الفنّ ظاهرة إنسانية وُجدت بوجود الإنسان، وتطوّرت بتطوره، عرفها قبل أن يعرف الكتابة، ويُسجلَ التاريخ؛ فاللوحات الجدارية لمعابد المصريين القدامى تُنبئ بعلاقة عضوية بين الفنّ والدين في الحضارات القديمة، تجعلنا عاجزين عن تحديد أيّهما وُلد أولاً!
الإنسان فُطر على عواطف وغرائز تميل إلى الفنّ بما يحمله من جمال، وإنْ كلّت قلوب المتشددين فعميت فلم ترَ فيه جمالاً، متجاهلين أنّه لولا التكوين النفسي السّويّ الذي يدفعه الحبّ، وتُحرّكه الرغبة لما كدح الإنسان في هذه الأرض التي تُسمى الطبيعة أو الكون؛ ليُقيم حضارته، كيف تُنكر الأديان الفنّ، وقد اعتمدت الكتب الدينية على الجمال الفنّي في لغتها للوصول إلى عاطفة الإنسان لتبعث في نفسه رسالتها، فبها من الرّقة والجمال والعاطفة ما يجعلها أبعد ما تكون عن الأفكار التي يُروّجها من أفسدوا أذواقنا، وأغلظوا طباعنا، وعكسوا موازين الحسن والقبح بيننا، حتى صرنا نرى الحسن قبيحاً، والقبيح حسناً!
هل يُعقل أن يخلق الله تعالى الإنسان بميول وعواطف وغرائز ثمّ يُكلّفه أن يستأصلها ويُميتها أو أن يحتقرها؟ هل يُعقل أن يأمر الدين بما يُنافي النزعة الإنسانية/ الفطرة، فيكُلّف أتباعه أن ينتزعوا من داخلهم الإحساس بجمال لوحة رسّام أو روعة حفرية نحّات، أو إبداع لحن عازفٍ، أو عذوبة صوت مغنٍّ؟ هل حقاً يستطيع الإنسان محوَ تلك الميول والعواطف؟ هل عرف المسلمون الأوائل خطاب التحريم للفنون سيما الغناء والنحت؟
العقل يُكذّب خطاب التشدد المزدري للعواطف، الكاره للفنون، الساعي إلى القضاء عليها والتهوين من شأنها، فغاية ما أراد الوحي ليس محو العواطف، وإنما الاعتدال فيها بلا إفراط ولا تفريط، وميزان ذلك العقل المنوط به تنظيمها.
فالإيقاع والنغم الصوتي تراث عام مشترك بين البشر، يمسّ أوتار الإحساس الذاتي عند الإنسان، بل عند سائر الكائنات، فكثيراً ما تأثّر غير العربي بأصوات القرآن الكريم، وهو لا يُدرك معانيه؛ فهي أصوات لغة أجنبية يجهلها، غير أنّها قادرة على التأثير فيه بما تحمل من إيقاع لفظي ونغم صوتي يُوقظ في نفسه أحاسيس وعواطف فوق مستوى الكلمات غير المفهومة.
ألم يُسجّل القرآن الكريم كيف أنّ النّاس منذ آلاف السنين أطلقوا على جمال صوت داوود، عليه السلام، وحلاوة نغمه “مزامير”، وأنّه كان إذا ترنّم أبهج الكون من حوله، جبالاً وطيراً ووحشاً وإنساً، وأشعرها بالبهجة والسكينة؛ فلم يجد “المبرد” حرجاً في أن يقول: “مزامير آل داود كأنّها ألحانهم وأغانيهم”، وأن يقول الشيخ عبد المتعال الصعيدي: “أشاد القرآن الكريم بفنّ الغناء منسوباً إلى داود عليه السلام، بقوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ}”.
