تمثل قضية اللجوء واحدة من أكثر القضايا طرحا في الإعلام والسياسة منذ بداية القرن العشرين ومنذ أن اندلعت الحروب الكونية والأهلية، غير أن تلك القضية ظل حضورها في الأدب هامشيا ومقتصرا على تيمة الحرب والمنفى. فاللاجئ معروف، هو هناك في مراكز اللجوء أو تحت الجسور متشردا، يعتقد الجميع، لكن لا أحد تعرّف عليه حقا. أما اللجوء فمعروف أيضا، يشار إليه باتفاقية جنيف 1951 ولكن الجميع يعلم أنها اتفاقية ناقصة وأنها لا تنفذ.
تطرح الكاتبة الفرنسية إيميلي دو توركهايم القضية بعمق، وتدخل الموضوع من نوافذ أخرى في كتابها السيري “الأمير صاحب الكأس الصغيرة” الذي نقله إلى العربية سعيد بوكرامي عن دار كلمات. فعبر تجربة خاصة خاضتها الكاتبة وعائلتها، تحاول أن تتعرف على هذا الكائن الغامض الذي يرمي به البحر أو اليابسة، ذلك الذي يسقط من شاحنة أو من قارب، ونسميه لاجئا أو طالب لجوء.
يوميات غيرية
الكتاب عبارة عن يوميات سجلتها الكاتبة الفرنسية من فبراير/شباط إلى نوفمبر/تشرين الثاني 2017، تروي فيها تجربتها في العيش مع رزا، وهو لاجئ أفغاني التقطته من الشارع ليعيش معها وأسرتها سنة كاملة. وكانت الكاتبة تسجل تلك الأشهر يوما بيوم إلى أن ترك الشاب الأفغاني البيت وذهب ليسكن في سكن أمّنه له صاحب العمل الجديد.
تبدو الحكاية في غاية من البساطة ومجرد عمل خيري حضاري قامت به سيدة مثقفة تنتمي إلى أسرة مثقفة في بلد التنوير فرنسا، غير أن الحكاية أعمق من ذلك بكثير، فتلك الشهور التي قضاها الأفغاني في بيت الكاتبة ومع أسرتها كشفت فواجع كثيرة منها قصة اللاجئ ومعاناة اللاجئين في مجتمعات أوروبية تدعي التنويرية وتمارس العكس.
اللاجئ هذا الجسد الخاص
كانت إميلي دو توركهايم تتخيل وجه اللاجئ وشكله قبل أن يصل بيتها عبر جمعية الإغاثة سامو، “لأسابيع تخيلت وجهه. في الليل، كنت أرى باستمرار الحلم السخيف نفسه. فتحت الباب، فدخل معتمرا قبعة تقليدية من الصوف، كان يبتسم ابتسامة ساحرة لا تقاوم. كانت عيناه لوزيتين وحزينتين وسعيدتين في الآن نفسه، كأنه القائد مسعود نفسه”.
في أول لقاء للكاتبة مع رزا، تبخر كل ذلك الوجه الذي رأته في الحلم، فتقول “كان وجهه الحاد الزوايا يلمع من العرق. لو لم أكن أعرف أنه في الحادية والعشرين لقلت إنه في الأربعين”.
هكذا ومنذ اليوم الأول، واليومية الأولى، نخرج من إطار الجسد الطبيعي والمتخيل إلى الجسد الخاص الواقعي، الجسد المثقل بالتجارب التي لا تتناسب مع سنه، ومن هنا يأتي الاختلاف ويأتي أيضا مشكل التعرف على جسد اللاجئ والتعامل معه.
تكشف اليوميات يوما بيوم تفاصيل هذا الجسد وحركاته، فهو جسد منذور للهروب منذ هروبه الأول، فقد جاب هذا الجسد بلدانا كثيرة قبل أن يصل إلى فرنسا من أفغانستان، فيجيب عندما سأله الطفل ماريوس ابن الكاتبة كم دولة مر بها؟ بأنه خرج من أفغانستان إلى إيران ثم إلى تركيا واليونان وألبانيا ثم عبر أوروبا كلها حتى يصل إلى النرويج.
