كانت غرناطة، الواقعة في منطقة الأندلس جنوب إسبانيا، آخر مدن إيبيريا الإسلامية المعروفة باسم الأندلس -وهي منطقة امتدت في السابق عبر معظم إسبانيا والبرتغال لقرون طويلة- قبل أن تسقط المدينة الأخيرة عام 1492 في يد الجيش الكاثوليكي.
في أعقاب ذلك، سُمح للأندلسيين الأصليين، الذين كانوا مسلمين، بمواصلة ممارسة دينهم. ولكن بعد عقد من المراقبة الدينية العدائية المتزايدة من النظام الكاثوليكي الجديد، تم حظر ممارسة التقاليد والعبادات الإسلامية، لكن كشفت الحفريات الأثرية الأخيرة في غرناطة عن أدلة على استمرار ممارسات الطعام الإسلامية في الخفاء لعقود بعد الحكم الكاثوليكي، بحسب دراسة حديثة لباحثين أكاديميين.
تم استخدام مصطلح “موريسكي”، للإشارة إلى المسلمين الأصليين الذين أجبروا على التحول إلى الكاثوليكية في عام 1502، بعد مرسوم صادر عن ملكاج قشتالة. وصدرت مراسيم مماثلة في مملكتي نافار وأراغون في العقود التالية، مما أثار انتفاضات مسلحة.
فبعد سقوط الأندلس تمتع الموريسكيون في ما بين 1492 و1501 ببعض امتيازات معاهدة التسليم التي تضمن لهم إقامة شعائرهم بما فيها الصلاة والصيام، لكن بخلاف المعاهدة المتفق عليها صدر مرسوم ملكي سنة 1502 يلغي هذه الحقوق ويعتبر إقامة الشعائر الإسلامية جريمة قانونية، وأغلقت كل المساجد وأجبر الموريسكيون على التحول للمسيحية، وجرت محاكمات كثيرة لمن يشك في إسلامهم بِتُهَم كان أبرزها الامتناع عن الطعام والشراب في نهار رمضان، فضلا عن التطهر وأداء الصلوات.
في زمن محاكم التفتيش وطوال قرن من الزمان حتى الطرد النهائي، كان الموريسكيون عرضة للكثير من الوشايات التي تشكك في صدق تحولهم إلى المسيحية على خلفية صيام رمضان، وفي بداية القرن السابع عشر كانت السلطات الكنسية قد اقتنعت تماما أن الموريسكيين مسلمون ولا أمل في تنصيرهم، وأصدر الملك فيليب الثالث قرار الطرد الكبير عام 1609، بحسب تقرير سابق للجزيرة نت.
بالنسبة للكثيرين، يرمز غزو غرناطة إلى قصر الحمراء، إذ أصبحت هذه القلعة الواقعة على قمة التل، التي كانت ذات يوم المقر الفخم لحكام النصريين (بني نصر أو بني الأحمر) المسلمين، ديوانا ملكيا في ظل النظام الكاثوليكي الجديد. واليوم هي النصب التاريخي الأكثر زيارة في إسبانيا وأفضل مثال محفوظ للهندسة المعمارية الإسلامية في العصور الوسطى في العالم.
الآن، يوفر لنا علم الآثار فرصًا جديدة لإلقاء نظرة على تأثير الفتح على المجتمعات الأندلسية المحلية، بعيدًا عن أسوار قصر الحمراء، بحسب الورقة التي اشترك فيها ألكس بلسكووسكي أستاذ مشارك في علم آثار القرون الوسطى بجامعة ريدينغ البريطانية، وغييرمو جارسيا كونتريراس رويز أستاذ آثار القرون الوسطى وما بعد القرون الوسطى بجامعة غرناطة، وماركوس جارسيا زميل أبحاث ما بعد الدكتوراه بجامعة يورك.
الكشف عن الآثار التاريخية في كارتوجا
كشفت الحفريات التي سبقت التطوير في حرم جامعة غرناطة في كارتوجا، وهو تل يقع على مشارف المدينة الحديثة، عن آثار نشاط بشري تعود إلى العصر الحجري الحديث (3400-3000 قبل الميلاد).
