“هنا أهرب من أعباء الحياة، وأعود إلى ذكريات الطفولة وراحة البال”. كلمات قليلة قالها محمد الفقيه وهو يتكئ على أريكة خشبية داخل كوخه الطيني الصغير، اختصر فيها ولعه الشديد بإرث الآباء والأجداد.
وبدافع من الحنين إلى الماضي، وإلى حياة البساطة قبل النكبة، التي سمع عنها ولم يعايشها، بنى الفقيه كوخًا من الطين على أرض مجاورة لمنزله في منطقة الزرقاء بمدينة غزة.
الكوخ.. حياة خاصة
داخل هذا الكوخ خلق الفقيه لنفسه “عالمًا خاصًا” بمعزل عن الحياة العصرية، ويقول للجزيرة نت “أقضي هنا ساعات طويلة يوميًا بعيدًا عن صخب الحياة وتعقيداتها”.
وينتمي الفقيه (47 عامًا) إلى أسرة ميسورة الحال من سكان غزة الأصليين، ومع أنه ليس لاجئًا لكنه يهوى منذ سنوات طويلة جمع مقتنيات مرتبطة بالحياة في فلسطين التاريخية قبل النكبة عام 1948.
وتزين جدران الكوخ كثير من هذه المقتنيات التي كانت تستخدم قديمًا في الحروب والتجارة، والحياة المنزلية، ويعود تاريخ بعضها إلى ما قبل قيام الكيان الصهيوني.
وأشار الفقيه إلى مصابيح إنارة ومواقد بدائية، وقال وقد ارتسمت ابتسامة على شفتيه “إن عمرها أكثر من 90 عامًا.. إنها أكبر من إسرائيل”.
وقال الفقيه “هذا إرثنا وتاريخنا، وينبغي الحفاظ عليه وتوريثه لأبنائنا والأجيال الشابة، كي تبقى قضيتا حيّة في نفوسهم مهما تباعدت السنين”.
جلسات سمر
ويجتمع الفقيه وعدد من أحبائه يوميًا حول موقد حطب داخل الكوخ في ساعات المساء، يتجاذبون أطراف الحديث، ويأخذهم السهر إلى الحديث في شؤون مختلفة.. واحد يحدّث بما سمع من أجداده عن ذكريات الهجرة واللجوء، وثان يعرض مشكلة ويطلب النصيحة، وآخر يطلق نكتة للترويح عن النفوس.
محمود الزمارة (54 عامًا) صديق الفقيه المقرب، الذي يتمتع بروح الدعابة وخفة الظل، يقول للجزيرة نت مازحًا “أنا المتحدث الرسمي باسم الكوخ”.. وبنبرة لا تخلو من جدية أضاف “من الطين وإليه.. والله هالكوخ (هذا الكوخ) أغلى من الدنيا، وتراب فلسطين أعز من العالم وما فيه”.
وعلى مدار عقدين من الزمن يشارك الزمارة صديقه الفقيه في أعمال ترميم الكوخ والحفاظ عليه، ويعكفان حاليًا بمساعدة آخرين على صناعة “قوالب من الطين” من أجل زيادة مساحته.
وهنا تدخل الفقيه، في حين كان منهمكًا في خلط الطين مع التبن (مخلفات القمح بعد الحصاد) تمهيدًا لصبّه في قوالب، وقال “نحتاج إلى صناعة 5 آلاف حجر، وكل حجر يُعرّض للشمس أسبوعًا حتى يجف”.
وبناء البيوت من الطين كان سائدًا في فلسطين التاريخية قبل النكبة.
وقال الفقيه إن “بيوت الطين باردة صيفًا ودافئة شتاء، وحتى القعدة (الجلسة) فيها تبعث الطمأنينة في النفس”.
ولا يتخلف الزمارة يومًا عن زيارة الكوخ، وقال وهو يشير إلى عدد من رفاقه “نجتمع هنا يوميًا من كل الأعمار، نتبادل الحديث، ونخفف عن أنفسنا ضغوط الحياة”.
موروث وطني
ويقول الستيني سالم الشكري -للجزيرة نت- إنه قضى 20 عامًا من سنوات عمره الأولى في بيت أسرته المبني من الطين.. “كانت حياة خشنة قاسية، لكن الناس كانت تجمعهم الألفة والمودة التي تساعدهم على مشاق الحياة”.
وأضاف الشكري وهو أحد رواد “كوخ الفقيه” الدائمين “هنا نتذكر قيم الآباء والأجداد وأخلاقهم، ونحافظ على موروثنا وإرثنا الوطني، ونورثه لأبنائنا وأحفادنا”.
وضرب بيده على جدار كان يستند إليه، وقال “هذا ليس مجرد طين، إنه رمز من رموز فلسطين.. نفتخر به ولا نساوم عليه”.
المصدر : الجزيرة