لطالما عُرف فنسنت فان غوخ (1853-1890) بكونه العبقري المُعذب، الرسام الذي ترك إرثا هائلا من اللوحات رغم وفاته في سن مبكرة، أكثر من ألفي لوحة تنتمي لما يُعرف بالمذهب الانطباعي، والكثير منها كان عبارة عن مشاهد طبيعية للحقول والأزهار والليل والنهار. فما الذي جعل فان غوخ يُركّز على الطبيعة في لوحاته إلى هذا الحد؟
قال فان غوخ “إذا كنت تحب الطبيعة حقا؛ فستجد الجمال أينما كنت”، وفي مقال عن كيفية الحفاظ على الاستقرار النفسي، نشرته كلية الطب في جامعة هارفارد لتوضح فيه قدرة الطبيعة الفعالة في علاج الاضطرابات النفسية والحفاظ على الصحة العقلية، أتى ما نصه: “لاحظ الباحثون أن الذين عانوا مؤخرا من أحداث حياتية مرهقة، مثل مرض خطير أو وفاة عزيز، تحسنت حالتهم الذهنية بين أحضان الطبيعة. يمكن أن يكون للطبيعة تأثير قوي على حالتنا العقلية، وهناك العديد من الطرق للاستفادة منها”.
وفي حالة فان غوخ، نجد أنه رسم أكثر من ألف لوحة عن الطبيعة وعناصرها، وأنه في الكثير من المراسلات التي دارت بينه وبين أخيه ثيو، وصف الطبيعة بأنها مصدر للإلهام، “إذا لم أشعر بالحب تجاه الطبيعة وعملي، فسأكون غير سعيد”، وقد وضح في خطاباته أن الطبيعة والفن مرتبطان ارتباطا وثيقا، وأنه لا يجد الإلهام والسكينة إلا بين أحضان الطبيعة.
وبالنظر في لوحاته التي تناولت الزهور، نجد أنه اعتمد استخدام ألوان متباينة وقوية في لوحاته عن الطبيعة الصامتة، حيث جمع الأخضر والأحمر والأزرق والبرتقالي في الكثير من لوحات المزهريات، وتلك هي الألوان التي قامت على أساسها نظرية الألوان للرسّام يوجين ديلاكروا (1798-1863) الذي كان مثالا يُحتذى به عند فان غوخ.
تفتّح اللوز
كانت فروع الأزهار الكبيرة -مثل اللوز- وهي تقابل السماء، واحدة من الموضوعات المفضلة لفان غوخ. ففي فرنسا، تزهر أشجار اللوز في وقت مبكر من الربيع مما يجعلها رمزا للحياة الجديدة، وفقا لمتحف فان غوخ في أمستردام، وقد قام برسم 4 لوحات لأغصان شجر اللوز وقت تفتحه، وأهدى السلسلة لأخيه الذي رُزق بطفل جديد سُمّي فنسنت تيمنا بعمه.
تفتح اللوز ظهر مرة أخرى في “غصن من اللوز المزهر في كأس” (مارس/آذار 1888)، وهي لوحة للطبيعة الصامتة عبارة عن خط أحمر يقسم مستوى الصورة، وفرع زهور لوز متفتحة في كوب زجاجي شفاف. ووفقا لمتحف فان غوخ، فإنه كان يميل لرسم تفتح اللوز بعد شهور الشتاء البيضاء، على حد تعبيره، حيث يتساقط الجليد بشدة في مدينة آرل الفرنسية.
واليوم، تحظى لوحات فان غوخ التي تتناول الزهور والمناظر الطبيعة بمركز الصدارة بين أعماله كافة، وقد ظهر بالفعل تأثير تلك الأعمال على الرعيل الأول من الفنانين التشكيلين في فرنسا بعد وفاته، حيث حظيت الانطباعية كلها باهتمام، وفي سياقها تحقق أمل فان غوخ في أن يستمر عمله في إلهام كثيرين بعد وفاته.