يعدّ إدغار موران من أهم المفكرين في أوروبا اليوم وأحد علماء المستقبليات النادرين الذين يتوقعون ما سيحدث للعالم وفق ما يحدث اليوم، فضلًا عن كونه فيلسوفًا وعالم اجتماع فرنسي طبقت شهرته الآفاق.
وفي كتابه “إلى أين يسير العالم؟” يرى موران أن التقدم لا يعني نفع الإنسانية، مدلّلا باستغلال الدول الكبرى التقنية الحديثة لمصلحتها، وعدم قضاء الإنسان على الوحشية، وقد تنبأ في كتابه بأن تاريخ العالم لن يتوقف عن العنف والصدامات، معتبرا أننا لا نزال نعيش قيم العصر الحديدي.
وفي العام المنصرم قدّم موران، مع جائحة كورونا، قراءة نقدية للإنسان المعاصر ومستقبله، فأعاد ذلك إلى دائرة الضوء أعماله السابقة ومنها معجم القرن الـ20؛ الذي توقع فيه الكثير خاصة ما اتصل بإمكانية ظهور أوبئة عالمية نتيجة العدوى بسبب تحول الإنسان إلى كائن مترحّل طوال الوقت “نوماد”.
وتندرج أعمال موران كلها في خانة التنبيه الاستباقي ومحاولة إصلاح الإنسان بتعقّب أخطائه التي قد تدفع به نحو نهايته. وضمن هذا الإطار يمكننا أن ننزل كتابه “العقل المحكم” الذي خصصه للتربية والتعليم، ونقله إلى العربية عالم الاجتماع التونسي الراحل المنصف وناس، وصدر حديثًا عن معهد تونس للترجمة.
التربية والتعليم
يقول إدغار موران “لقد قادني مساري في السنوات العشر الأخيرة إلى وضع هذا الكتاب. وإذ ازددت اقتناعا أكثر فأكثر بضرورة إصلاح الفكر، ومن ثم إصلاح التعليم، فقد كنت أغتنم كل المناسبات المتاحة للتفكير في ذلك”. ويتوجه به إلى الجميع وإلى الفرد، ويمكن أن يفيد المعلمين والمتعلمين على وجه الخصوص.
يعطي موران أهمية كبرى للتربية؛ فالتربية حسب رؤيته تعني “استخداما لوسائل قادرة على تأمين تكوين الكائن البشري وتنميته، وهي تعني أيضا هذه الوسائل ذاتها”. أما التعليم فهو عنده “فن أو فعل نقل معلومات إلى التلميذ بكيفية يفهمها ويستوعبها، فله معنى أكثر تحديدا، ذلك أنه معنى عرفاني فحسب”
ويرى في هذا الفن قصورا ومحدودية مقابل التربية التي تمنحه إمكانات شاسعة لإحداث الإصلاح. ويتبنّى موران مقولة كلايست “إن المعرفة لا تجعلنا أفضل حالا ولا أكثر سعادة” مقابل التربية التي تساعد المرء على أن يكون أفضل، وإن لم يدرك السعادة.
وقد قسم موران كتابه إلى 9 فصول هي: التحديات والوضع البشري وتعلم كيفية العيش ومجابهة الارتياب وتعلم وضع المواطن وإصلاح التفكير والمراحل الثلاث وما وراء التناقضات، وأردف كل ذلك بملاحق هي: ثقب اللائكية الأسود، والتخصصية البينية والمتعددة والعابرة، والهجرة والاندماج، ومفهوم الذات.
يرى موران أن من أهم التحديات التي تواجه الإنسان اليوم هي مسألة التخصص الشديد الدقة الذي “يمنع من رؤية الشامل وكذلك الجوهري، والحال أن المشكلات الحقيقية ليست جزئية أبدا “، ويرى أن تقسيم الاختصاصات يجعل إدراك “ما نُسج بشكل مشترك” متعذّرا، لأن الذكاء كما يقول لا يحسن إلا أن ينفصل، فهو يحور مركّب العالم إلى قطع منفصلة ومفككة ويجزئ المشكلات ويجعل في النهاية ما هو متعدد الأبعاد أحادي البعد.
