بشير عبد الفتاح*
في سابقة ربما لم يشهدها “الحلف الأطلسي” منذ تأسيسه قبل سبعة عقود خلت، أطلت خلال الآونة الأخيرة دعوات غربية إلى تجميد أو إنهاء عضوية تركيا في الحلف استناداً إلى أسباب عدة، أهمها: إصرار أنقرة على المضي قدماً في تعزيز مساعيها الرامية إلى استكمال عمليات التكامل الأوراسي بما يعظم احتمالات انضمامها مستقبلاً إلى “منظمة شنغهاي للتعاون”، التي تضم روسيا والصين وإيران خصوم “الأطلسي” الأساسيين، فضلاً عن انتهاك الرئيس التركي نصوص “معاهدة واشنطن” لعام 1949 المؤسسة للحلف والمتعلقة بضرورة التزام الدول الأعضاء فيه حماية الحريات واحترام مبادئ الديموقراطية وحقوق الإنسان، وصولاً إلى إمعان أنقرة في تسريع وتيرة التقارب الاستراتيجي مع موسكو وتعميق العلاقات التسليحية معها من خلال صفقة منظومات “إس 400” الصاروخية، بالتزامن مع تواتر أحاديث عن سعي تركيا للتفاوض حول منظومات “إس 500” الأكثر تطوراً ومقاتلات “سوخوي 57” المكافئة تقريباً لمقاتلات “إف 35” الأميركية. وخلافاً للأهداف “الأطلسية” الرامية إلى إبعاد روسيا عن البحر المتوسط وأوروبا، لم تتوان أنقرة عن تسهيل التمدد الروسي في أوروبا، عبر أنابيب نقل الطاقة. ولم تتورع أنقرة عن التنسيق مع موسكو في سورية، بالتوازي مع السعي التركي الدؤوب لتركيب إحدى بطاريات صواريخ “إس 400” في محافظة مرسين على شواطئ البحر المتوسط.
وبينما تنص المادة الأولى من معاهدة “الحلف الأطلسي” على ضرورة التزام الدول الأعضاء بميثاق الأمم المتحدة ومبادئ القانون الدولي، التي تؤكد ضرورة تسوية النزاعات بالطرق السلمية، فإن تركيا تخلت عن هذا النهج، سواء في ما يخص إدارة أزمتها مع اليونان حول بحر إيجه، أو القبارصة اليونانيين في شأن قبرص التركية، أو ما يتصل بالتنقيب عن الغاز في شرق المتوسط.
بموازاة ذلك، ثمة من يلمس تراجعاً في الأهمية الجيوسياسية للعلاقة بين تركيا والناتو، التي كان انضمام تركيا إليه بمثابة زواج مصلحة في مواجهة أطماع وتهديدات الاتحاد السوفياتي السابق مطلع خمسينات القرن الماضي. ففي مقابل هرولة أنقرة إلى الحلف توخياً لحمايتها من الأطماع السوفياتية في موانئ البوسفور والدردنيل التركية وقتذاك، حيث دأب السوفيات على المطالبة بتحريك حدودهم في منطقة القوقاز إلى خط الحدود الروسية العثمانية (العام 1878)، كان الحلف يعتبر تركيا جبهة أمامية في مواجهة الأسطول السوفياتي في البحر الأسود وقوات حلف “وارسو” في الخاصرة الجنوبية لدول “الأطلسي”، علاوة على مساندة أي هجوم مضاد له على الاتحاد السوفياتي من الجهة الجنوبية حينئذ، وهي الأوضاع الجيوسياسية التى أضحت مِن الماضي. وعلى رغم عدم استبعاد أنصار الدعوة إلى طرد تركيا من “الحلف الأطلسي” إمكان إيجاد بديل جيواستراتيجي، تتنوع العوامل التي تدفع باتجاه صعوبة استبعاد تركيا منه. فمن جهة، لم يسبق للحلف أن أقدمَ على أي خطوة من هذا القبيل، بل على العكس هو يتوسع شرقاً حتى زاد عدد الدول الأعضاء من 12 دولة عند بداية تأسيسه إلى 29 دولة حالياً. كما يقيم الحلف شراكات استراتيجية مع دول أخرى من خارجه، إذ تشارك 21 دولة أخرى في برنامج “الشراكة من أجل السلام” التابع لمنظمة “حلف شمال الأطلسي”، فيما يشارك 15 بلداً آخر في برامج الحوار المؤسسي. ربما جاءت الحالة الوحيدة لمراجعة العضوية في الحلف من قبل فرنسا، التي انسحبت مرحلياً من هيكله العسكري في عام 1966، ثم ما لبثت أن عادت إليه في عام 1995. ووفق “معاهدة واشنطن” المؤسسة للحلف في عام 1949، فإن الانسحاب منه يرجع بالأساس إلى إرادة الدولة العضو.
