هل يؤدي الدين بالضرورة إلى العنف؟

إسلام سعد*

تتعدّد التفسيرات حول العلاقة بين الدين و(العنف، التطرُّف، الإرهاب)؛ فهناك من يلجأ إلى تفسير كل ذلك بالدين فقط؛ بحيث يصبح الدين هو السبب الذي يدفع الناس لارتكاب التفجيرات الإرهابية، على سبيل المثال، كما يحدث في العالم العربي وخارجه. وهناك من يُفَسِّر ذلك التوجه المُتَطَرِّف بالتربية الدينية الصارمة التي يتلقاها المرء، بنسبة كبيرة، في بيئة دينية تماماً أو من خلال تربية يهيمن عليها الدين، باعتباره العامل الأهم من عوامل اكتساب الأخلاق وتكوين رؤية واضحة عن الله والعالم والإنسان. وهناك من يقوم بتفسير الأمر بالعامل النفسي فقط. والتفسير الأقرب للسياق العربي (وهو الأسهل دوماً، يستوي في سهولته مع تفسير التطرُّف بالدين حصرياً) هو التفسير بالفقر وانعدام فرص الحياة الكريمة أمام الشباب.


وإذا حاولنا التدقيق فإنّنا سنجد أنّ الواقع لا يمكن تفسيره بعامل واحد فقط؛ لأن الواقع بطبيعته معقَّد ومتشابك. ماذا عن تعدد تعاريف الدين، واختلاف بيئات التربية، وتنوع الجغرافيات، بين مجاهدين ينضمون لتيارات الإسلام السياسي العنيفة (وبكيفية لا يمكن من خلالها تقديم تفسير جامع، وشامل، لفهم العوامل النفسية لهم جميعاً)؟ هل يمكننا القول إنّ كل من يعاني خللاً نفسياً ينضم فوراً لتيارات الجهاديين؟ وهل كل فقراء العرب يمكن اعتبارهم مشاريع جهاديين متحققة أو مؤجلة حتى يكتمل التحوُّل؟

التعاطف مع الأفعال الإرهابية!
بحسب بحث أُجْري في جامعة الملكة ماري Queen Mary بلندن، فإنّ عوامل مثل؛ سن الشباب والثروة، وانخراط المرء في التعليم بشكل كامل يمكن اعتبارها بمثابة عوامل خطورة ترتبط بالراديكالية العنيفة (تشير الراديكالية إلى حالة التطرُّف بشكل جذري). يبدو الأمر هنا مختلفاً بالكلية عن التصورات السائدة؛ لأن البحث نفسه لم يتمكن من العثور على أي علاقة بين التطرُّف وعوامل مثل؛ الممارسة الدينية واللا-مساواة الاجتماعية والتمييز والتوجهات السياسية.
اهتم البحث كذلك بدراسة مدى التعاطف مع الأفعال الإرهابية، وهو الأمر الذي يمكن النظر إليه على أنّه مَيلٌ مُسْتَتِرٌ للراديكالية العنيفة. اشتغل البحث على 600 رجل وامرأة من باكستان وبنجلاديش وآخرين يقيمون في لندن وبرادفورد، وبأعمار تتراوح بين 18 – 45 عاماً.
نسبة 2.4% من هؤلاء أظهروا تعاطفاً مع الإرهاب والتظاهرات العنيفة، والتزم أكثر من 6% منهم بالحياد والحرص على عدم إظهار التعاطف أو إدانة مثل هذه الأفعال. ولعلّ ما يثير الدهشة كذلك أنّ مستويات التعاطف تزايدت في قطاعات الأعمار الأقل من 20 عاماً والذين يدرسون بشكل كامل، وعند هؤلاء الذين وُلِدوا في بريطانيا، وأصحاب الدخل العالي (75000 استرليني فما فوق).

تقترب هذه الدراسة كثيراً من تقرير في صحيفة “الجارديان” البريطانية  التي أكَّدت بأنّ حوالي 48.5% من الجهاديين الذين تم تجنيدهم في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا هم من أصحاب التعليم العالي، ووفق تحليل أجراه عالم الاجتماع الإيطالي دييجو جامبيتا، تم اقتباسه في ورقة نُشرت في المجلس البريطاني بعنوان “تحصين العقل” لمارتين روز، فإنّ نسبة 44% من المجاهدين حاصلون على شهادة الهندسة، وارتفعت هذه النسبة إلى 59% فيما يتعلق بالجهاديين الذين تم تجنيدهم من أبناء الغرب.

العلاقة بين التطرف والتعليم
وفي كتابه “مهندسو الجهاد – العلاقة الغريبة بين التطرف العنيف والتعليم”، يذهب الباحث دييجو جامبيتا وستيفن هيرتوج إلى أنّ الأنظمة السياسية في الشرق الأوسط ستكتشف أنّ دعم التعليم العالي لا يؤدي بالضرورة إلى حالة القبول أو الرضا المجتمعي؛ بل على العكس، يعاني أصحاب التعليم العالي بأكبر قدر ممكن من الانحدارات والانتكاسات الاقتصادية. وحينئذ يداهمهم الشعور بالخذلان على المستوى الاجتماعي.
كما يذهب جامبيتا إلى أنّ الجيل الأول من الإسلاموية العنيفة في سبعينيات القرن العشرين كان مليئاً بأفراد من أصحاب المؤهلات الدراسية العليا بالرغم من وجود هامش ضئيل من أشخاص لا شيء لديهم يفقدونه (تعليم متوسط أو أقل، ظروف مادية عسيرة … إلخ). التيارالإسلاموي المتطرف، في جيله الأول الذي كان دوماً يُنذر بالخطر، يدين بالكثير “للخريجين النخبة”. بمعنى آخر، هناك نسبة كبيرة من أبناء هذه التيارات الجهادية من أصحاب التعليم العالي، العلمي (هندسة – طب – زراعة … إلخ)، بعكس التصور الشعبي السائد عن كون الأغلبية العظمى من الجهاديين ينتمون لكليات دينية.

