تزخر محافظة الأنبار العراقية بمئات المواقع الأثرية الموغلة في القدم، لكن معظم هذه الآثار ما يزال مطمورا تحت الأرض ولم يتم التنقيب عنه، بحسب بيان المديرية العامة للآثار.
ورغم أهميتها الفريدة، فإن المواقع الأثرية في العراق تواجه تحديات كبيرة بعد تعرضها للتدمير والنهب عام 2003، إضافة إلى ما تعانيه من تجاوزات وإهمال وعدم تأهيل.
أهمية تاريخية
الآثار العراقية لها أهمية ورمزية تاريخية كبيرة، ولا سيما حينما يشغل الفن حيزا في بنية الثقافة الرافدينية، حيث إن أغلب المتخصصين بدراسة تاريخ الفن يميلون إلى الإقرار بخصوصية وجمالية وإبداعات أرض الرافدين، باعتبارها واحدة من التقاليد الكبرى بتاريخ الحضارة الإنسانية، كما يقول الدكتور محمد العبيدي أستاذ تاريخ الفن القديم بالجامعة المستنصرية.
ويضيف العبيدي للجزيرة نت، أن العراق هو بلد حضارات عريقة، وهذه الحضارات التي قامت بالعراق سواء كانت منها السومرية أو الأكدية أو البابلية أو الآشورية، وصولا إلى الحضارة الإسلامية، كانت بدورها تنفتح بشكل عجيب، وتستدعى مرة أخرى في اتجاهات الفكر المعاصر، لأنها تعمل وفق منظومات شكلية يمكن أن تكون مصدر إثارة للمتلقي في عصور الحداثة وما بعد الحداثة.
ويبين رئيس الهيئة العامة للآثار والتراث، الدكتور ليث مجيد حسين، أهمية الآثار العراقية، إذ تعتبر أرض العراق من أقدم الحضارات في العالم حيث تم اختراع الكتابة وبدأ التدوين في حوالي 3500 قبل الميلاد، ونشأت إمبراطوريات عديدة، جعلت أرض العراق زاخرة بالمواقع الأثرية لجميع الفترات الزمنية.
آثار الأنبار
يبلغ عدد المواقع الأثرية في الأنبار نحو 438 موقعا، يتوزع معظمها على جانبي نهر الفرات، وعدد قليل من هذه المواقع تنتشر في صحراء الرطبة، بحسب محمد جاسم مفتش آثار الأنبار.
ويضيف للجزيرة نت، “لم تجر عمليات مسح دقيقة لمعظم مساحة محافظة الأنبار حتى الآن، وآخر مسح كان عام 2002، أي قبل غزو العراق لكنه لم يكتمل”.
ويشير إلى أن الحقب التاريخية التي تعود لها المواقع الأثرية في الأنبار، من العصور الحجرية وحتى الإسلامية، تتخللها العصور التاريخية المعروفة.
ويتابع حسين “معظم مواقع الآثار في العراق بشكل عام هي مراكز استيطان بشري، أي أنها تبدأ بالاستيطان منذ العصور الحجرية، وعصر فجر السلالات وتستمر بالاستيطان إلى الفترات الإسلامية المتأخرة، ومثال ذلك قلعة هيت الأثرية في الأنبار، حيث تشير المصادر إلى أنها استوطنت من قبل عصر سرجون الأكدي واستمر الاستيطان فيها إلى يومنا هذا”.
ويؤكد توقف التنقيب الأثري في الأنبار، حيث حصل آخر تنقيب عام 2009 في موقع تل أسود الواقع قرب مدينة هيت على الضفة اليسرى لنهر الفرات، وهو موقع غني ومشهور.
وتشير اللقى الأثرية التي عثر عليها فيه خلال الموسم الأول من التنقيب إلى استيطانهم منذ عصر فجر السلالات الثاني أي بحدود 2000 قبل الميلاد، وخصوصا عند ظهور عدد من الجدران المبنية بطريقة عظم السمك، وهذه طريقة مشهورة واستخدمت بالبناء في تلك الفترة.
ويعزى سبب توقف عمليات التنقيب إلى الظروف الأمنية وعدم وجود تخصيصات مالية، وهذا ينطبق على جميع المواقع الأثرية في العراق.
ويتوقع محمد جاسم وجود مواقع أثرية غير مكتشفة خصوصا في بادية الأنبار حيث تؤشر سجلات مفتشية آثار الأنبار إلى وجود 4 مواقع أو أكثر.