ولم يرَ المسلمون الأوائل أنّنا في حاجة إلى التمييز بين الإنشاد والغناء، وكأنّهما شيئان مختلفان، كما صوّر لنا خطاب التحريم اليوم، فأجاز الإنشاد، وحرّم الغناء رغم أنهما يُشيران إلى مدلول واحد، فلم يجد ابنُ سعد في طبقاته إشكالية في أن يصفَ ترديد النبي، صلى الله عليه وسلم، والمسلمين عند بناء المسجد بـ “الغناء”، وليس الإنشاد، تلك الكلمة الشائعة في مقالات وكتب المتأخرين، ولم يرَ اليزيدي في كتابه “الأمالي” عيباً في أنْ يُروى عن عبد الرحمن بن عوف، رضي الله عنه، كان يُغنّي في أثناء السفر، وعندما سأله عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، عن ذلك، قال عبد الرحمن: “نقطع به سفرنا”، فقال عمر: إن كنت لا بدّ فاعلاً فخذ:
تبدتْ لنا كالشمس تحت غمامة … بَدا حاجبٌ منها وضَنّتْ بحاجبِ
ولم أرها إلا ثـلاثاً على مـنى … وعَـهـْدي بها عَـذْراءَ ذاتَ ذَوائبِ”.
ولم يُسقط ابن أبي شيبة من مصنفه رواية أنّ: “عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، سمع رجلاً بفلاة من الأرض، وهو يحدو بغناء الرّكبان، فقال عمر: إنّ هذا من زاد الراكب”.
يتداخل الديني مع الفني، فيستفيد الخطاب الديني من فنّ النغم والإيقاع، الماثل في الأدعية والابتهالات والأغاني الدينية في ترقيق القلوب وتحريك العواطف نحو المعاني الدينية؛ فجميع الأديان والثقافات تعتمد صيغاً شعرية إيقاعية لا يمكن إنكار قدرتها على التأثير في الجمهور، فتنساب الأصوات العذبة بالترتيل أو الوعظ مُدوية في جنبات دار العبادة قبل أن تُخترع مكبرات الصوت، وتتمدّد الأضواء مستفيدة من فنّ العمارة الذي يتداخل هو الآخر مع الخطاب الديني، فتمنح روعةُ المعمارِ دور العبادة جلالاً وعظمة من ضخامة التشييد، ورقّة النقوش الملونة وخشوع الخطوط المزخرفة، فيسري في نفوس المُصلين عُمق المعنى الديني الذي تمتزج فيها اللغة بعناصر الصورة الفنية ضوءاً ولوناً.
قد استوقف القرآن الكريم روعة جمال وتحضّر فنون البناء والنحت والتصوير التي بلغت ذُروتها في عهد النبي سليمان، عليه السلام، الذي شُيّدت في عهده المدن والحصون والقصور والمعابد، ونُقشت على جدرانها الصور، ونُحتت في باحاتِها التماثيل من النحاس والأحجار والزجاج، فعدّ القرآن الكريم ما وصل إليه الإنسان في هذه الفنون من جمال ورقيّ نعمةً تستوجب الشكر في قوله تعالى: {يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِن مَّحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَّاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ ١٢،١١]، وجعل القرآن الكريم التّفوق في فنون المعمار آية من آيات الإعجاز، تحدّى بها سليمان، عليه السلام، ملكة سبأ، فيقول تعالى: {قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَن سَاقَيْهَا، قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُّمَرَّدٌ مِّن قَوَارِيرَ} [النمل ٤٤].
فاعتقاد العرب في التماثيل، وإنكار القرآن الكريم عليهم، كان سبباً لأمْرِ النبي، صلّى الله عليه وسلم، بهدْمها، وهذا مقيّد بتلك الحالة التاريخية؛ فلم يحكِ التاريخ أنّ الصحابة، رضوان الله عليهم، والمسلمين من قبائل العرب الموحّدة هدموا تمثالاً، أو أزالوا معبداً، عندما استحوذوا على بلاد العرب الغساسنة والمناذرة، وكانت تلك القبائل قد عرفت فنون العمارة قبل البعثة بعقود متأثرين بممالك الروم والفرس المتاخمة لهم، وبعد أن أسقط المسلمون إمبراطورية الفرس، وتراجعت أمامهم إمبراطورية الروم، لم يطمسوا آثار الحضارات القديمة في مصر والعراق وفارس، فسلمت منهم، وأسلموها جيلاً بعد جيل حتى كانت القاعدة وداعش، الشوك الذي أنتجه خطاب التشدد والتحريم، فهدموا الكثير منها في العراق وسوريا؛ وكأنّهم رأوا في إسلام المسلمين الأوائل نقصاً، يحتاج إلى استكمال.
