفضت طهران الدعوة، سيكون الاجتماع مفيداً لحشد الحلفاء، بما أنه يكشف عن غرض وخطة كامنة وراء حملة “الضغط الأقصى”.
وبالطبع، لا تضمن هذه المقاربة حصول الرئيس ترامب على الصفقة الكبرى التي يسعى إلى عقدها مع إيران، والتي تبقى آفاقها بعيدة المنال. ففي النهاية، قد يتعين إدارة هذه المشكلة واحتوائها بدلاً من حلها، على الأقل إلى أن تصبح طهران مستعدة لتغيير مسارها. ولكن الرئيس ترامب يمكن أن يحقق هدفاً مختلفاً يبقى جديراً بالاهتمام، وهو إضعاف النظام ووكلائه عن طريق حرمانهم من الموارد، وبالتالي فتح آفاق جديدة لحل النزاعات الإقليمية الحالية التي تستغلها إيران لتحقق ازدهارها من جهة ولتجنب اندلاع نزاعات جديدة من جهة أخرى. وإذا ما تحلّى الرئيس الأمريكي بدرجة من الحكمة، بإمكانه أن يتجنب أيضاً اندلاع أزمة كاملة يمكن أن [تخاطر] بوقوع الولايات المتحدة في شرك نزاع شرق أوسطي آخر، يعرقل خططاً أوسع نطاقاً تقوم على تركيز الطاقة الأمريكية على التنافس الاستراتيجي مع منافسيها من القوى العظمى.
*زميل أقدم في زمالة “لين- سويغ” والمدير الإداري في معهد واشنطن والمقالة عن موقع المعهد.