منقذ داغر
ترى إيران في حكومة ديمقراطية ناجحة في العراق تهديداً لوجودها.
لم يعد خافياً أن الرأي العام العراقي ومنه الرأي العام الشيعي بات مقتنعاً أن إيران تلعب دوراً سلبياً في العراق، وأنها فقدت قوتها الناعمة المتمثلة بكونها نموذجا يحتذى به للاسلام السياسي الشيعي. فطبقاً لآخر استطلاعات الرأي فإن أكثر من 85% من العراقيين، بضمنهم82% من الشيعة يقولون أن إيران تلعب دوراً سلبياً في العراق. وأن 18% فقط من العراقيين عموما، و23% فقط من الشيعة يعتقدون أن إيران تمثل شريكا موثوقا للعراق.
وعلى الرغم (كما يبدو) من أن هناك تياراً متصاعداً داخل إيران (الدولة وليس الثورة) ممن بات يدرك أن فقدان القوة الناعمة لإيران في العراق وفي المنطقة نتيجة السياسات الإيرانية الثورية خلال العقد الماضي قد فاقم من متاعب إيران الخارجية والداخلية، إلا أن التيار الثوري ما زال يدفع بإتجاه مزيد من السياسات المتشددة والمبنية على فكرة المقاومة الإسلامية ضد إسرائيل وأمريكا وأعوانهما في المنطقة.
إن هذا التيار الذي يستمد شرعية بقاءه وهيمنته على المقدرات الاقتصادية والسياسية لإيران، من فكرة تصدير الثورة الايرانية لا يمكن أن يقبل بفكرة تحول إيران إلى دولة تهتم بشأنها الداخلي وتحرص فقط على رعاية مصالح شعبها دون تدخل في شؤون الآخرين. فإيران التي ما زالت بعد أكثر من أربعين سنة تتغنى بمصطلح الثورة الإسلامية، وإيران التي تبنت رسميا مفهوم تصدير الثورة، أسست كل نظامها السياسي على فلسفة ولاية الفقيه. إن هذه الفلسفة الدينية لم تكن حجر الزاوية في نظام إيران السياسي الداخلي فحسب بل كانت هي المرشد والملهم لسياساتها الخارجية بخاصة ضمن نطاق مجالها الشيعي الحيوي سواء في المنطقة أو العالم.
بناءً على ذلك يخطئ من يعتقد أن سبب التدخل الإيراني في العراق تحديدا هو فقط لحماية المصالح الإيرانية الحيوية في الساحة الخلفية لإيران، أو أن إيران تسعى فقط لتجنب تعافي العراق مما أصابه بعد مغامرة احتلال الكويت وما أعقبه من حصار ثم احتلال قوضا كل أركان الدولة العراقية وجعلاها عاجزة عن تشكيل أي تهديد، أو حتى منافسة لطموحات إيران الثورة في المنطقة. وعلى الرغم من وجاهة هذين السببين (خدمة المصالح الإيرانية، والإبقاء على عراق ضعيف) في تحريك وتوجيه السياسة الإيرانية في العراق، إلا أنني أعتقد ان هناك سبباً أهم في إدامة القبضة الإيرانية على عنق السياسة العراقية طيلة السنوات السبعة عشر الماضية يتمثل بالانموذج العقائدي الديني للحكم في إيران.
لقد ابتكر الإمام الخميني نظام ولاية الفقيه الذي يجعل من المرجع الديني الشيعي الأعلى نائباً للإمام الغائب ووكيلاً عنه، وتبنى الدستور الإيراني هذا المفهوم الذي تأسست عليه الجمهورية الإسلامية الإيرانية بعد ثورة 1979. وبذلك باتت الثورة التي يراد تصديرها للشيعة في العالم هي ثورة إسلامية عقائدية مبنية على مفهوم ولاية الفقيه، وبما يجعل المرشد الأعلى في إيران نائباً عن الإمام الثاني عشر لكل شيعة العالم وليس فقط شيعة إيران. إن ذلك يستلزم تبعاً أن تصبح قم والتي هي المعقل الروحي للمرشد الأعلى، المرجعية الأعلى للشيعة في العالم. هنا بالذات يقع التصادم الفكري والعقائدي مع المرجعية الدينية للشيعة في النجف والتي ترى أن ولاية الفقيه هو ليس إجتهاداً فقهياً يتحدى الثوابت الفقهية الشيعية فحسب وإنما هو تحدياً كبيراً لمكانة وسلطة مرجعية النجف الروحية وحتى الاقتصادية في العراق والعالم.