أما عن تدهور العلاقات بين تركيا والحلف، فيتعيَّن التذكير بأن تلك العلاقات لم تكن أبداً على ما يرام، إذ تعود الخلافات إلى ما قبل فترة حكم إردوغان والتقارب التركي الروسي، وإن تفاقمت خلال الآونة الأخيرة. فقد أفضى الاستياء التركي من عدم الجدوى الاستراتيجية للانضمام للحلف إلى تبلوُّر شعور وطني لدى قطاع واسع من الأتراك بفقدان بلادهم نصيباً وافراً من سيادتها واستقلالية قرارها الاستراتيجي وسيطرتها على منظوماتها التسليحية المتطورة وقواتها المسلحة جراء عضويتها فيه. ويتملك الأتراك غضب عارم مما يعتبرونه إصراراً من قبل دول الحلف على انتهاج سياسات تتجاهل المصالح الاستراتيجية التركية في غير موضع، كدعم الأكراد في سورية بل واستخدام قاعدة إنجرليك الجوية لتقديم الإسناد لـ “وحدات حماية الشعب” الكردية، التي تعتبرها أنقرة منظمة إرهابية. كذلك، تدَّعي تركيا أن في حوزتها أدلة دامغة على تورط “الأطسي” في المحاولة الانقلابية الفاشلة منتصف تموز (يوليو) 2016، إذ كان أعضاء سلاح الجو التركي، الذى يعد الهيكل الأكثر اندماجاً في الحلف، من أبرز الضالعين في المحاولة، بينما تشكل أهم ثلاثة أفواج برية مشاركة في الانقلاب ركناً من أركان فيلق الرد التركي التابع له، فيما تم استخدام قاعدة انجرليك من قبل الانقلابيين لتوجيه ضربات جوية ضد البرلمان والمؤسسات الشرعية، واتهمت وسائل الإعلام التابعة لإردوغان الجنرال الأميركي جون كامبل، القائد السابق لجماعات منظمة “حلف شمال الأطلسي” في أفغانستان، بأنه من المنظمين الرئيسيين للانقلاب. ونشرت صوراً للسفير الأميركي لدى تركيا، جون باس، مع ضابط تركي قبل الانقلاب الفاشل بيوم واحد، وصولاً إلى مطالبة، الأميرال مصطفى أوغورلو، وهو موظف تركي رفيع المستوى متهم بالتورط في الانقلاب، ويعمل لدى الحلف من داخل الولايات المتحدة، بالحصول على اللجوء السياسي فيها.
وعلى رغم من كل ما ذكر آنفاً، لا تزال عضوية تركيا في “الحلف الأطلسي” كما علاقاتها الاستراتيجية الاضطرارية به قائمة، ولو بمستوى لا يرضى عنه طرفاها، من دون أن يتجاسر أي منهما على المطالبة بمراجعتها أو فضها. وهو أمر واقع استراتيجي راسخ، ليس من المتوقع أن يفضي إتمام أنقرة لصفقة منظومات “إس 400” الروسية مع موسكو إلى تغييره، وإن أسهمت التداعيات السلبية لتلك الصفقة في مفاقمة أزمة الثقة وتوسيع فجوة الخلافات المزمنة والمتنامية بين شركاء تحالف استراتيجي قلق لكنه لا يزال ملحاً.
* كاتب مصري والمقال عن “الحياة”