وبذكاء جعلت الكاتبة ابنها هو من يدير جلسة التعرف لتكشف فداحة العقل الأوروبي الغربي في تعامله مع اللاجئين ونظرته القاصرة لهم عندما يجيب الطفل “يا لحظك، أنت محظوظ جدا”، ففهم الطفل للبلدان التي يمكن أن يمر بها الإنسان هو فهم السائح لا اللاجئ الهارب أو ما وصفته به الكاتبة بأنه “رجل في حالة تأهب”، التأهب للهروب طوال الوقت، فهو مطارد دائما.
إن تعليق الطفل الفرنسي في القرن الحادي والعشرين، وهو يستمع لمعاناة اللاجئ الأفغاني، شبيه بتعليق ماري أنطوانيت ملكة فرنسا وزوجة الملك لويس السادس عشر على ثورة الجياع عندما قالت كلمتها الشهيرة “إذا لم يكن هناك خبز للفقراء، لماذا لا يأكلون بسكويتا؟”.
فأن نتحدث عن الحظ مع لاجئ فالأمر مخجل ومحرج، تقول الكاتبة: شعرت بقرصة باردة فوق رقبتي. يا له من إحراج أن نتحدث عن كلمة “الحظ” لكي نستحضر هروبا سريا تحت ظل الخوف الدائم.
تكشف اليوميات أن ذلك الجسد الهارب عندما دخل أوروبا لم ينتهكوه جسدا فقط، بل حتى روحا، فعندما تأخذه الكاتبة إلى أقرب مسجد من البيت لكي يمارس عبادته بحرية تكتشف أنهم حوّلوه عن ديانته الأصلية عندما أخبرها أنه مسيحي حديث وأنهم عمدوه في النرويج حتى إنها تقول “ما هو مؤكد أنه الأفغاني الوحيد من أب مسلم وأم مسيحية، وعمدوه في النرويج”. ولئن بدا لنا أن الكاتبة لم تتعمق في هذه النقطة حول قصة تحوله من دين إلى دين وهو لا يتقن اللغة النرويجية، هل كان ذلك باختياره أم استنادا إلى ديانة أمه؟ هل كان شرطا للحصول على اللجوء؟ ومع ذلك فالنرويج لم تمنحه اللجوء وظل هاربا مطاردا بمسيحيته واسمه الجديد.
تروي الكاتبة أن هذا الجسد اللاجئ الأصيل ظل طوال إقامته عندها ينفق أمواله على رفاقه من اللاجئين الذين تركهم تحت الجسر مشردين، فقد ظل لآخر لحظة في بيتها متضامنا مع أبناء الطريق مثله وأبناء الهروب، يأخذ لهم الأكل، ويعطي أموالا للذي يريد الرحيل وللباحث عن عمل وحتى لمن يريد أن يرسل أموالا لأهله، كل ذلك من راتبه البسيط حيث عمل منظفا في مدرسة.
في كل يومية تكشف لنا الكاتبة عن أمر جديد بخصوص هذا الجسد لتناقشه من جديد في ضوء ما نعرف عن أجسادنا. تقول في اليومية المؤرخة بـ20 فبراير/شباط وهي تتأمل في أجساد العائلة النائمة “أجسادنا البشرية، هياكلنا العظمية المتشابهة، الـ206 عظام المتطابقة أيضا، نتنفس، دمنا يسري في الشرايين، شعرنا ينمو في الوقت نفسه على جانبي الحائط. لكن جسد رزا، المستلقي على مقربة مني، يعرف ما لا يعرفه جسدي، إنه يعرف ماذا يعني الهروب، يعرف كيف يصبح جسدك ملجأك الوحيد، والعالم كله بكامله يصير جسدك الخاص”.
إن هذا الجسد الخاص عندما دخل البيت الفرنسي ظل طوال الوقت يمشي على أطراف أصابعه “لكي لا يقرقع ألواح الأرضية الخشبية”، ظل جسدا خجولا يمارسه حياته في الحد الأدنى لكي لا يزعج أحدا، حتى إن الكاتبة تقول إنها تريد أن تطرق بابه لكي تقول له تحرك بكل حرية وافتعل الضوضاء التي يقوم بها أي شخص يعيش في مكان ما.. “خذ حصتك كاملة من الضوضاء”. لكنه يظل جسدا محترما وخجولا حتى وهو يعود مخمورا ليلة عيد النيروز.