لكن بين القرنين الثالث عشر والخامس عشر الميلاديين، ذروة غرناطة الإسلامية، تم بناء العديد من المنازل الصغيرة ذات حدائق (بساتين) وقصور صغيرة تابعة لنخبة بني الأحمر على هذا التل. بعد ذلك، في العقود التي أعقبت الحكم الكاثوليكي، تم بناء دير كارثوسي هنا وتغيرت المناطق المحيطة بالكامل، مع هدم العديد من المباني السابقة، بحسب ورقة الباحثين الثلاثة التي نشرها موقع “ذا كونفرسيشن” (The converesation).
اكتشف علماء الآثار بئرًا ملحقة بمنزل وقطعة أرض زراعية. تم استخدام البئر كمكب نفايات للتخلص من مواد البناء غير المرغوب فيها، لكن تم العثور أيضًا على نفايات أخرى، بما في ذلك مجموعة فريدة من عظام الحيوانات التي يعود تاريخها إلى الربع الثاني من القرن السادس عشر.
الآثار السرية لممارسات الطهي
توفر النفايات “الأثرية” التي تم التخلص منها لمحة عن طريقة إعداد الطعام واستهلاكه في ذلك العصر، وتبدو معظمها شظايا من عظام الحيوانات وكذلك بقايا النباتات وأدوات المائدة الخزفية، وتمثل سجلاً محفوظا لا يقدر بثمن لممارسات الطهي في المنازل القديمة.
ويقول الباحثون إنه يمكن أحيانًا ربط عظام الحيوانات، على وجه الخصوص، بأنظمة غذائية محددة تلتزم بها المجتمعات الدينية المختلفة.
اعلان
غالبية العظام في بئر كارتوجا مستمدة من الأغنام، وعدد قليل من الماشية. ويشير العمر الأكبر للحيوانات، ومعظمها من الذكور المخصية، ووجود أجزاء غنية باللحوم إلى أنها قطعت من قبل جزارين محترفين وتم شراؤها من السوق، بدلاً من تربيتها محليا لدى الأسر.
وتعكس آنية الفخار والسيراميك الموجود بجانب العظام ممارسات تناول الطعام الأندلسية، والتي تضمنت مجموعة من الأشخاص يتشاركون الطعام من أوعية كبيرة تسمى “طيفور”، وانخفض وجود هذه الأوعية بسرعة في غرناطة في أوائل القرن السادس عشر.
حلت الأوعية الصغيرة، التي تعكس النهج الفردي لتناول الطعام الذي تفضله الأسر الكاثوليكية، محل الطيفور الأندلسي الذي يعكس ممارسة تناول الطعام جماعيا. ويقول الباحثون إنهم استنتجوا من الجمع بين الأطباق الكبيرة وعظام الأغنام وغياب الخنازير (كان من الممكن تجنب لحم الخنزير من قبل المسلمين) إلى أن الآنية تعود لأسرة موريسكية عاشت في هذا المكان وتناولت الطعام الأندلسي سرا.
التسييس وضبط الطعام
لم يوافق النظام الكاثوليكي على ممارسات تناول الطعام التي ارتبطت بالهوية الأندلسية المسلمة، وحظرها في النهاية. وأصبح استهلاك لحم الخنزير أشهر تعبير عن مراقبة عادات تناول الطعام من قبل محاكم التفتيش. ويمكن رؤية أصداء ثورة الطعام هذه اليوم في دور لحم الخنزير في المطبخ الإسباني، بما في ذلك اللحوم المعالجة المُصدرة عالميا.
ركزت محاكم التفتيش سابقًا على المشتبه في تمسكهم بالممارسات اليهودية (المحظورة عام 1492)، في النصف الثاني من القرن السادس عشر، وتحول انتباهها بشكل متزايد إلى الموريسكيين المشتبه في ممارستهم الإسلام في الخفاء، بما في ذلك تجنب لحم الخنزير. في نظر القانون الذي سن آنذاك، كان هؤلاء المسلمون كاثوليكيين رسميا، لذلك كان يُنظر إليهم على أنهم زنادقة إذا استمروا في التمسك بعقيدتهم السابقة. علاوة على ذلك، بما أن الولاء الديني والسياسي أصبح متساويًا، فقد تم اعتبارهم أيضًا أعداء للدولة “خونة”.
توضح النفايات التي تم التخلص منها من كارتوجا، وهي أول مثال أثري من هذا القبيل من منزل موريسكي، كيف تشبثت بعض العائلات الأندلسية بثقافة تناول الطعام التقليدية الخاصة بهم رغم تحولات عالمهم، على الأقل لبضعة عقود.