إذا كان عرب نجد والحجاز تأخّروا في معرفة فنون العمارة والتشييد لحياة البداوة المتحركة، بحثاً عن الماء والعشب التي غلبت عليهم، فلم يعرفوا من الفنون سوى الشّعر، فلم يكن التصوير والنحت والتشييد المعماري مألوفاً في الفضاء العربي، باستثناء الصناعة البدائية للتماثيل/ الأصنام، فإنّ خلافة عثمان بن عفان، رضي الله عنه، شهدت تحولاً، بعد أن استقرّ أمر المسلمين، وتغلبوا على مملكَتَي الفرس والروم؛ فلم يعد من اللائق أن تبقى الدولة على مظاهر البداوة، وقد دان لها من دان من أهل الحضارة، فعني عثمان، رضي الله عنه، بفنون العمارة، فبدأ بالديني، فشيّد المسجد النبوي بالمدينة، مستعيناً بمهرة البنّائين من مختلف الولايات، “وهذا الصنيع من إنجازاته، وإن رآه المتشددون مذمّة له، فسلكوا مسلك خصومه الذين رأوا أنّه بدّل الإمارة على المسلمين من زيّ النّسك إلى زينة الملك”، وكان عثمان، رضي الله عنه، أول من فتح الباب لفنون العمارة التي تطورت في حكم بني أمية؛ ففي عهد الوليد بن عبد الملك، بنى للمسجد النبوي أربع مآذن، وفرش أرضه بالرخام، ووشّى جدرانه بالفسيفساء، وكسا سقفه بماء الذهب، وجعل أساطينه من المرمر.
وكذلك شهدت القصور ألواناً من فنون الزخرفة والنحت، فـ “قُصير عَمرة”، وهو قصر صحراوي يقع شرق مدينة عمّان بالأردن يقدّر علماء الآثار والتاريخ؛ أنّه يعود للخليفة الأموي الوليد بن عبد الملك بناه في خلافة هشام بن عبد الملك (٧١-١٢٥هـ / ٦٩١-٧٤٣م)، يُعرّفنا بالمزاج الفنيللمسلمين الأوائل، بما يضم من صور وحفريات، منها صورة حيوان قد يكون دبّاً يعزف على آلة موسيقية، وصورة لصيّاد يُطارده أسد، ومشهد راقصين يقومون بحركات رياضية، وقبة صالة الحمام التي تُجسّد السماء والأبراج السماوية في لوحة يُرجح علماء الآثار أنّها أقدم تصوير للأبراج السماوية على سطح كروي، إضافة إلى جدارية تجسّد ستة ملوك يقفون في صفين، محفورة تحتها أسماؤهم، باللغة الإغريقية واللغة العربية.
فما حفظه لنا التاريخ من لوحات حجرية للنساء والرجال والألعاب الرياضية وعزْف الموسيقى والرقص ومشاهد الصيد تدحض فكرة أنّ المسلمين الأوائل تبنّوا خطاب التحريم، فالفنّ في تجلياته اللغوية والتصويرية والموسيقية حاضر في الفضاء الديني، فجدل التحريم الديني للفنون لم يعرفه المسلمون إلا متأخراً في عصور تخلّفهم، فرغم صوت خطاب التحريم المرتفع إلا أنّ حضوره منزو، يقتصر على التنظير، ويتراجع في الواقع؛ فالفنّ يمتزج في واقعنا اليومي بالدّين في روعة معمار المساجد، وعبر إذاعة القرآن الكريم التي تشدو بالغناء الديني، الذي يُحرّك المشاعر احتفاء بمعنى أو ذكرى دينية.
أخيراً؛ هل يعود تدريس الموسيقى إلى الأزهر، بعد غياب مئة عام، عندما كان شيخ الجامع الأزهر في مطلع القرن التاسع عشر، الشيخ حسن العطار، يُدرّس بنفسه ضرب العود والكمان في الجامع الأزهر؟ هل سنرى كلية للفنون بين كليات جامعة الأزهر؟ هل سيأتي يومٌ يحتفي المجتمع فيه ببناء دور الفنون احتفاءً ببناء المدارس ودور العبادة؟
*أستاذ علوم العربية وآدابها بجامعة الأزهر والمقال منشور في موقع “حفريات”