أوروبا القاسية وشبح مارين لوبين
لم تكن أوروبا رحيمة مع اللاجئين دائما، فالكاتبة تنتقد الفكر الأوروبي العنصري المعاصر في تعامله مع اللاجئين عندما تركتهم الدولة إلى مصيرهم بالشوارع وتحت الجسور في الحر والقر، بل إنها لم تتردد في وضع صخور كبيرة ناتئة لكي لا تستطيع تلك الأجساد الهاربة المنهكة أن تتمدد وأن تنام.
تقول الكاتبة في يومية 20 فبراير/شباط: سمعت من الراديو أن بلدية مدينة باريس وضعت الصخور تحت جسر المترو في محطة بورت دولا شابيل. الصخور قريبة جدا من بعضها بعضا بحيث لا يستطيع الناس الاستلقاء فوقها”.
إن أوروبا لا تعني لها شيئا كلمة مهاجر أو لاجئ إلا تلك “القمامة مجهولة المصدر” هذه “الكلمة الغائمة”. وفي مشهد درامي واللاجئ الأفغاني يحمل ورقة بالفارسية لا يفهم مضمونها يكتشف مع مضيفته الكاتبة أنها إعلان حقوق الإنسان والمواطن. تقول الكاتبة “يضع رزا إصبعه على الكلمات الثلاث التي تبرز في الجزء العلوي من الصفحة ويقرؤها باللغة الفارسية، ثم يترجمها إلى الفرنسية: الحرية، المساواة، الإخاء.
ـ “إنه الإعلان، قال رزا.
ـ إعلان حقوق الإنسان والمواطن، قلت، بصوت مليء بالدموع التي انهمرت دون سابق إنذار”.
ورغم أن أوروبا سلبت رزا دينه وجعلته مسيحيا وغيرت له اسمه وصار دانيال وقدمت له أوراقا تثبت أنه فرد صالح ووجوده قانوني، فإنه ما زال عندما يزور أحدٌ البيت يختبئ من النظرة، وعندما يذهب إلى العمل يعامل معاملة قاسية، فيحمل أكثر من طاقته ويشتم ويستغل لأنه لاجئ لينفجر وهو يروي ما حصل له “أنا لست كلبا”.
وكرد فعل على كل ما يجري وبعد سماعه خبر انتحار صديقة الكاتبة، يقول الأفغاني “توجد الحرب في وطني، لكن في بلدكم الحرب موجودة في رؤوسكم”. فأوروبا صارت قلقة ومهتزة وغير واثقة من نفسها. ويمكننا أن نفهم ذلك جيدا عندما نقرأ إشارات الكاتبة إلى التيار اليميني المتشدد المعادي للمهاجرين واقترابه من الوصول إلى الحكم.
تقول الكاتبة لأمها التي أخبرتها أن ابنها غير مرحب بالأفغاني ليسكن معهم لأيام ويستعمل حمامهم، “من غير المجدي قراءة صحيفة ليبراسيون على الشاطئ، إذا كان يجب أن يتصرف المرء بهذه الطريقة”.
وتضيف “لماذا لا نستضيف المهاجرين في بلدنا، في منازلنا؟ لماذا لا نرحب بهم في حماماتنا؟ لأننا نعتقد أن أوروبا لا تزال موجودة.. احتفلنا بالذكرى المئوية الثانية للثورة الفرنسية: التقينا في الساحة وقرأنا إعلان حقوق الإنسان والمواطن.. اليوم جرفنا التيار العنيف للنهر المعاصر الذي يهدر بأن عصر التنوير في أوروبا قد انطفأ”.
إن هذه اليوميات التي كتبها روائية وشاعرة مستعينة بالأدب الحميمي الذي يعطي تلك المصداقية للكلام حين يقربه من “الحكي الحقيقي”. ومركزة على تيمة اللغة الأم واللغة المستضيفة وإشكاليات الفقد والاكتساب. تدفع بالقضية والنقاش حول اللجوء واللاجئين نحو مناطق أكثر عمقا.
فقد نجحت إيميلي دو توركهايم عبر قدرتها الأدبية وأسلوب السخرية السوداء في تقديم تلك الهوة بين ثقافتين مختلفتين، ثقافة فرنسية أوروبية مطمئنة ثابتة ومستقرة وعجوز شكلا، ومهتزة من الداخل بتيار فاشي استئصالي وعنصري ينمو في أحشائها، وثقافة لاجئة مطاردة بالرصاص والقنابل ومتأهبة للهروب طوال الوقت جاءت مستجيرة بقوانينها الإنسانية التي ترفرف بها أعلامها من بعيد.