كما يصل إدغار موران إلى البعد الثقافي باعتباره من التحديات بعد أن وقع تقسيمها إلى جزئيات، فالثقافة الإنسانية هي ثقافة شاملة تغذّى عن طريق الفلسفة والمحاولة والرواية وهي ما يمكن أن نطلق عليه الذكاء العام الذي يواجه التساؤلات الإنسانية الكبرى ويحفز التفكير في المعرفة، أما الثقافة العلمية فتفصل بين المعارف وقد تصل بنا إلى اكتشافات رائعة ونظريات عبقرية لكنها لن تفضي بنا إلى تفكير في المصير الإنساني. ويضيف موران أن هناك بعض التحديات الأخرى كالتحدي السوسيولوجي والتحدي المدني.
العقل المحكم
وينطلق إدغار موران في تفكيكه لفكرة العقل المحكم من مقولة لكاتب عصر النهضة الفرنسي ميشيل دي مونتيني “من الأفضل أن يكون العقل محكما على أن يكون مكتظا”.
والاكتظاظ رديف التراكم والترصيف، وهو لا انتقائي وغير منظم، أما الرأس المحكم فهو يتخلى عن مراكمة المعارف ويسعى إلى امتلاك أمرين هما “استعداد عام لطرح المشكلات ومعالجتها، ومبادئ تنظيمية تسمح بربط المعارف وإعطائها معنى دالًّا”.
فالعقل المحكم عقل يسعى إلى تنظيم المعارف وتجنب تراكمها بصورة عقيمة؛ فالفكر المترابط ينفتح على السياقات العامة بطابعه السببي، مما ينتج فكرا علميا جديدا يقطع مع الجزئي أو لا يكتفي به في ظل التحولات التي عرفتها العلوم بظهور علوم جديدة سماها المفكر بالنسقية كعلم البيئة وعلوم الأرض والكونيات.
ويعرف الفيلسوف التسعيني الفرنسي -ذو الأصول اليهودية الإسبانية (السفرديم)- بمواقفه المؤيدة لحق الفلسطينيين في إقامة دولة خاصة بهم، وقد قاده مقال كتبه في صحيفة “لوموند” (Le Monde) ندّد فيه بالسياسة الإسرائيلية إلى المحاكم الفرنسية عام 2004.
الوضع البشري
وضمن حديث إدغار موران عن الوضع البشري وكيف أن الإنسان ما عاد موضوع العلوم الإنسانية فحسب بل كذلك هو موضوع العلوم الصحيحة التي بحثت في نشأته ووجوده في هذا العالم، وبعد أن يقدم إسهام هذه العلوم في تحديد الوضع البشري يأخذنا إلى الأدب وينطلق من عبارة إيف بونفوا “إنها الكلمات، بما لها من سلطة استباقية، هي التي تميزنا من الوضع الحيواني”، ويستشهد بالأديب الفرنسي فرونسوا بون الذي يرى أننا انفصلنا عن الأدب باعتباره تفكير الإنسان الذاتي في إطار الكونية من خلال وضعه في خدمة اللسان ليصبح خاضعا ثانويا، ويدعو إلى وجوب استعادته والعودة به إلى “فضيلته الكاملة” .
فالرواية والسينما مثلا تمنحاننا ما هو غير مرئي بالنسبة للعلوم الإنسانية التي تخفي أو تذيب الطباع الوجودية والذاتية والمشاعرية للكائن البشري الذي يعيش بانفعالاته، ويرى إدغار موران أن الرواية والسينما هما اللتان تقدمان علاقة الكائن البشري بالآخر والمجتمع والعالم؛ فرواية القرن الـ19 وفيلم القرن الـ20 ينقلاننا عبر القارات، في الحرب والسلم، ويشير إلى رواية “البحث عن الزمن المفقود” الضخمة للكاتب الفرنسي مارسيل بروست كعالم مصغر للوضع الإنساني.
ويعرج موران على ميلان كونديرا الذي يرى في كتابه “فن الرواية” أن الرواية أضحت أكثر من مجرد رواية؛ فهي منذ القرن الـ19 صارت تقدم الكائن البشري في أقصى تعقيداته، ومهما كان هذا الإنسان الفرد فهو يشكل في حد ذاته نظاما كونيا.
