كل كتاب يصدره الكاتب والصحفي والروائي البريطاني مات هيغ (1975) تتلقاه الصحافة المحلية والدولية بترحاب كبير، وسرعان ما يُترجم إلى لغات عديدة حتى قبل وصوله إلى قائمة الأكثر مبيعا. وهذا ما سبق أن حدث مع كتبه السابقة مثل “نادي الآباء الموتى” أو “كيف تُوقف الزمن؟” -ترجمه إلى العربية كنان القرحالي- أو “أسباب للبقاء حيا” الذي ترجمه سابقا إلى العربية محمد الضبع..
والمراجعات التي رافقت صدور كتابه الأخير “ملاحظات حول كوكب متوتر”، الذي صدر في بريطانيا عام 2018 وأصدرته حديثا باللغة العربية دار كلمات بترجمة محمد الضبع، ذهبت إلى مدح هذا الكتاب، ونصحت القارئ باقتنائه وقراءته.
فقد كتبت الصحيفة البريطانية “ذا ميل أون صاندي” (The Mail on Sunday) بأنه كتاب “ساحر”، في حين قالت عنه الممثلة والكاتبة والناشطة الأميركية البريطانية روني واكس إنه “كتاب عبقري”.
ومدحته كذلك المذيعة البريطانية فيرن كوتون قائلة إنه “جميل وصادق وحكيم”. أما الطبيب والكاتب آدم كاي -صاحب كتاب “هذا الكتاب سيؤلمك” وهو من الكتب الأكثر مبيعا حين صدوره- فوصف هذا الكتاب بأنه “دليل المستخدم الكامل للاعتناء بالعقل”.
بساطة وعمق
يندرج هذا الكتاب ضمن صنف الكتب “غير الروائية”، ووفق المصطلح الإنجليزي “Non Fiction”، والتي تلقى رواجا كبيرا في أوروبا وأميركا، وكذلك في أستراليا ودول آسيا المتقدمة في صناعة الكتب، ولها قسمها الخاص في قوائم الأكثر مبيعا.
إحدى ميزات هذا الكتاب وكتب هيغ السابقة وكتب هذا الصنف أنها مكتوبة بلغة بسيطة وغير نخبوية، ربما لأنه يفكر أثناء كتابته في أوسع شريحة من القراء، وليتابع أي كتاب له صعوده في قائمة أكثر الكتب مبيعا. ولغة هيغ هذه لا تختلف في بساطتها عندما يكتب رواياته الموجهة للأطفال، التي نال عن بعضها العديد من الجوائز.
بهذه اللغة البسيطة -التي لن تُعجب الكتاب والنقّاد النخبويين- يُقدم كتابه الجديد، متحدثا عن تجربته الشخصية مع الاكتئاب والقلق وكذلك مع نوع غريب من النوبات، وهو “نوبة الفزع في السوبرماركت”.
يمزج هيغ هذه اللغة البسيطة مع الكثير من الأقوال العميقة لفلاسفة وكتاب معروفين، وكذلك يستخدم ما توصلت إليه الأبحاث والاستطلاعات التي تجريها مراكز محكمة من نتائج في دراساتها واستبياناتها حول المواضيع التي يذهب إليها الكتاب.
قسّم مات هيغ الكتاب إلى 17 قسما، يبدأ من قسم “متوترون في عالم متوتر”، وينتهي بقسم “ذاتُكَ تكفي”. وخلال كل قسم يقدم هيغ عدة مقاطع لتوضيح الموضوع الذي يكتب عنه. وخلال ذلك يُقدم تجربته مع الموضوع وكذلك قوائم بنصائح للقراء الذين قد يُعانون من هذه المشكلة أو تلك.
حمولة زائدة
يجد هيغ أن الحياة صارت متقدمة بسبب التقدم العلمي والتقني، وعلى الرغم من توافر هذه التقنيات لدى الناس، وأن وظيفتها هي السرعة واختصار الوقت والتكاليف، فإن الناس يجدون أن لا وقت لديهم، ولا ينجزون كما كانوا ينجزون في وقت مضى من دون تقنيات، وأن الحياة صارت أقصر بكثير بالمقارنة مع الحياة التي كانت تفتقد هذه التقنيات، بل صارت هناك مشاكل كبرى.
فـ”أغلب الناس يعلمون أن للعالم المعاصر تأثيرا خطيرا علينا نحن البشر. ويعلمون أنه على الرغم من التقدم الصناعي والتقني، فإن هناك عناصر خطرة في الحياة المعاصرة قد تودي بحياتنا. حوادث السيارات، التدخين، تلوث الهواء، الحياة الكسولة على الأرائك، طلب البيتزا عبر خدمات التوصيل، الإشعاعات”.
يقدم هيغ تجربته مع القلق. قلقه الذي فاقمته التقنية من حوله وبين يديه. “كنتُ أعاني من حمولة زائدة في حياتي. حمولة زائدة من التقنية”، يقول مات هيغ لقرائه.
ولكنه بدأ بالتحسّن تدريجيا عندما تخلى عن كل التقنيات التي كانت توتّر أعصابه وتتلف نظره، “أصبحت الأجهزة التقنية الوحيدة التي أتعامل معها في تلك المرحلة هي السيارة، وأجهزة الطبخ، ومقاطع اليوغا على يوتيوب التي كنتُ أشاهدها مع خفض سطوع الشاشة”.