يقدم ديفيد بلوكلي قراءة نقدية لما أنجزه مارتن روز، ويؤكد أنّ روز قد أسس أطروحته على أنّ من يقيمون في الشرق الأوسط يدرسون العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات STEM بكيفية تطوِّر من عقليتهم؛ ببحيث يصبحون أكثر ميلًا للتطرف العنيف. وعلى الجانب الآخر، تمثِّل دراسة العلوم الاجتماعية دفاعاً فكرياً قوياً ضد هذا التطرف.
كما يرى سكوت أتران أنّ الطريقة التي يصبح بها هؤلاء الشباب راديكاليين (متطرفين) معقدة للغاية ومفهومة بشكل غير كافٍ. ويذهب سكوت إلى أنّ القرآن والتعاليم الدينية لا تسهم بشكل أساسي أو حصري من جهة إلهام أكثر الأفراد تطرفاً في العالم اليوم. ويرى أنّ الوعود بالمجد وعلوّ المكانة تصلح كأسباب أكثر وجاهة. وعلى حد قوله، يحتاج الشباب إلى قيم وطموحات. وربما هذا هو الوعد الذي تقدمه التيارات المتطرفة حين تسعى لاستقطاب الشباب للدخول في الجماعة المؤمنة!

يذهب روز أيضاً إلى أنّ طريقة التعليم ذاتها في الجامعات العلمية، في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، هي التي تستدعي نوعاً من العقلية أسماها “العقلية الهندسية”. ووفق هذه العقلية، فإنّ التعليم، داخل هذه الجامعات يتعلق بالتركيز على الاستذكار الغيبي (حفظ المعلومات كحفظ الأشعار مثلاً)؛ حيث يكتفي المرء بمجرد الحفظ وسكب المعلومات في ورقة الامتحان للنجاح فقط بدون الحد الأدنى من الشك أو خلق مجالات للتساؤل حول المعلومات التي يكتسبها الطالب خلال دراسته منذ البدء وحتى تخرُّجه. وبالتالي فما يلزم لتجاوز هذه الأزمة التربوية والتعليمية هو السعي لإكساب هؤلاء الطلبة القدرة النقدية على إعمال العقل، وبالتالي تحصينهم من أي أيديولوجيا متطرفة تتسرب إليهم شيئاً فشيئاً.

وفي محاولة من روز نفسه لتلخيص طريقة التفكير التي تمارس من خلالها “العقلية الهندسية”، فإنّه قام بوضع ثلاث نقاط رئيسية وهي:
الأولى: “الأحادية”؛ ويقصد بها الإيمان أو الاعتقاد بوجود حل واحد لكل المشكلات، وهل شعار الإسلام هو الحل، وما يشابهه من الأيديولوجيات الأخرى ببعيد؟.
الثانية: “التبسيطية”؛ وتتعلق بأنّه لو كان الناس عقلانيين فإنّ حلول كل مشاكلهم ستكون واضحة، بدون أدنى إبهام. بمعنى آخر، كل المشاكل لها نفس الحلول مهما تباينت مجالاتها ومصادر نشوئها.
الثالثة: “الحنين للماضي”، وهو اشتياق أساسي، يظهر في هيئة أفكار الأيديولوجيا ذاتها، ومن خلال شعاراتها على الأقل. هذا الاشتياق يمثل حركة في الاتجاه العكسي كمقاومة لحرمان في فترة من فترات التغيُّر الاجتماعي الحاد. ولتفسير هذا الأمر من خلال منظور التيارات الجهادية، أمكن لروز القول بوجود فكرة رئيسية ترتبط بشدة للعودة إلى نظام المجتمع الأول في حياة نبي الإسلام الكريم.
بالطبع يقوم ديفيد بلوكلي باعتباره مهندساً بالأساس بنقد رؤية روز ويراها غير شاملة لكافة الأبعاد لظاهرة الجهادية أو التطرف الأصولي. ولكن في واقع بلدان العرب، يمثل التعليم مجالاً مفتوحاً بالكلية لاستقطاب الشباب الدارسين وتوجيه طموحاتهم (التي تكون مقتولة أو على وشك أن تُقتل) نحو حلم واضح، برؤية واضحة، لا مجال فيها للقول بالرأي.
من يقومون بالتنظير لهذه التيارات هم، في الواقع، خريجو جامعات علمية. والنسبة الغالبة ممن يمكن استقطابهم من خريجي هذه الجامعات أيضاً.
تتعلق أزمة التعليم في سياقنا العربي بأنّ نظام التعليم العالي يُنتِجُ مصدرَ الأزمةِ والقوى الداعمة لها أيضاً (أصحاب التنظير والمُجنَّدون).

*كاتب مصري والمقال عن موقع “حفريات”