في حين تدخلنا الفنون في البعد الجمالي للوجود إذ تدفعنا الطبيعة إلى تعقب الجمال في وجودنا وفينا، فوراء كل عمل عظيم من الآداب والفنون “فكر عميق عن الوضع البشري”.
تعلم كيفية العيش
ومن الفصول المتميزة في الكتاب “تعلم كيفية العيش” إذ يتناول فيه المفكر مسألة التعلم منطلقا من عبارة روسو “أريد أن أعلمه كيف يعيش”؛ فموضوع التربية استنادا إلى عالم الاجتماع الفرنسي دوركايم ليس تلقين التلميذ معارف أكثر بل هو “بناء حالة داخلية عميقة لديه، ونوع من استقطابية الروح تقوده نحو وجهة محددة ليس في مرحلة الطفولة فحسب وإنما طوال الحياة”. وهذا يعني أن المعارف لا تكفي في عملية التربية بل ينبغي تحويل المعرفة المكتسبة إلى “حكمة”.
وينتهي صاحب “العقل المحكم” إلى ضرورة تحويل المعلومات التربوية إلى “معرفة”، وتحويل المعرفة إلى “حكمة” بتحديد الغايات والتوجه إليها. ويطرح مدرسة الحياة والفهم الإنساني على أنها مدرسة شاملة باعتبارها مدرسة للغة، ومدرسة لاكتشاف الذات، ومدرسة للتعقيد الإنساني، ومدرسة للفهم البشري. ويظل عالم الاجتماع يعلي من شأن الأدب باعتباره “الوحيد الكفيل بمثل حالات انسداد التواصلية والانغلاق على الذات والاختلافات الهزلية أو المأساوية وتوضيحها” كما يقول جونوفياف ماتيس؛ فالأدب والشعر والسينما وعلم النفس والفلسفة لا بد، حسب رأي موران، من أن تلتقي كلها حول هدف أن تصبح مدارس فهم، وهذا يحتاج إلى بيداغوجيا ناجحة تُعتمد للوصول إلى تربية الإنسان الذي نريد.
ويأخذنا بعد ذلك المؤلف إلى عالم الارتياب الإنساني وكيفية مواجهته في ضروبه الثلاثة؛ المخي والنفساني والأبستمولوجي، فيدعو الفرد إلى الانتباه إلى أن حياته مغامرة أساسها الارتياب والشك حتى اليقين المطلق وهو موته. ثم يأخذنا الباحث نحو المواطن، ومفهوم الدولة ووحدة المصير، والمجتمع والأسطورة الأممية، ليركز أساسا على الهوية الفرنسية من النشأة إلى مرحلة إدماج المهاجرين الذي ينتظمون في الهوية الفرنسية بشكل تدرّجي عبر التربية والتعليم، وعبر دراسة التاريخ والتفاعل معه عاطفيا بشكل مستمر حتى يتجذر في الفرد كعامل أصيل من ذاته.
ويقول موران “إن اصلاح التفكير لا يمكن أن ينطلق من الصفر، إذ إن له سوابق في ثقافة الإنسانيات وفي الأدب وفي الفلسفة، وهو ما يهيَّأ داخل العلوم”، ومع كل محاولة إصلاح هناك حالة من المقاومة الداخلية علينا الوعي بها وتحملها للمرور إلى نتائج الإصلاح.
وإصلاح التفكير هو ضرورة تاريخية مفتاحية، فنحن ضحايا صنفين من الفكر المنغلق: الأول الفكر المحتوي على فراغات؛ فكر التقنو-علوم المبقرطة (نسبة لأبقراط) الذي يقطع النسيج المركب للواقع إلى أجزاء من النقانق، والثاني فكر منغلق ومنطو على الإثنية أو الأمة، الذي يقسم نسيج الوطن-الأرض إلى قطع؛ ومن هنا تأتي ضرورة إعادة النظر في التفكير وآلياته، ومواجهة تحديات العالم الجديد الذي سقط في الانحطاط مما دفع بإدغار إلى إطلاق صيحته “لقد بدأ الجمود بالزحف، ولا أدري كيف يمكن أن أوقفه”.