يتابع الروائي المصري وحيد الطويلة مشروعه الروائي في شرح تفاصيل الاستبداد، في روايته الأخيرة الصادرة حديثا عن دار الشروق المصرية بعنوان “جنازة جديدة لعماد حمدي”. ولكن هذا الاستبداد لا يعني فقط “استبداد رأس السلطة” أو الدكتاتور، بل رجال المباحث والأمن بمختلف رتبهم ووظائفهم، الذين يملكون سلطات واسعة تتضمن كذلك التعذيب حتى الموت أو الإعاقات الجسدية والنفسية، كما كان حال روايته السابقة “حذاء فلليني”.
في روايته الجديدة، هناك حدث رئيسيّ عادي هو ذهاب ضابط المباحث إلى عزاء ابن أحد أشد المسجلين خطرا. الرواية التي تجري في 300 صفحة و30 فصلا، تبدأ من الذهاب للقيام بواجب العزاء، وتنتهي عند قيامه بتعزية “ناجح” والد “هوجان” الذي قتله أحد أعدائه، والقاتل بقي مجهولا.
فجنون
ضابط المباحث لا نعرف اسمه، ولكن نعرف الألقاب التي أطلقت عليه من قبل زملائه؛ فهو شخص رسام دخل الشرطة رغما عنه، وبضغط من والده اللواء المتقاعد الذي كان يتمنى أن يُكمل أحد ولديه طريقه في السلك. لكن الابن الأكبر نفذ بجلده وهرب إلى هولندا وتخلص من ضغط والده، بينما رضخ الرسام وذهب في طريق لا يريدها.
لا نعرف اسم الضابط، ولكن زملاءه أطلقوا عليه لقب “الفنان” تارة، على سبيل السخرية، وتارة “مجنون”، وتارة أخرى “فجنون” بنحت اسم يجمع الفن والجنون.
هذا الحدث الرئيس العادي المتمثل بذهاب الضابط فجنون -الذي أحيل إلى المعاش قبل أشهر- إلى عزاء “ناجح”، يعني الإضاءة مباشرة على الشخصيتين الرئيسيتين في هذه الرواية. فناجح لم يكن “مسجلا خطرا على طول الخط، بل كان المرشد الكبير لك، المصنّف رقم واحد، مخبر الحكومة، بيضة النعامة التي وجدتَها أسفل مكتبك، أهداك مفتاح الحل في قضايا كثيرة، أنقذك من الموت مرة، وكاد يودي بك مرات”.
هذا الوصف لناجح في الصفحات الأولى من الرواية سيقوم وحيد الطويلة بتمديده بماء السرد طوال فصول كثيرة؛ لكي يعرف القارئ من خلال قصص كثيرة: لماذا كان ناجح مسجلا خطرا، وكيف أصبح مخبرا للحكومة، وكيف توثقت علاقته بضابط المباحث، وكيف أنقذ الضابط مرة وكاد أن يودي به مرات، وكيف كان يستطيع حل ألغاز الجرائم، وتقديم أسماء من يقوم بجريمة طازجة خلال دقائق لذلك الضابط “فجنون”؟
وإذا كان لا يعرف من الذي قام بالجريمة التي حصلت، وذهب الضابط من أجل حلّها إليه -أي إلى ناجح- فإنه يتبرّع بتقديم من يعترف بهذه الجريمة، وذلك من أجل ألا يُلام الضابط في عمله، أو يصاب بخيبة الأمل منه، ويبقى ناجحا في القبض على المجرمين!
جمهورية المسجلين خطرا
ليس ناجح فحسب من يتم تقديم عالمه الغرائبي داخل هذا العمل، ولا أعضاء جمهوريته من عتاة المسجلين خطرا، ومن المتدربين الجدد في هذه المهنة، بل هناك شخصيات كثيرة يتم سرد حكاياتها خلال ذلك. ومنهم من يمرّ عليهم وحيد الطويلة وهم في مجلس عزاء رئيس جمهورية المسجلين خطرا، فيُقدّم للقارئ حكايات بعضهم.
يستخدم وحيد الطويلة نوعين من الرواة في هذه الرواية: الأول هو الراوي العالم الذي يتحدث “مع” ضابط المباحث وليس عنه فحسب، فيدلّه على بعض الموجودين حول ناجح في مجلس العزاء، أو الجالسين على كراسي السرادق وهم يشربون البيرة ويتعاطون الحشيش! ليحدّثه -ويحدثنا كقرّاء- عن بعض تلك الشخصيات وحكاياتها. وهي حيلة من الروائي لإطالة طريق ضابط المباحث على باب العزاء، وهذه الحيلة الروائية قد يراها البعض “تأليفا” من صاحب رواية “ألعاب الهوى”، ولكنها في كل الأحوال لم تثقل على العمل، بل زادته متعة وغرائبية.