التراث العالمي
تستعد وزارة الثقافة والسياحة والآثار والمتمثلة بهيئة الآثار، لإدخال 12 موقعا أثريا جديدا لقائمة التراث العالمي، ومن ضمنها مواقع كثيرة في محافظة الأنبار خصوصا في مناطق هيت وعَنَه ونواعير الفرات، كما يفيد العبيدي.
ويؤكد حسين للجزيرة نت، أن محافظة الأنبار واحدة من المحافظات التي تضم مواقع أثرية مهمة جدا، وتمتد إلى فترات زمنية قديمة، وبعضها يعود إلى العصر البابلي القديم، وهناك مواقع تعود للفترة الإسلامية، وجميع مناطق العراق مليئة بالمواقع الأثرية والتي تحصى بالآلاف، وحتى اليوم ما زلنا نكتشف ونسجل مواقع أثرية جديدة.
واجهة سياحية
تحدث رئيس الهيئة العامة للآثار والتراث عن وجود توجه لدعم السياحة الأثرية، وتهيئة المرافق السياحية الجيدة للمواقع الأثرية، والتي تدر أموالا للدولة من قبل زوار المواقع والسياح الأجانب والعراقيين.
ويرى أن هناك المئات من المواقع الأثرية التي يمكن جعلها واجهة سياحية مهمة، خصوصا بعد زيارة بابا الفاتيكان المرتقبة لمدينة أور وبغداد والموصل والنجف، لتكون وِجهة من وجهات العالم السياحية في المستقبل.
بينما يرجّح العبيدي حاجة المواقع الأثرية إلى دعم مالي ولوجستي كبيرين وخبرات فنية للمحافظة عليها خصوصا من الناحية الأمنية.
وحتى تكتمل الصورة الترويجية الواضحة للحضارة العراقية طالب العبيدي بتهيئة بنية تحتية كبيرة لكل موقع أثري، توفر للزائرين وسائل الراحة والأمان والاطمئنان، مثلما هو موجود في كل المواقع الأثرية بالعالم.
حماية
تعرضت الآثار العراقية للسرقة والتدمير، والكثير من القطع الأثرية جرى تهريبها، واستطاعت وزارة الآثار استعادة نحو 4 آلاف قطعة أثرية، كما يفيد العبيدي.
ونوّه حسين إلى أن دور وزارة الثقافة والسياحة والآثار كبير في حماية الآثار والحفاظ على المواقع الأثرية، وأن هناك توجها كبيرا لاستعادة جميع القطع الأثرية الموجودة خارج العراق، إذ هناك مئات القضايا بالمحاكم لاسترداد هذه الآثار، وتم استرداد الكثير من القطع الأثرية التي تم تهريبها.
بينما دعا مفتش آثار الأنبار السلطات الأمنية في المحافظة إلى بذل المزيد من الجهود لحماية الآثار من خلال تكليف مفارز صغيرة متخصصة تنتشر بشكل دائم في المواقع الأثرية، وعدم الاكتفاء بعمليات المراقبة من خلال مراكز الشرطة في تلك المناطق.
وللتعرف عن قرب على آثار الأنبار توجهت الجزيرة نت، إلى مدينة هيت باعتبارها واحدة من أقدم مدن المحافظة والتي تزخر بإرث تاريخي موغل في القدم.
ويذكر عبدالرحمن الهيتي الباحث في التراث الشعبي لمدينة هيت، أنه لما مرّ أنكيدو (شخصية من الأساطير السومرية) بالمدينة أعجبته عيون القار التي ينبعث منها النار والقار والماء وظن أنها أصوات العالم السفلي، كما نقل نبوخذ نصر القار والبنائين من هيت لتشييد مدينة بابل الأثرية.
ويشير المدرس هاشم ياسين -وهو أحد سكان هيت ومن المهتمين بتراثها- إلى أن منارة المعمورة -مع المنطقة المحيطة بها- تعتبر واحدة من أهم معالم المدينة والتي تعود إلى الدولة الحميرية (115 قبل الميلاد – 300 ميلادية) بحسب بعض المؤرخين.
ويلفت الموظف الصحي عبدالقادر عبدالواحد -وهو أحد سكان المنطقة- إلى أن الآثار والحجارة والأسس تدل على أن منارة المعمورة لم تكن قد بنيت وحدها، فهي ضمن مدينة أثرية كاملة ولكنها أهملت.