وبما أن الجمهورية الإسلامية الإيرانية مثلت الأنموذج الأول لحكم الاسلام السياسي الشيعي في العصر الحديث والتطبيق الفعلي لمفهوم ولاية الفقيه، فقد كانت إيران وما زالت تأمل أن يكون نظامها السياسي هو الأنموذج الذي يتم تبنيه من قبل شيعة العراق بعد أن تسنى لهم استلام دفة قيادة النظام السياسي في العراق بعد 2003. إلا أن ظروف نشئة وتكوين النظام السياسي في العراق بعد 2003 وطبيعة تكوين المجتمع العراقي لم تجعل هذه الأمنية الإيرانية ممكنة التحقق في العراق. وعلى الرغم من كل خطايا التأسيس، الا ان النظام السياسي في العراق لم يتبن أنموذجا أسلامويا للحكم.
إن الطبيعة العلمانية، أو على الأقل غير الدينية، التي تأسس عليها النظام السياسي العراقي بعد الإحتلال باتت تشكل تهديداً عقائدياً ووجودياً للثورة الإسلامية الإيرانية ونموذجها المتمثل بولاية الفقيه. فنجاح التجربة غير الدينية في العراق وبقيادة شيعية يخلق أنموذجاً مغرياً للشيعة في العالم، وفي مقدمتهم شيعة إيران. إن التعدد الأثني والديني للشعب الإيراني فضلاً عن عمق فكرة فصل الدين عن السياسة في إيران قد تجعل نجاح أنموذج شيعي غير ديني للحكم في العراق مغرياً، وبالتالي مهدداً للأساسي الذي بُني عليه نظام الحكم الإيراني بعد ثورة 1979.
لذلك فإن فشل تجربة الحكم في العراق والمبنية على فكرة الديمقراطية والمواطنة المتساوية يبدو عاملاً إضافياً يرجح فكرة استمرار التدخل الإيراني السلبي في العراق.فللنظام الايراني مصلحة حقيقية في فشل تجربة الحكم التي يقودها الشيعة في العراق توازي وتساوي مصلحة الاسلام السياسي السني في فشل تجارب الحكم الليبرالية والديمقراطية في الدول الاسلامية.واذا كان الاخوان المسلمون قد تبنوا شعار “الاسلام هو الحل” للرد على الاخفاقات المتكررة والحكم غير الرشيد في الدول السنية، وبالتالي تمكنوا من خداع شعوب تلك الدول والوصول للحكم في بعضها،فأن أيران الثورة ومنذ 1979 تطرح شعار “ولاية الفقيه هو الحل” لاقناع شيعة العالم بأنموذجها الاسلاموي الخاص.
إن إدراك هذه الحقيقة من قبل كل اللاعبين السياسيين الذين سأموا من التدخل الإيراني في الشأن العراقي يفرض عليهم مقاربة مختلفة في التعامل مع ملف التدخلات الإيرانية في المنطقة والعراق. وسواء كان هؤلاء اللاعبين، عراقيين أو عرب أو حتى دوليين فإن عليهم أن يعززوا من إمكانات وقدرة شيعة العراق (غير الولائيين) على تبني أنموذج حكم مدني يحمي المذهب من تدخلات السياسة من جهة ويجنبهم الوقوع في شرك الحكم الطائفي من جهة أخرى. أن حجر الزاوية في ذلك يكمن في الكف عن التعامل مع كل شيعة العراق على انهم (غير وطنيين) أو (معادين للعروبة) أو (تابعين لإيران). كما يجب وقف التعامل مع العراق باعتبار أنه أما يكون مع المحور الإيراني أو يكون مع المحور المعادي له.
أن تحويل العراق لساحة صراع لتقويض النفوذ لايراني فيه وفي المنطقة هو حل سلبي ولن يؤدي الا لاظهار النظام الايراني كنظام مدافع عن المذهب الشيعي في وجه الطغيان السني والامبريالي الامريكي والصهيوني. إن المقاربة البايجابية البديلة والمتمثلة بخلق عراق متطور ينعم مواطنوه جميعاً وبغض النظرعن خلفياتهم بكل حقوق المواطنة ويتمتعون فيه بمستويات تنمية بشرية وإقتصادية عالية هو الضمانة الرئيسة لوقف التمدد الإيراني وإظهار ان بإمكان الشيعة أن يحكموا على وفق أنموذج غير ديني يجعل المواطنة لا الدين والطائفة هي الأساس في إقامة دول العدل والمساواة والرفاه التي ينادي بها الجميع بما فيهم الإسلام الحقيقي