الألم أفضل معلم
يتابع هيغ شرح نوبات قلقه للقارئ، وهو ما يُقرّب الكتاب للجمهور أكثر، فيستنتج أن هناك فرقا كبيرا بين الشعور بالقلق وبين الإصابة بمرض القلق. ويشبه ذلك بالفرق بين الشعور بالجوع وبين العيش في مجاعة.
فـ”الأشياء التي تجعلني أشعر بالقليل من التوتر وأنا بصحة جيدة، هي ذاتها التي تجعلني أشعر بالكثير منه وأنا مريض. وما أكتشف أنه يؤلمني في مرضي، يمكنني تجنبه عندما أشعر بالتحسّ. الألم أفضل معلم”.
يقدم هيغ مقاطع على شكل أسئلة محفّزة للتفكير مثل سؤاله هذا: كيف تحافظ على كونك إنسانا في عالم يتغير باستمرار؟ إذ يجد المختصون أن التغيير المفاجئ والشديد في حياة شخص ما قد يكون عاملا مهما لظهور المشكلة. وغالبا ما يرتبط التغيير بالخوف. ويطرحون حالات وأمثلة كثيرة مثل الانتقال إلى منزل جديد، أو خسارة وظيفة ما، أو الزواج، أو الوصول لسن الأربعين، أو انخفاض الدخل وارتفاعه، بل يجدون أن التغيير الإيجابي أيضا قد يسبب صدمة لذلك الشخص.
ولكن هيغ يجد أن التغييرات تحدث أيضا من حولنا، وتسبب صدمات شديدة على نطاق أوسع ولشرائح أكبر. ويجد أن التقنية -بدءا من اكتشاف النار أو العجلة أو الكهرباء أو الطابعة- هي التي غيّرت حياة البشر، وأن “التغيير في التقنية الحديثة هو أكبر عوامل التغيير التي نستطيع ملاحظتها في عالم اليوم”.
يذهب الكتاب إلى المشاكل التي أتت بها التقنية معها مثل مشاكل التغذية والرضا عن الجسد والمظهر الخارجي، والصدمات التي يصنعها إنستغرام مع مشاهدة أجساد قد تُشعر المشاهد بعدم الرضا، وربما بالعار من جسده. وكذلك القلق بسبب ردود الفعل حول تغريدة في تويتر، أو الغرق في الوحدة بالتخلي عن الحياة الحقيقية لصالح الحياة الافتراضية.
من بين جميع التحديات التي نواجهها في هذا القرن، يستطرد مات هيغ، هو أنه بينما ننصهر أكثر وأكثر في التقنية من حولنا، قد يكون أهمها: كيف بإمكاننا الحفاظ على إنسانيتنا في خضم هذا العالم الرقمي؟ كيف بإمكاننا التمسك بذواتنا ومقاومة خسارتها؟
أزمة النوم ومحاربوه
من الفصول الممتعة في هذا الكتاب هو ذاك الفصل الذي عنونه مات هيغ بـ”فصل قصير عن النوم”. فبعد أن يتحدث عن أهمية النوم لصحة جسد الإنسان وعقله وروحه، والخراب الذي نحصل عليه من دونه، يجد أن هناك “حربا ضد النوم”، وأنها بدأت منذ اختراع توماس أديسون لأول نموذج من المصباح الكهربائي.
لكن الأمر تفاقم في العصر الحديث لأن النوم كان ويظل “عدوا تقليديا لثقافة الاستهلاك”. فنحن لا يمكننا التسوق ونحن نائمون، كما لا يمكننا الكتابة على تويتر أو الرد على البريد الإلكتروني أو مشاهدة صور ومقاطع إنستغرام. ولكن الشركات صارت تربح حتى من النوم، فصار النوم نفسه سلعة قابلة للتسويق، بعد أن كثرت عيادات ومراكز النوم، حيث يقوم الناس بدفع المال للحصول على نصائح تساعدهم على النوم بشكل أفضل.
الرئيس التنفيذي لشركة نتفليكس (Netflix) ريد هاستينغز يعتقد أن أكبر منافس له هو النوم وليس القنوات التلفزيونية الأخرى أو شركة أمازون (amazon) أو أي شركة أخرى تقدم المشاهدة عبر الإنترنت. ففي مؤتمر للصناعة في نوفمبر/تشرين الثاني 2017 في لوس أنجلوس قال “فكروا بالأمر، عندما تشاهدون مسلسلا على نتفليكس وتصابون بالإدمان عليه، بإمكانكم السهر طوال الليل لمشاهدته.. إننا نتنافس مع النوم. وهناك قدر كبير جدا من الوقت نقضيه ونحن نائمون”!
وهكذا هي الحال في فصول باقي الكتاب التي قد تشكل أبحاثا ومواضيع جديدة للقارئ العربي. والسؤال الذي قد يطرحه أحدنا على نفسه من مثل ماذا نتعلم أو نستفيد من مثل هذه الكتب؟ يجيب عنه مات هيغ بنفسه عندما حيث يكتب: إن كان مدّ المجتمع يجذبنا لاتجاه واحد فإنه من الممكن لنا -إن كان ذلك الاتجاه يُضاعف من شعورنا بالتعاسة- أن نتعلم كيفية السباحة للاتجاه المعاكس. أن نتعلم السباحة باتجاه أنفسنا الحقيقية. وعلى هذا الأمر تعتمد نجاتنا.