سلاماً عليك حين كنت، وعندما تكون ويوم تُبعث حيا..
سلاماً على الشهداء والأمهات والنخيل الباسقات..
سلاماً على حرف العين والراء والألف والقاف..
عندما كُنا طلاباً صغاراً نجلس أمام السبورة، كان المعلم يكتب بالطباشير الآية (كُل نفسٍ ذائقة الموت) لكنه لم يكتب يوماً (كُل نفسٍ ذائقة الحياة)، علّمتنا هذه الكلمات منذ الصغر أن علاقتنا بهذا (الموت) لن تكون مجرد تذوق، بل ربما تعبر إلى الصداقة.
وفي حرب الثمان سنوات كان هذا الصديق يطرق أبواب الجميع ويزور بيوت العراقيين بلا إستئذان بل حتى في أيام شهر رمضان عندما كان الصائمون يبدأون إفطارهم بكلمات (اللهم لك صمنا) وهم ينظرون إلى مذيع التلفزيون وهو يقرأ بيان القيادة العامة للقوات المسلحة، كان هذا الزائر يطلّ عليهم حتى من على شاشات التلفاز، وعندما كان المذيع يختم بيانه بمقولة (كانت خسائرنا طفيفة) كنا نشم رائحة الزائر من خلال عيون أمهاتنا..آبائنا عندما يتهافتون إلى الهاتف الأرضي ليسألوا الآخرين عن أبنائهم وأزواجهم، كنا نشاهده من خلال صور من المعركة يعرضها التلفزيون ليؤرق منامنا ويحولها الى كوابيس.
ورغم تلك العلاقة الجدلية بيننا كان هذا الصديق يأبى أن يفارقنا بل ظل ملازماً لنا حتى في سنوات الحصار حين كان ينظر إلينا وهو يمشي مُتبختراً وقد اختار فريقاً لمرافقته من أطفال الخُدج في توابيت خُصصت لهم تسير بهم مسيرات في الشوارع قتلهم إنقطاع الكهرباء والحصار، كنا ننظر إلى الملك وهو يقود حاشيته ونحن واقفون على أرصفة الشوارع لتوديع هؤلاء…كم كان المشهد قاسياً ومؤلماً.
ورغم أننا كبرنا وإمتلئ الرأس شيباً وإعتقدنا أن الزمن كفيل بالنسيان إلا أن صديقنا لم يكبر بل على العكس إزداد شباباً وقوةً فبدأ يختار الزمن والوقت الذي يحدده بدقة وعناية متمرداً على الجميع ينتقي ضحاياه في سوق أو شارع وفي أي يومٍ دامي أو مايشاء، لم يعد يكتفي هذا الموت بعدد ضحاياه بل إزداد نهماً، وفي ذروة غضبنا وحزننا وعندما كنا نعاتب هذه الأرض ونقول لها ألم تشبعي من هذه الدماء فكان جوابها يأتينا وهل من مزيد..؟