سمير داود حنوش
لا أدري لماذا إستوقفني قطار الزمن في محطات ذكريات منسية ليجعلني أُشاهد من خلال نافذته صوراً من تلك الذكريات التي إختزلتْ كل معاني الوجود لتؤكد نظرية لاتقبل الجدال إن حماقات الحاكم ونزواته ستجعل الشعب يدفع ثمنها بالتأكيد.
بعد منتصف ليلة السادس عشر على السابع عشر من كانون الثاني عام 1991 كان العراقيون يترقبون بقلوبٍ خائفة وقلقة إنطلاق صافرات الإنذار وهي تُعلن بدأ الحملة العسكرية التي قادتها أمريكا وجيوش حلفائها المتكون أكثر من ثلاثين جيشاً في حربٍ ضد العراق سُميّتْ بـ(عاصفة الصحراء) وأسماها العراقيين آنذاك (أُم المعارك) وهو قرار أُممي أُتخذ لردع العراق بعد غزوه لدولة الكويت.
بدأ الهجوم بعد مُنتصف الليل بأسراب من الطائرات المتعددة الجنسيات فوق أجواء بغداد، لتتحول هذه المدينة الى كتلة من الجحيم تنتشر على أرضها الأنفجارات والحرائق وأصوات القصف وأزيز الطائرات، إستهدف هذا القصف كل شيء له معنى في الحياة، قصفوا محطات الماء، الكهرباء، ومؤسسات الدولة، وكل هدف ثابت ومتحرك بل حتى صافرات الإنذار لم تسلم من ذلك القصف.
في تلك الليلة تحولت بغداد إلى جحيم أو مشهد من حرب النجوم. ساعات ويتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر على هذه الأرض الملتهبة، لم يُمهل هذا الفجر سكان بغداد فرصة للتفكير أو التمعن بما يحدث، فكان قرار أغلب سكانها هو المغادرة وترك منازلهم خِشية إستهداف الطيران المعادي لهم، وخوفاً على حياتهم خصوصاً إن بغداد تحولت الى مدينة خراب ودمار حيث لا ماء ولا كهرباء وإختفى أي مظهر من مظاهر الحياة وهكذا إنتقلتْ أغلب العوائل إلى محافظات جنوبية أو شمالية أو وسطى، فيما فضّل القليل منهم البقاء في منازلهم لإعتقادهم أن الأجل إذا جاء فإنه لايتأخر عنهم ساعة ولا يتقدم، أو ربما لأنه ليس لديهم مأوى غير بيوتهم.
كانت بغداد تتحول إلى مدينة أشباح بعد غروب الشمس حيث يستقر الناس في مخابئهم وتتناهى الى مسامعهم أصوات الأنفجارات وهم يقضون لياليهم الظلماء الشديدة البرودة على أضواء الشموع والفوانيس، حيث كان يعتقد البعض أنه من الخطر إستعمال (الكشاف الضوئي) أو (اللايت) بأعتباره سيكون هدفاً لقصف الطائرات الذي كان يستهدف أي بقعة ضوء، ولهذا كانت بغداد تعيش في ظلامٍ دامس، أما وسائط النقل فكانت شبه معدومة أو مُعطلة تقطعتْ بها أوصال المدينة لأن القصف أستهدف كل محطات الوقود لهذا كان التنقل بالسيارات أمراً شبه مستحيل.
من يقرأ هذه السطور سيقرّ ويعترف أن الزمن قد توقف وهو فعلاً كذلك..كان البغداديون يُتابعون الأخبار والأحداث ومايجري من خلال جهاز (الراديو) الذي كان وسيلة الأتصال الوحيدة بالعالم الخارجي، وبالرغم من كونه الوسيلة الوحيدة للتواصل كان بعض المُتفيقهين والعُقلاء من العائلة ينصحون بعدم إستخدام هذا الجهاز كثيراً خوفاً من رصد الطائرات لذبذبات أو ترددات هذا الجهاز حيث كان من الممكن إعتبار البيوت هدفاً حيوياً للقصف حسب رأي عُقلائُنا، وبالقرب من منازلنا كانت هناك مدارس إستخدمها الجيش كثكنات عسكرية كُنا ننظر إليهم بعين الخوف والرِيبة وربما ببعض الحقد لأتخاذهم هذه الملاجئ القريبة من بيوتنا مقراً لهم، لكن في المُحصلة كُنا نُشفق عليهم حيث لاذنب لهم فيما يحدث.
الكثير مما عاش هذه الأحداث غادر الحياة لكن صور تلك الأحداث وذكرياتها لم تغادر مخيلة وعقول الباقين.
شعب كان دوماً يُذبح قُرباناً لنزوات حاكمٍ سابق وربما لحاكمٍ جديد، قوم دائماً يتركون القدر يتحكم بمصيرهم وليتهم يعرفون إلى أين يأخذهم ذلك المصير.