بل إن حكاية شخصية مثل “أم حواء” يمكن أن تتحول إلى رواية كاملة ومثيرة في غرائبيّة الشخصية نفسها، وكذلك في غرائبية وتعدد حكاياتها. وهذا الأمر ينطبق كذلك على شخصية “آيات” أو شخصية “شحتة” أو شخصية “خنوفة” أو شخصية الابن المقتول “هوجان”، ولي عهد ملك المخبرين. إذ يمكن لوحيد الطويلة أن يحولها إلى روايات، وهذا ما يخفف أو يزيل فكرة التأليف المقصود.
عبقرينو
لا يقدم ناجح فقط الحلول لضابط المباحث، بل كذلك عبقرينو، وهو شخص لم يدخل كلية الشرطة ولا أية كليات أخرى، بل يتبرع بخدماته وحياته لمساعدة الضابط لمعرفة تفاصيل الجريمة ومرتكبيها. وفي الرواية يقول الضابط “فجنون”، الراوي الثاني في سرد تفاصيل الرواية: “أتخيّل الآن، الجزء اللاسع في دماغي هو ذاته الملسوع في دماغ عبقرينو، كنتُ أربطه بالواقعة كأنها ملكه، أضيء له الكشافات فيصبح هو مَن يرى، أشحن له بطارياته، أعطيه دورا، دور الفتى الأول في الفيلم، نعم، كنا نتعامل مع أية قضية كأنها فيلم سينمائي، أنا أعرف الموضوع الأساسيّ في الفيلم، لكن هو صاحب التفاصيل الصغيرة، لا يترك تفصيلة، هو المونتير الذي يختصر اللقطات الزائدة (..) وحين نخرج معا أرى واحدا آخر، أرى إحساسه بذاته يفيض على الأرض”.
لغة وسطية
مجتمع واسع يدخلنا إليه وحيد الطويلة بسرده السلس، وكذلك بحواره مع القارئ، وتنبيهاته له، بل بإعطائه حتى حرية وضع عنوان آخر للرواية. وخلال بنائه للشخصيات، يدخل إلى أعماقها ويتحدث بلغتها وأغانيها وشتائمها وضغائنها، لذلك استخدم الطويلة كلمات أغان، ربما هو مؤلف الكثير منها. وكذلك أبياتا عامية تخص أصحاب الجرائم والمخدرات، وفي طريقه لذلك نتعرف حتى على الأسماء الغريبة التي يطلقها الباعة على أصناف الحشيش والحبوب المخدرة.
“يخرب بيتك يا كيف ويخرب بيت معرفتك، صحيح دمك خفيف بس يا ريتني ما عرفتك”. مثل هذه الجمل نعثر عليها بكثرة في عمل الطويلة هذا، وكأنه يستخدم لغة وسطية بين الفصحى والعامية ليكون عمله أكثر حرارة وقربا من القارئ.
ابتكار الفكرة
الطريق الآخر الذي يستخدمه صاحب رواية “أحمر خفيف” في هذه الرواية -وهو الرئيسي وليس العادي- هو تلك الفكرة الغريبة التي يطرحها وحيد الطويلة، وهو وجود أشخاص عاديين أو مسجلين خطرا يحلمون بأن يكونوا ضباط مباحث، بل إن كثيرا منهم لا تتوقف أحلامهم على أنها مجرد أحلام ويتابعون حياتهم العادية أو الخطرة، بل يقومون فعلا بتشكيل دوريات وحواجز ويجازفون بأنفسهم لإلقاء القبض على مجرمين آخرين.
وعندما يتم إلقاء القبض على أحد هؤلاء الضباط المزيفين، مع فريق المداهمة الخاص به، بعد أن يكونوا قد قبضوا على أحد مهربي المخدرات ومعهم ما صادروه، من قبل دورية مباحث حقيقية، لا يشعر الضابط المزيف بالخوف؛ بل يقول لهم إنه زميلهم وكان في مهمة أمنية، ويُريهم المواد المصادرة والمجرمين الذين ألقى القبض عليهم!
وحتى خلال التحقيق مع ضابط مزيف من هؤلاء، يظل مصرّا على أنه ضابط حقيقي، رغم أنه لا يملك ما يثبت ذلك. ومن كثرة انزعاجه يصرخ بالمحققين: “أنتم المزيّفون وليس أنا!!”، فالأمر بالنسبة لهؤلاء ليس وظيفة “بل غواية. ولا أحد يعرف متى تتوقف الغواية”.
هذه الفكرة ربما يكون وحيد الطويلة سباقا فيها، وإذا كانت كذلك فهي تسجّل باسمه، لأن الرواية بحد ذاتها هي اختراع فكرة يُشار إلى صاحبها بالذات. وهي فكرة وجود هذا المجتمع الموازي لضباط المباحث، بوجود ضباط مباحث آخرين، مزيفين، يقومون بمهماتهم بإتقان وانتحارية أيضا، من دون قلق أو خوف. إنهم ينتحلون شخصية الضابط ثم يبرعون في عملهم أكثر من الضابط نفسه.